في هذا الحوار، يتحدث الناقد والباحث السينمائي الجزائريبغداد أحمد بلية، عن السينما الجزائرية ومسيرتها خلال 60 عاما من الاِستقلال وعن صورة الثورة في هذه السينما ومدى محاورتها وقائع وواقع المجتمع، لاسيما ما بعد الاِستقلال. كما يتناول أيضاً، سينما الهجرة والمهاجرين التي تطرح أسئلة مربكة مثل هاجس الاِنتماء والهوية والجذور. الشعب ويكاند: ما الّذي يمكن أن تقوله عن السينما الجزائرية وعن مسيرتها خلال 60 سنة من الاِستقلال؟ بغداد أحمد بلية: الجزائر كانت من الدول الإفريقية والعربية المُتأخرة في الحصول على اِستقلالها، وبالرغم من خضوعها لقيود اِستعمارية كبحت الطموحات في التعبير بأشكال فنيّة عمّا يختلج في صدور مبدعيها، إلاّ أنّ لحظة تشرب الاِستقلال في قلوب الجزائريين كان دافعًا قويًا لثورة فنية وسينمائية جديدة تُضاهي ثورة التحرير. وكيف كانت صورة هذه الثورة في السينما الجزائرية؟ بالفعل فقد عرفت الجزائر بعد اِستقلالها حركة سينمائية مُميزة، وهي البلد الّذي حُرِم من ممارسة حريته الإبداعية أكثر من قرن ونصف من الاِستعمار. وكان طبيعيًّا أن تُثار القضايا المُتعلقة بثورة التحرير الجزائرية نظراً لقرب العهد بها، فارتبط الواقع الآني مع الماضي القريب، في لحظة تمازج تام، فالاِستقلال هو نتاج الثورة. ولا غرابة أن نجد أوّل فيلم بعد الاِستقلال يُعالج نتائج الثورة عند مجموعة أطفال يتامى لما يزالون يحيون الثورة عن طريق لعبة الثوّار، مِمَا سيؤدي بهم إلى قتل أحدهم بحجة أنّه يرمز في لعبة الحرب إلى خائن للثورة، وكان هذا في فيلم جاك شاربي «سلم فتيّ» 1964. وتبعه مباشرةً فيلم مصطفى بديع «الليل يخاف من الشمس» 1965، الّذي يُعدُّ ملحمة تاريخية صورت الأحداث التي سبقت الثورة والأحداث التي عاشها الجزائريون أثناء الثورة. ومصطفى بديع نتاج التلفزيون الجزائري قبل وبعد اِستقلال الجزائر، فكان بفيلمه رائداً في السينما مثلما كان في التلفزيون. وهكذا توالت الأفلام وأغلبها عالجت موضوع الثورة الجزائرية وتأثيرها على الشعب الجزائري، وهذا شيء طبيعي، إذ كانت صورة الحرب لازالت ماثلة أمام أعين المبدعين والشعب عامة. وهذا ما دفع المجاهد ياسف سعدي، إلى أن يُدوّن تاريخ معركة الجزائر ثمّ يحاول نقله إلى الشاشة الكبيرة ليكون وثيقة تاريخية على عظمة الثورة الجزائرية، فكتب سيناريو فيلم «معركة الجزائر» وأخرجه الإيطالي جيلو بونتكورفو سنة 1966، ولقيَ الفيلم شهرة عالمية، كما تحصل على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية في إيطاليا نفس السنة، مِمَا دفع بالمخرجين الشباب آنذاك إلى متابعة تصوير أحداث الثورة وخفاياها، فكان فيلم «الطريق» لمحمّد سليم رياض 1966. وفي سنة 1969 يقدم توفيق فارس على إخراج «الخارجون على القانون» الأقرب إلى أفلام المغامرات منه إلى فيلم يُوثق لأحداث الحرب التحريرية. أمّا أهم فيلم نال شهرة جماهيرية فهو «الأفيون والعصا» لأحمد راشدي عن رواية للأديب مولود معمري وذلك سنة 1970. برأيك من هو أكثر مخرج أعطى للثورة في أعماله السينمائية حيزا أوسع وأولاها عنايةً أكبر؟ من أهم المخرجين الذين عاشوا ثورة التحرير وأولوها عنايةً كبيرة في أعمالهم السينمائية نجد محمّد لخضر حامينا، الّذي كان مصوراً في فيلم «جزائرنا» 1960 مع جمال شندرلي والدكتور الشولي. وفي السنة الموالية يُخرج فيلم «ياسمينة»1961 وكذلك «صوت الشعب» مع جمال شندرلي، ثمّ بعد ذلك «بنادق الحرية» 1960. أمّا في سنة 1966 فيتحوّل حامينا إلى الأفلام الخيالية الطويلة، وبالطبع موضوع الثورة التحريرية هو السائد، إذ يُخْرِج فيلمًا مُتميزاً «ريح الأوراس» ويظهر من خلاله قدرة كبيرة في التحكم في الإخراج السينمائي، مِمَا يدفع بلجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي إلى منحه «جائزة أوّل عمل» سنة 1966. ويتوجه بعدها إلى الكوميديا التهكمية دون أن يبتعد عن موضوع حرب التحرير مع «حسان طيرو» وهو في الأصل مسرحية كتبها رويشد، وكان ذلك سببًا في شهرته بين المشاهدين. ودائما مع الأفلام الحربية، يكتب لخضر حامينا سيناريو فيلم «ديسمبر» ويقوم بإخراجه. وفي سنة 1974 يصوّر فيلم «وقائع سنين الجمر» ودائماً في تيمة الثورة التحريرية، وقد كتب السيناريو بنفسه ومثل فيه وأخرجه. ويتحصل الفيلم على أكبر جائزة في المهرجان «السعفة الذهبية» 1975. وكان هذا التتويج اِعترافًا صريحًا بنضج وتفوّق السينما الجزائرية على الصعيد العربي والإفريقي والعالم الثالث، وفي نفس الوقت اِعتبر التتويج اِعترافًا ضمنيًا للمخرج لخضر حامينا بتميّزه في عالم الإخراج، وبخاصة من النواحي الشكلية الجمالية للفيلم، ويصبح بذلك أحسن السينمائيين الجزائريين. يبدو لأوّل وهلة، أنّ الفيلم ينحو منحى ملحميًّا على غرار «الليل يخاف من الشمس» لمصطفى بديع، الّذي كانت مدة عرضه ثلاث ساعات وربع، وقد قَسَّمَ المخرج وفي نفس الوقت كاتب السيناريو مصطفى بديع فيلمه إلى فصول تصور مراحل متعاقبة من تاريخ الجزائر السابق لثورة التحرير وأثناءها. في حين تميز لخضر حامينا عن غيره من المخرجين الجزائريين بأنّه يستقرئ التاريخ والواقع، فلا يعبر ولا يصور إلاّ ما يمر عبر ذاته وتاريخه وذكرياته، فقد سبق لفيلم ديسمبر أن أُنْتُقِدَ على طريقة طرح الرؤيا التاريخية المشبوهة. لقد أظهر لخضر حامينا من خلال فيلمه براعته في الإخراج والتحكم في جماليات الصورة، وقدرة فائقة في البناء الدرامي، مِمَا سمح له بنقل مسيرة شعب بأكمله على الشاشة. وهذا ما دفع المخرج التونسي فريد بوغدير إلى القول بأنّ الفيلم تجاوز الواقعية ليبلغ عتبة الأسطورة. هل يمكن تصنيف فيلم «وقائع سنين الجمر» ضمن الأفلام التاريخية؟ لا يمكننا أن نُصنّف فيلم «وقائع سنين الجمر» ضمن الأفلام التاريخية، لأنّ هذا النوع من الأفلام يُقيد حرية الفنان، ويجعله مُتمسكًا بحقيقة الوقائع، وكلّ خروج عنها يُعتبر تزييفًا للتاريخ، وهذا يقيد المخرج السينمائي ولا يترك له مساحة التعبير عن مواقفه الخاصة وإظهار رؤيته للوقائع التاريخية. ومن هنا كان تأكيد المخرج بأنّ الفيلم ليس نسخًا للتاريخ الجزائري، بل هو فيلم خيالي يُحاول من خلاله اِستنطاق التاريخ الجزائري ونقله إلى عالم الصورة والسينما، ولهذا يتقبل الفيلم كلّ الاِنتقادات، كونه عملا فنيا قبل كلّ شيء، وهو بهذا لا ينأى عن الواقعية التاريخية، ولكن يُحاول إعادة تشكيل التاريخ الجزائري اِنطلاقًا من ذات المبدع والفنان، وهذه الذات تتحكم فيها نوازع وميولات وثقافات، تفرض عليه مزج الواقع بعالمه الداخلي. في حين نجد كلاّ من جيليو بنتكرفو وأحمد راشدي يتعاملان مع التاريخ بحرفية المؤرخ، فقد بنى بنتكرفو فيلمه «معركة الجزائر» على مذكرات كتبها المجاهد ياسف سعدي عن وقائع تاريخية تبين أحداث معركة الجزائر، وقد كان بذلك صاحب سيناريو الفيلم، فكان الطابع التاريخي يطغى على الجانب الخيالي، لذا كثرت الشخصيات التاريخية الحقيقية والتفاصيل الدقيقة، وتقلصت المواقف الخاصة للمخرج والمؤلف. ونفس الشيء نلاحظه مع فيلم أحمد راشدي «مصطفى بن بولعيد» 2008، الّذي أظهر فيه حياة ونضال المجاهد مصطفى بن بولعيد، أو «كريم بلقاسم» لنفس المخرج أو «العربي بن مهيدي» لبشير درايس، ولم يكن بإمكان المخرجين الذين تناولوا الأحداث التاريخية الخالصة أن يُغيروا ويبدلوا الأحداث والشخصيات، مثلما فعل أحمد راشدي مع فيلمه «الأفيون والعصا» المُقتبس عن رواية بنفس العنوان لمولود فرعون، فالروائي سمح له بتغيير الأحداث والشخصيات كي تتماشى مع منطق السرد السينمائي، بينما لم تسمح له الأحداث التاريخية ذلك. وإذا عدنا إلى لخضر حامينا فنجده يتعامل مع الثورة التحريرية بحرية المبدع، وهكذا مزج بين موضوع الحرب والكوميديا من خلال فيلمه «حسان تيرو» وبين نظرة الجندي الفرنسي والمجاهد الجزائري مع فيلمه «ديسمبر» وأخيراً بين النظرة البسيطة للشعب الجزائري في منطقة معينة من الجزائر وبين النظرة الرسمية للتاريخ الجزائري والثورة التحريرية. ولهذا لا يجب أن ننظر إلى فيلم لخضر حامينا بأنّه فيلم تاريخي، ولكنّه فيلم عن التاريخ الجزائري. يُتبع...