تختلف عن غيرها من الآلات الموسيقية، رغم الشبه الذي يجمعها مع العديد منها، فشكلها المحدب ووترها الواحد وقوسها زاد من تفرّدها عن بني جنسها.. تعتبر من أقدم الفنون والآلات الوترية لدى الإيموهاغ، مصنّفة ضمن الموروث اللامادي، وقد قالت عنها ملكة الطوارق تينهنان «معجزة الرجال ذوي النزاهة والفضيلة». الإمزاد، أو كما يحلو أن يُطلق عليها البعض «الآلة اللّغز»، يقول بشأنها الكاتب والموسيقي عبد الوهاب بوغردة في حديثه مع «الشعب» إنها آلة يصدر منها ذلك اللحن الغامض الضارب في عمق التاريخ، والمعبر بصدق عن روحها وروحانيتها، عازفتها الأولى والأخيرة المرأة. فهي بذلك محرّمة على الرجل في المجتمع التارقي، لتكون حواء الركيزة الأساسية التي يقوم عليها البناء الاجتماعي، وهنا تبرز قيمتها الكبيرة، من أشهر عازفاتها «داسين ولت ايهمة» التي وُلدت سنة 1873 وتوفيت في 1933. هكذا كانت البداية تعدّدت الحكايات والأساطير حول نشأة آلة الإمزاد، لكن اجتمعتا واتفقتا حول نتيجة ظهورها المفضية لنشر السلم والأمن وفكّ النزاع والصراع بين القبائل. كشف الباحث في الثقافات الشعبية عبد الوهاب بوغردة، أن هناك من ربط الإمزاد بالملكة تينهنان حين ملّت من صراع الرجال لتخترع لهم الإمزاد، مستخدمة في ذلك شعر ما يعرف ب»عرف» أو مقدمة الرأس «ناصية» حصانها كوتر للإمزاد بدل من شعر ذيله، لتكون بذلك «معجزة» للرجال النزهاء، لتُشاع بعدها الأسطورة القائلة «إن الرجل الذي يستمع للإمزاد لا بد أن يكون هادئا وكريما ونبيلا». وفي نفس الصدد، يضيف الشاعر مولود فرتوني ل»الشعب»، أن هناك من يربط ظهور الإمزاد بامرأة عمدت الحيلة وهي تحاول فكّ النزاع والصراع المستمر بين القبائل، إلى أن اهتدت إلى آلة الإمزاد، والتي ما إن سمعها الرجال حتى استكانوا، وبهذا يقال إن من يستمع للإمزاد لا يقدم على أمر شنيع أو غير أخلاقي. ويعود عبد الوهاب بوغردة، ليقول إن الأساس في الإمزاد أنه يروي حكايات عبر الزمن، «والحقيقة أنه لا يمكن ربطه بمرحلة تاريخية معينة، أو تحديد تاريخ ظهور هذا النمط الموسيقي الفريد من نوعه في شمال إفريقيا»، إلا أن الدراسات الأنثروبولوجية يضيف المتحدث ركزت اهتمامها كثيرا على دراسته وتحليله، كونه يعتبر من التراث المعنوي الذي لم يتأثر بأية عوامل خارجية احتكت بها حضارة الطوارق العريقة للإيموهاغ. وأشار المتحدث، إلى أنه حسب العارفين بأسراره لم يتغيّر، وبقي محافظا على طبيعته الأصلية منذ قرون، إضافة لكونه نوع من الموسيقى الطقوسية والرمزية التي لها ارتباط عميق ومتجذر في تاريخ المنطقة الطويل، إلى درجة يؤكد فيها البعض على المسار الطويل الذي قطعه الإمزاد، وألحانه التي حافظت على بنيته الأولى التي ظهر بها في غابر الأزمان، والتي يمكن تشكيل صورة واضحة من قبل، حول حياة الإنسان الأول والوقوف على ما كان يشعر به في حالاته الوجدانية المختلفة بالنسبة للذين يمتلكون الحس الموسيقي الوجداني العالي، إذ تعتبر هذه الآلة محرمة على الرجل، وإذا عزفها ستحل عليه اللعنة (في معتقد مجتمع الايموهاغ)، فهي مصدر استلهام وقوة وثقافة الرجل ومصدر تماسك المجتمع، لكونها ترمز للسيادة وتجسيد الجاه والشرف وشحنة التحام النغمة بالروح والجسد. العالم يحتضن الإمزاد رغم بعدها عن الساحة الثقافية في وقت ما، حيث لم يكن يكاد أحد يعرف أو يسمع بهذا الموروث الثقافي، ولم يكن لديها إقبال كبير من طرف العازفات، إلى أن حل تاريخ 2015 ليسجل ويُلقب بسنة الإمزاد، ويقول صاحب كتاب «دراسة الشعر عند إيموهاغ كممارسة ثقافية» مولود فرتوني، «تمّ تصنيفها كتراث عالمي ضمن منظمة اليونسكو، وهذا بفضل جمعية فنية قدمت الاهتمام الكامل لها (جمعية انقذوا الإمزاد)، التي تكفلت بتعليم هذه الثقافة، وبتخصيص مدرسة تعنى بهذا الفن العريق على مستوى دار الإمزاد من جهة، ومن جهة أخرى تخصيص متحف خاص يعنى بالثقافة الصحراوية الخاصة بسكان الأهقار تحديدا، مما يمكن للزوار للاطلاع على تاريخ وحياة المنطقة، خاصة وأنّه يضم مجموعات من التراث الذي يحكي تاريخ الأجداد والمنطقة في خطوة للمحافظة على التراث من الاندثار والضياع». ويضيف مولود فرتوني في سياق متصل، أن هذه الخطوة بتصنيفها كتراث عالمي يعد دفعة كبيرة لهذا التراث الذي كان لوقت قريب مهدّد بالضياع والاندثار، خاصة وأنه من الممكن أن يساهم في تنمية الإقليم المحلي، بفضل البحوث التي يعكف عليها باحثون من تأطير جمعية (أنقذوا إمزاد)، بالإضافة إلى جهود عدد من الباحثين والأساتذة الجامعيين على غرار الدكتور ديدة بادي. الطبوع والألحان.. يرى رئيس الرابطة الوطنية للأدب الشعبي بعاصمة الأهقار، مولود فرتوني أن الإمزاد تتميز بالكثير من الطبوع، جعل بعض الباحثين يوصلونها إلى 40 طابعا موسيقيا، في حين تبقى أشهرها ثمانية طبوع تختص بها منطقة أهقار. وفي نفس السياق، يقول صاحب كتاب «موسيقى الهقار من الشفهية للتدوين» عبد الوهاب بوغردة «إن الحديث عن سحر ألحان آلة الإمزاد ترتبط ارتبطا وثيقا بالقصص والأساطير، التي خاضها الطوارق وتوارثوها في ثقافتهم حول البدايات الأولى لهذا اللون الموسيقي وآلته المميزة، ولعلّ من أبرز ما يثير الانتباه عند سماع ألحانها، نجدها تحاكي الأشياء الموجودة في المكان والقصص والحكايات التي وقعت معهم»، حينها يقول تلمس أن الإمزاد عبارة عن مصدر تاريخي يستقطب منه مجتمع الايموهاغ أصالته وتاريخه من خلال هذه الألحان التي تحاكي ماضيه الذي يعبر عن كيانه، على غرار «أمغار نيلان» أو ما يعرف ب «كبير الألحان» الذي تُستقى منه ألحان الإمزاد، و»سمبير» أو «آزل وان سمبير» نسبة لرجل يسمى ب(سمبير)، حيث كان هذا الرجل يتفاعل مع الإمزاد ويساعد عازفته بحكاياته وأشعاره، فأخرج هذا اللحن تكريما له حيث عزف له الإمزاد دون توقف، إلى جانب «تيهضانارين» وهو لحن يوحي للحرب بين الطوارق وقطاع الطرق أو المستعمرين، و»هدامة» نسبة لامرأة تدعى هدامة، حيث إن مغزى هذا اللحن هو محاكاتها لزوجها للانتقال لمنطقة فيها الاخضرار والربيع، ويشتق منه لحن يدعى «تيقزولين» الذي يتشابه مع لحن «هدامة» غير أن الفرق بينهما يت «التيسيواي» أو رفيق الإمزاد يرى الموسيقي عبد الوهاب بوغردة، أن الأساس في الإمزاد مرافقته لحكواتي أو قصاص يحاكي عزف المرأة للإمزاد بأهازيج متنوّعة، وبعد ذلك أصبح شاعرا يلقي (تيسيواي) موازيا بذلك لحن المرأة على الإمزاد، متناولا بأشعاره وحكاياته قصة بطل أو مواعظ وحكم، وأشياء موجودة في مجتمعه، إضافة إلى تقديم نصائح أو عتاب من خلال ذلك. ف»التيسيواي» حسب المتحدث هو عبارة عن شعر تارقي ملحون لحكايا تندرج ضمن المرافقة الشعرية للإمزاد فهو في تكامل مطلق لألحان الامزاد، مشيرا إلى أن أسطورة بدايته تعود إلى قصة الرجل المنهار المتأثر بجراحه الشديدة الناجمة عن الحروب، فلما سمع أنغام الإمزاد استجمع قواه وتمكّن من الوصول إلى الخيام، ليبدأ بالغناء على ألحانها، ويبدأ بذلك عهد مرافقة الرجل التارقي للإمزاد. كما يعتبر «التيسيواي» يقول عبد الوهاب بوغردة واجهة عظيمة في التراث الثقافي للأهقار، لأن الرجل الذي يُلقي الشعر ويرافق الإمزاد يعبر بهذا عن مدى حبه واهتمامه لهذه الألة، ومدى نزاهته ويختزل مقومات وأصالة الأهقار. ويشتمل التيسيواي على كلام لحكايا تنتظم في غير ضبط محكم لوحدة الوزن والقافية، حيث يتناول الشاعر اثني عشر لحنا انطلاقا من آلة الإمزاد، بمعنى أن كل هذه الأشعار تبنى انطلاقا من ألحان الإمزاد وتتولّد منها. الإمزاد ماضي ومستقبل الأهقار أكدت عازفة الإمزاد الفنانة ألمين عائشة ل»الشعب»، أن الإمزاد يعتبر تراثا فنيا وثقافيا مقدّسا، موروثا عن الجدات والعمات والأمهات، مما يؤكد تقول على ضرورة المحافظة عليه وتعليمه للأجيال القادمة المستقبلية. فإذا لم نحافظ عليه تضيف ابنة الفنانة الكبيرة خولن ألمين، لن يكون هناك مستقبل لتراث المنطقة، على اعتبار أن الإمزاد يمثل هوية الهقار. وفي هذا الصدد، كشفت عائشة ألمين أنها تحاول رفقة ملهمتها ووالدتها، نقل معارفها وخبرتها المتواضعة مع الإمزاد للأجيال القادمة، عن طريق تنظيم حصص تعليمية موجهة للفتيات خاصة للعزف على الإمزاد وطريقة صناعتها في أوقات الفراغ والعطل. هذه الخطوة تؤكد عضو الجمعية الثقافية «أزيو» للفن المحلي، رغم غياب الدعم اللازم ووجود العديد من المصاعب، إلا أنها عازمة رفقة والدتها وجميع الفاعلين في الجمعية على مواصلة رفع التحدي، وإيصال ما تعتبره أمانة الأجداد للأجيال، من خلال تعليمه وكذا العزف على الإمزاد خاصة ضمن الحفلات الفنية والخرجات الثقافية والمشاركة في جميع المناسبات.