أكّد الفنان التّشكيلي محمد طاهر ومان، والأستاذة عائشة اختياج، والباحثة الفنانة أسماء عليوة، خلال الندوة التي نظمتها الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية مكتب العاصمة -بالتعاون مع المكتبة الوطنية، والخاصة بالذكرى 92 لميلاد الفنانة التشكيلية الجزائرية باية محيي الدين، أنّ الفنانة القديرة "باية" ذات الصيت العالمي، تركت علامة مميزة في الفن التشكيلي، ليس في بلدها الجزائر فقط، بل في جميع أنحاء العالم، حيث أبدعت وأثارت أعمالها كثيرا من الجدل، وطغت عليها العفوية لتكون عنوانا ملهما لدى كثير من أعمدة التشكيل العالميين، من أمثال الفنان والنحات والرسام الإسباني بابلو بيكاسو. أشار رئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية الدكتور عمر بوساحة، في مداخلته المقتضبة، إلى أنّ صاحبة فكرة الندوة هي الطالبة الباحثة أسماء عليوة، التي حفّزت ثلة من الباحثين والمهتمين لاستذكار مسار زعيمة الفن السّاذج، موضحا - في الوقت نفسه - أن هذه المبادرة ليست فقط تكريما لروح الفنانة باية، وتقديرا لأعمالها الفنية، بل هو هم نريد أن ننقله للمهتمين وللنخبة المثقفة، خاصة للزملاء في الفنون التشكيلية، حيث دعا المعنيين بالأمر والسلطات إلى إعادة النظر في الوضع الذي آلت إليه الفنون الجميلة والتشكيلية، آملا "أن يعاد فتح القاعات التي كانت حاضنة لهذا الفن الذي ينبغي أن يحظى باهتمام وعناية كبيرين"، وعبّر عن أسفه لمآل الفن التشكيلي بالجزائر بعد أن كان في ازدهار ونشاط، موجّها بشكل مباشر سؤالا إلى المعنيين بالأمر جاء فيه: "كأن الفنون التشكيلية لا قيمة لها ثقافيا ولا حضاريا في المجتمعات، فهل صحيح لا نحتاج إلى الفنون الجميلة؟ وإذا كان كذلك كيف يمكن أن يكون لنا ذوق في البيئة وفي المحيط والعمران؟ فمن جهتي أراه صعبا أن يكون لنا ذوق جمالي، ولا تكون هذه الفنون حاضرة في واقعنا". وإلى جانب ذلك، قال المتحدث إنّ الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، جعلت في اجتماعها الأخير من الفنون الموضوع الرئيسي لها، موضّحا بأنّ اللقاءات الفكرية ستتواصل لرصد أعلام وموضوعات فنية لنشاط مكاتب الجمعية على المستوى الوطني، "ونعد الجميع بتسطير ندوات أخرى حول فنانين جزائريين معروفين لهم قيمة كبرى جزائريا وعالميا"، يقول بوساحة. صفحات مضيئة من سيرة الفنانة باية بنفس وتيرة الشغف والتأثر، سجّلت النّدوة تقديم شهادات وقراءات ومقاربات بنظرة فلسفية فنية في حق أعمال رسامة عصامية، لم تكن توقع لوحاتها باسمها، ومع ذلك أثبتت وجودها عبر طابع فني متميّز في عالم الرسم والخطوط العامة لفن التشكيل، وذلك من طرف كل من الفنان التشكيلي محمد الطاهر ومان الذي التقى الفنانة باية، وكانت له معها مواقف جميلة "لا تمحى من الذاكرة" كما يقول، إلى جانب الأستاذة عائشة اختياج، والباحثة الفنانة أسماء عليوة اللتين تأثّرتا بفنّها، واستطاعتا أن تجمعا كثيرا من أعمالها، بغرض التعريف ببصمة هذه القامة الفنية في أوساط طلبة الفن التشكيلي داخل الوطن وخارجه. واستعرض الفنان محمد الطاهر ومان فيديو مسجلا تحدّث من خلاله عن صاحبة الريشة، وما تركته من تاريخ حافل في عالم الفن التشكيلي، وعن تفاصيل متشعّبة من حياتها ومسيرتها منذ الطفولة إلى غاية وفاتها، مشيرا إلى أنها أبدعت ورسمت عن آفاق الطفولة وعن مدارك الأمومة، وحلّقت بخيالها في العديد من أعمال الطين، حيث جسّدت أشكالا عديدة جاءت أغلبها على هيئة أزهار وحيوانات، استمدّتها من وحي طفولتها وقصصها التي ساهمت فيها الجدة من خلال حكاياتها في ليالي الشتاء الباردة، كما تحدّث في الفيديو عن الأديب محمد الزاوي، الذي أصدر كتابا في فرنسا وثّق فيه حوارات عديدة، على غرار لقاء جمعه بالفنانة باية محي الدين، إضافة إلى سليم بشة الذي نظّم معرضا خاصا للفن التشكيلي في مدينة بسكرة عام 2016، وشخصية أحمد العوني، والذي بعد ما كان يشتغل ساعي بريد أصبح يعتبر من أكبر جامعي التحف. بداية الموهبة.. في ذات السياق، قال المتحدّث "إنّ اسم باية الحقيقي هو فاطمة حداد محي الدين، ولدت في 12 ديسمبر عام 1931 ببرج الكيفان، بعد وفاة والديها، ربّتها جدتها وكبرت في الفلاحة، حيث كانت تعمل عند معمّرين فرنسيين، وفي عام 1943 أخذتها شقيقة صاحب المزرعة لتساعدها في أشغال البيت، وبعدما اكتشفت شغفها بالرسم، قرّرت أن ترعاها وترافقها لتنهل من هذا الفن وتشبع ميولها"، ثم تابع "أحبّت باية الرسم وهي لم تكمل عامها 13، وبدأت رحلتها في عالم الفن بعدما بدأت في تشكيل تماثيل صغيرة لحيوانات وشخصيات عدة من خيالها، ممّا جعل صاحبة البيت تعجب بفنها، فشجّعتها وأحضرت أهم أدوات الرسم لها". ونظير موهبتها الفذّة - أضاف المتحدث - أولاها النحات الفرنسي جون بيريساك اهتماما كبيرا وعرض رسوماتها على أحد الشخصيات المعروفة، وهو تاجر أعمال فنية ومؤلف ومنتج أفلام ومدير مؤسسة "مايغت" للفنون يدعى أيمي مايغت، وفي سنة 1947 عُرضت أعمال باية لأول مرة على الجمهور الفرنسي بباريس، ونالت نجاحاً باهراً، وأعجب الجمهور والنقاد بهذا الفن البدائي العفوي والساذج، حتى إن بابلو بيكاسو، الفنان العالمي، طلب منها أن ترافقه ليعلّمها الرسم، فبقيت برفقته عدة أشهر استفادت كثيراً في أثنائها، وبعد فترة من الحنين إلى الوطن، عادت باية إلى الجزائر..إلى حضن جدتها، تم تزوجت وتوقف مشوارها الفني لعدة سنوات. وفي 1963 اشترى المتحف الجزائري أعمالها ليقوم بعرضها، وفي ظل الالحاح الكبير لمديرة المتحف، قال: "عادت باية للرسم مرة أخرى، ولم تتوقف منذ ذلك الوقت، إلى أن توفيت عام 1998 وبقيت أعمالها تعرض في كل من الجزائر وباريس والعالم العربي، كما أن كثيرا من رسوماتها محفوظة اليوم، في مجموعة الفن الساذج في لوزان بسويسرا. بصمة الكبار من جهة أخرى، أوضحت الأستاذة عائشة اختياج، بأنها في رحلة بحثها عن مسار الفنانة باية، تناولت العديد من الأعمال والمقالات، حيث تأثّرت كثيرا بهذه الفنانة المرموقة وممّا قدمته، والتي تم إدراج اسمها كرسامة جزائرية من بين أشهر رسامات الفن الحديث في العالم، مثل فريدا كالو وتمارا دي لمبيكا هو خير دليل على ذلك، فلقد زيّنت لوحاتها أكبر دور عرض في العالم من الجزائر وباريس وهافانا وطوكيو والكويت وتونس وبروكسل وواشنطن، والإمارات والكثير من البلدان في مختلف أنحاء العالم، قائلة بأنّ هذه الفنانة تركت أعمالا لها دلالات جزائرية مستوحاة من التراث، وتشكّل الذاكرة والهوية الوطنية. في ميزان الفلسفة أما الباحثة والطالبة في قسم الفلسفة ماستر، تخصص فلسفة تطبيقية الفنانة العصامية أسماء عليوة، فقد قدّمت مقاربة فلسفية للواقع الاجتماعي للرسامة باية، وتوقفت عند المرحلة الانتقالية التي عاشتها، متحدّثة عن نتائج تلك المرحلة، خاصة في تنمية البعد الجمالي لديها والجانب التقني العملي في الفعل الإبداعي الفني، كما تحدّثت عن التجربة الجمالية وما هو الجميل، وعلاقة هذه التجربة عند باية بعملها الفني. ثم تنقّلت الباحثة في مداخلتها إلى مواضيع تميزت بها أعمال باية، عبر نقاط فاصلة من محطات هذه الفنانة الهادئة، القليلة الكلام وعظيمة الهيبة، المتمسّكة بدينها وبعاداتها وتقاليدها، مشيرة بذلك إلى أن باية محي الدين عبّرت في رسوماتها عن الأم وعن الطفولة والطبيعة، كما أثبتت انتماءها إلى الجزائر، مع إعطاء البعد الإفريقي فيها مستوى عاليا من الاهتمام، إلى جانب دلالات تظهر انتسابها إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط، حيث قالت في هذا السياق: "يمكن إحداث إسقاط فلسفي لفن باية، باعتباره اهتماما بالابداع في سياق العلاقات الاجتماعية، واحتمال التغييرات السياسية التي يمكن أن تنجلي منه، فهذا التغيير الذي يمكن اعتباره كبحث ثوري في العمل الفني الإبداعي، إذا ما تجسد في هذه القراءة في عدة أشكال، حيث يمكن القول إنه إذا تجسد في نوع الإبداع الذي يأتي به أو في التقنية، فمثل هذا التغيير يجعل صاحبه طليعيا بطريقة ما، أو حركة ما، أو رائدا لها، معلنا عن تغييرات منعكسة للمجتمع عامة بصورة جلية واضحة وحقيقية، ويجب الانتباه إلى أن كون فن ما أو إبداع فكري ما، بهذه المعاني لا يقول شيئا عن جودة العمل الفني ولا عن أصالته، ولا عن حقيقة هذا العمل الإبداعي". ملهمة بيكاسو في سياق متصل، ذكرت المتحدثة في استقرائها الشامل لأعمال الفنانة باية: "إذا ما توقّفنا في هذه القراءة عند السياق التاريخي والاجتماعي للفنانة باية محي الدين، الذي عرف تأرجحات وانتقالات من واقع اجتماعي لآخر، وكانت لها في كل فترة من تلك المحطات أثر على تربية نظرتها الخاصة للذوق ببعديه الجمالي والتقني العملي، أي في البعد النظري لعملها والتطبيقي أيضا، يتجلى ذلك أولا في طفولتها الأولى منذ 1983 إلى 1947 كونها عاشت مدة قصيرة في منطقة القبائل الكبرى، عندما أعادت أمها الزواج بعد أن توفي والدها، حيث كانت في تلك الفترة في علاقة مباشرة مع الطبيعة، حتى إنها عملت بنفسها في الحقول، وأتقنت الزراعة، فهي تقول: في 1993: "أحببت العمل في الأرض، أنا عربية قبائلية، لقد تأثرت بالنسوة اللواتي كن يقمن بصنع أعمال من مادة الطين". وبعد وفاة أمها، واسمها بهية وتلقّب باية، أخذت رسمها وإمضاءها الفني، لتضيفه إلى عنصر الطبيعة التي هي عناصر كلية الوجود في أعمالها، لتتابع الباحثة قائلة: "كل ما تركت باية من استقراءات ما وراء الفن، جعلها تحتل مكانة فريدة بين زعماء فن الرسم والنحت والتشكيل، وأعود إلى عام 1948 حين دعاها بيكاسو إلى ورشته فقضت عدة أشهر برفقته، وأنتجا رسوماً معاً، لأنوّه بأنها إلى جانب الرسم قدّمت أعمالاً من الفخار، حيث كانت هذه النقطة التي ألهمت فيها بيكاسو، في إطلاق مجموعته الفنية عام 1955، والتي عُرفت باسم "نساء الجزائر". للإشارة، قدّم الأستاذ أحمد دوزي باحث في التاريخ، نبذة عن التاريخ الثوري لمنطقة برج الكيفان، وعن أعلام المنطقة الذين ذاع صيتهم عالميا، على رأسهم الفنانة التشكيلية "باية" 1998- 1931، والممثلة مارث فيلالولغا 1932، ولاعب الرغبي جون - فرنسوا فيليبونو 1950 -1976، الكوريغراف ريجين شوبينو 1952، والبطل الأفريقي للملاكمة بلكيف بوعلام 1963، إلى جانب البطلة العالمية للجيدو سليمة سواكري.