تَنفرّد ولايات الجنوب الكبير بخصوصيات طبيعية صحراوية وحضارية زاخرة بتفاصيل وعناصر الجذب السياحي، جعلتها متحفا طبيعيا وديعا مؤهلا لاستقبال آلاف الزوار الأجانب القادمين من القارات الخمس، للاستمتاع برونق واحات نخيلها وكثبانها الذهبية الأخّاذة، وشموخ جبالها بانورامية المشاهد المفعمة بالإسرار في الهقار والطاسيلي ناجر. حقّقت السّياحة الصّحراوية في الجزائر أرقاماً إيجابية في السنوات الأخيرة، ونسقا تطوّريا متعاظما مردّه قرارات وإجراءات التحفيز العمومية، طفرة إنجاز المشاريع النوعية القطاعية، ورفع العراقيل والتجميد عن كثير من الاستثمارات، في مؤشر واضح على انتعاش هذا المجال، وخروجه من نفق الركود إلى عالم الاحترافية والمنافسة إقليمياً وعربياً. وقد تبوّأت ولاية وادي سوف، وفقا للمصادر الرسمية، المرتبة الأولى وطنيا في الموسم السياحي الصحراوي الفارط 2021-2022، بتسجيلها دخول ما يزيد عن 1200 سائح أجنبي للمنطقة و111 ألف زائر من الداخل الجزائري خلال فصلي الشّتاء والربيع، فضّلوا الاستمتاع بتراث مدينة الألف قبة وقبة ذات السياقات المعمارية والعمرانية الفريدة، ونمط زراعتها القديم جدا - الغوط - كما كان الإقبال السياحي على ولايات جانِت وتامنغست وإيليزي وغرداية وباقي مناطق الجنوب، مرتفعا ومنوّعا بين زوّار الداخل والخارج، الذين عاينوا جمال مقوّمات صحاري تلك الولايات من واحات وجبال صخرية منحوتة بعوامل الطقس والمناخ بمرور الأزمنة والعصور، وكذا قصورها العتيقة المصنّفة ضمن التراث الوطني المحفوظ، وغير ذلك من الكنوز السياحية المستقطبة للسّياح. انتعاشة ما بعد كورونا ساهمت عوامل عديدة في صعود منحنى السياحة الصحراوية في ولايات الجنوب الكبير، إلاّ أنّ بروزها ونموها على هذا النحو الإيجابي، حسب ما رصدنا، كان بعد انحصار الجائحة الوبائية كوفيد-19 بداية العام الجاري 2022، إثر تمكّن السلطات من كبح انتشارها وتمدّدها في ولايات الوطن، ناهيك عن التوجيهات الصارمة التي أسداها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون للنهوض بالقطاع وتنشيطه وتطويره. وبدورها أضْفت عمليات تسوية ملف الاستثمار ورفع العراقيل عن كثير من المشاريع القطاعية، حيوية ومرونة ونقلة في المجال، رفعت من مستوى جاهزيته، وشجّعت المستثمرين على ولوج الاستثمار السياحي، والبحث عن فرص لتجسيد أفكارهم وتطلعاتهم. وفي هذا الخصوص، تعتبر صحراء الجزائر العذراء غنية بالمقومات السياحية الساحرة المهيأة لمبادرات الاستثمار والتطوير، وكذا الاستغلال الأمثل لهاته الموارد الحيوية بغية خدمة الاقتصاد الوطني والتنمية المحلية في المناطق المعنية. فضلاً عن إيلاء جانب الترويج الإعلامي للسياحة الصحراوية محليا ودوليا أهمية قصوى، حتى تكون في المستقبل أكثر تنافسية إقليميا - الجنوب التونسي - وعربيا مثلما عليه الوضع السياحي بمصر والأردن، على اعتبار أنّ هاته الدول تتشابه مقدراتها الطبيعية السياحية تماما مع ما تحمله بيئة الجنوبالجزائري من عناصر. صناعة المهرجانات السّياحية الدّولية تُؤدّي المهرجانات السياحية الدولية دورا بارزا في استقطاب سيّاح الداخل والخارج، وتساعد على التعريف بالموروثات والعادات والتقاليد المحلية بالولايات المُحتَضِنَة، الترويج للكنوز الأثرية والأماكن التاريخية والمواقع الطبيعية التي تحتويها، لكن مثل هكذا فعاليات لا تزال دون المستوى المأمول بسبب حداثة التجربة السياحية. وبالمقارنة مع دول أخرى، يعوّل قطاع السياحة بجنوبها الصحراوي بشكل أساسي على المهرجانات البدوية التقليدية لاستقطاب السيّاح والتعريف بالموروث المحلي، ومن ذلك سباقات المهاري والخيول وصيد السلوكي التي يجري تنظيمها سنويا بولايتي توزر وقبلي - دوز - إذ يحضرها آلاف السياح من الجزائر وليبيا وباقي البلدان الأجنبية. وبناءً على ذلك، يمكن استغلال طاقات العنصر الجمعوي المهيكل بكل أطيافه في ولايات الجنوبالجزائري لصناعة مهرجانات شعبية وبدوية بسياقات سياحية مروّجة لمقدرات القطاع وداعمة لنهضته المرجوّة، ومن خلالها ضمان جذب الكثير من السياح لاسيما هوّاة الطبيعة البدوية الصحراوية. موسم استثنائي يُؤكّد رئيس جمعية «صدى الجزائر» لتشجيع السياحة وتطويرها طلحي عبد العزيز ل «الشعب»، أنّ السياحة في الجزائر بكل أنماطها تسجّل انتعاشا ملحوظا فاق كل التّوقّعات، واهتماما اجتماعيا خصوصا لدى فئة الشباب المغامرين، وذلك بعد تصنيف الجزائر بالمرتبة الأولى في سياحة المغامرات بالعشر سنوات القادمة من طرف المنظمة العالمية للسياحة. وأضاف طلحي، أنّ التصنيف سيفتح الباب على مصراعيه للحديث عن السياحة الصحراوية وما تمتلكه من مؤهلات في هذا المجال لاسيما مع حلول موسمها، معتبرا في ذات السياق السياحة الصحراوية أحد أهم الأنماط السياحية الخالقة للثروة، وتكتسي أهمية كبيرة في برنامج الدولة لتطوير وترقية السياحة. نجاح موسم السياحة الصحراوية الماضي، مثلما يقول، في ظل أزمة كورونا وتداعياتها الصحية والاجتماعية ما هو إلاّ مؤشر إيجابي، على أن هذا الموسم سيكون استثنائيا وحافلا بتوافد السّياح سواءً الجزائريين أو الأجانب، بالإضافة إلى الرحلات المنظمة من طرف وزارة السياحة والصناعة التقليدية لاستقطاب السياح الروس والأمريكان والأوروبيين، في خطوات تدفع على التفاؤل. واستنادا له، يُنتظر أن يتم فتح المجال أمام الوكالات السياحية لخوصصة العملية وتنويعها لجذب المزيد من السياح، ممّا يتطلب إقحام الوكالات النموذجية التي تمتلك المؤهلات اللازمة لإنجاح المبادرات. تسهيلات لفائدة المستثمرين الخواص يُبرز طلحي عبد العزيز، وجود مقترح لدى جمعية صدى الجزائر «لتشجيع السياحة» وتطويرها لطالما طرحته، يتمثل في تقديم تسهيلات إضافية لفائدة المستثمرين الخواص، وأيضا فتح المجال أمام الاستثمار الأجنبي خصوصا للمستثمرين من دول الخليج العربي لما لهم من دراية بالبيئة الصحراوية، قصد دعم البنية التحتية في القطاع. وتابع قائلا: «نحن نعلم أنّ إرادة السلطات في تشجيع السياحة وتطويرها أصبحت جلية بالنظر إلى التحفيزات الممنوحة للمستثمرين، خاصة في السياحة الصحراوية، الحموية، مجال الصناعات التقليدية التي تحتاج إلى مرافقة وتأطير، وأيضا من خلال الترويج الممنهج من جميع الفاعلين والناشطين وفي مقدمتهم فئة الشباب المثقف». وفي ما يتعلق بالعوائق التي تعترض الموسم السياحي الصحراوي، فأهمّها بُعد المسافات وصعوبة التنقل، وقد يكون الحل فيها بتنشيط المطارات الداخلية كمطار ورقلة وبوسعادة والجلفة والأغواط وغيرهم، تسخير المزيد من الطائرات لهذا الغرض مع تقنين تسعيرة تتناسب وقدرات المواطن حتى يضمن حقه في التجوال واكتشاف شساعة أرض الجزائر وروعتها، عادات وتقاليد الجنوب الكبير وموروثه الحضاري الضارب في أطناب التاريخ، يضيف رئيس جمعية «صدى الجزائر» لتشجيع السياحة وتطويرها طلحي عبد العزيز. التّرويج ووسائل النّقل اعتبر رئيس المكتب الولائي للمنظمة الجزائرية للتراث والسياحة والصناعات التقليدية بولاية تامنغست فيلي لقمان، السياحة الصحراوية قاطرة حقيقية لإنعاش القطاع، يرتبط تطويرها وترقيتها باستقطاب أكبر عدد ممكن من سياح الداخل وخارج الوطن. وأرجع فيلي في اتصال مع «الشعب»، ذلك الدور الاستقطابي إلى الوكالات السياحية، المنوط بها عمليات الترويج الداخلي والخارجي لمقومات القطاع في الصحراء، وتحسين الخدمات تماشيا مع رغبات وتطلعات السائحين. ومن هذا المنظور، كما يقترح محدثنا، فإنّ الوضعية تستوجب توفير وسائل نقل مناسبة، خاصة ما تعلق بالنقل الجوي شمال - جنوب، العمل على تخفيض التذاكر بالنسبة للسياح المتوجّهين لولايات الجنوب الكبير، وكذا تكثيف الرحلات الجوية الداخلية خلال موسم السياحة الصحراوية تشجيعا على توافد زوّار الداخل والخارج لاستكشاف كنوز الصحراء التراثية وطبيعتها المميزة. علاوة على تفعيل اتفاقيات بين الوكالات السياحية وشركات النقل الجوي من أجل تخفيض قيمة التذاكر بالنسبة لولايات الجنوب في فترات تنشيط الموسم السياحي الصحراوي -حسبه - حتى تتاح تسهيلات وتحفيزات لتنقل المواطنين نحو المناطق الطبيعية والأماكن التراثية، وبالتالي إنجاح المواسم السياحية في قادم السنوات. رفع القدرات التّنافسية والأداء بالحديث عن وضعيات الاستقبال وجودة الخدمات، يرى فيلي لقمان، أنّ التنافسية والأداء في المجال الفندقي لابدّ أن يتلاءم مع القدرة المعيشية والشرائية للمواطن الجزائري، فضلا عن توفير الأمن في المرافق والمناطق الطبيعية السياحية، ووضع مخطط لحماية الوكالات السياحية المتضررة التي أدّى بها الوضع الوبائي السابق إلى الإفلاس. وفي هذا الجانب، أشار فيلي إلى ضرورة توجيه اهتمام خاص بالمتعاملين السياحيين كالوكالات السياحية والفاعلين في المجال، بهدف تجديد وتطوير المستلزمات السياحية تماشيا مع ما يتطلبه الزبون المحلي والأجنبي. جدلية التّنمية والسّياحة يُؤشّر مُعطى نجاح الموسمين السياحي الصحراوي والصيفي الشاطئي السابقين في الجزائر، على انبعاث جديد للقطاع وتبلور وضعية حسنة جاذبة ومستقطبة للسائح الداخلي والأجنبي، ممّا يستلزم رفع الجاهزية أكثر للمقدّرات والهياكل لاحتضان أعداد أكبر في الموسم السياحي الصحراوي الجديد والصيفي الشاطئي 2022 - 2023، مع تركيز الجهود لتجنّب الوقوع في الشوائب الصغيرة المنفرة للزائرين والراغبين في الاستكشاف الداخلي. السياحية المحلية في ولايات الجنوب، لا يقتصر دورها على الفعالية القطاعية الجمالية للمكان والطبيعة، وإنّما تساهم أيضا في تحقيق التنمية المستدامة وحركية الاقتصاد المحلي، الاستقرار الاجتماعي في المناطق الواقعة في عمق الصحاري والحدود، استحداث مناصب شغل دائمة ومؤقتة للشباب وحاملي الشهادات الجامعية المتخصصة في السياحة، إذ يبقى الرهان على تثمين المورد وترقيته بما يتواءم مع المخطط الجديد للقطاع، وتطلعات المواطنين الحالمين بارتقاء سياحتهم الصحراوية إلى مصاف عالمي. المقاربة الجديدة للقطاع السياحي في الجزائر، أثبتت بالفعل نجاعتها وقدرتها التنافسية مع دول الجوار في هذا الجانب، اتّضحت معالمها جليا بتفضيل ملايين الجزائريين للولايات الساحلية والمناطق الصحراوية الداخلية كوجهة مفضّلة لهم خلال هذا العام، بعد أن كانت وجهاتهم خارجية، في انتظار ما سيؤول إليه الاستثمار السياحي، والاستغلال الأمثل للمؤهّلات السياحية النّوعية التي تزخر بها البلاد.