ونحن نحتفل بعيد الاستقلال، لا يفوتنا أن ننوّه بأن استرجاع السيادة لا يكون كاملا دون استرجاع الهوية الثقافية.. وقد رفعت الجزائر هذا التحدي، وعملت على محو آثار عملية طمس ممنهجة دامت أكثر من قرن.. ولكن، للحديث عن هذه الجهود، وجب أولا أن نعرّف مفهوم الهوية الثقافية، وحتى تكون المقارنة ممكنة، وجب أيضا إلقاء نظرة على بعض السياسات الاستعمارية في هذا الصدد، ومقاومة الجزائريين لها بشتى الوسائل. منذ البداية، زعم الاحتلال الفرنسي أن غزوه للجزائر كان بهدف نقل الحضارة والأنوار، أي أن الثقافة كانت مبررا للاستعمار، تماما كما كانت سببا وحافزا لمقاومة المستعمر. لا هوية بلا ثقافة يرى البروفيسور يوسف بن نافلة (جامعة الشلف) أن المقصود بالهوية الوعي بالذات الحضارية، والعمل على تطويرها، وتمكينها في كافة المجالات لخدمة وتطوير جودة الحياة الإنسانية. وينقل الباحث عن كريمة محمد كربية تلخيصها سمات الهوية في: السمات الشخصية (العمر، السلالة، الجنس، القرابة، القومية..)، والسمات الثقافية (العشيرة، القومية، الدين)، والسمات السياسية (الوجود ضمن الجماعة، الزمرة، القائد..)، والسمات الاقتصادية (الوظيفة، المهنة..)، وأخيرا السمات الإقليمية (البلدة، الإقليم، المنطقة الجغرافية..). ويضيف الباحث، أن الهوية تتكون من ثلاث عناصر أساسية: العقيدة التي توفر رؤى للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، أي أن اللغة عنصر يميز ثقافة شعب ما عن شعب آخر، وثالثا وأخيرا التراث الثقافي طويل المدى. والملاحظ مما سبق، أن الثقافة مكون رئيسي في مفهوم الهوية، ما يجعل الحديث عن وجود "هوية ثقافية" مجرد "تحصيل حاصل". وفي هذا الاتجاه يذهب البروفيسور هامل بن عيسى (جامعة الأغواط) حين يعرّف الهوية الثقافية بأنها "حصيلة تشابك مجموعة من العناصر والمعطيات الاجتماعية الثقافية والتاريخية المتميزة، والتي لا يمكن أن تتحقق إلا عبر الشعور بالانتماء من خلالها إلى كينونة واحدة تحدد إطار الوعي الفردي والجمعي بالوجود، وتتمثل هذه الكينونة في اللغة والدين والذاكرة الجماعية. فهي أحد مظاهر الثقافة التي تمثل كيان الأمة، وتشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقائدية المشتركة بين أعضاء الجماعة، الذين لديهم ذات الشعور بالتماثل والتقارب بالانتماء إلى نفس الكينونة". ويخلص الباحث إلى أنه مادامت الهوية معطى مكتسبا لصيقا بالثقافة، فهي تتشكل وتتغير من خلال تفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي، إما بالتماهي مع الجماعة التي ينتمي إليها، وإما بالانفلات منها والعودة إليها. ولما كانت الهوية الثقافية حجر الزاوية في بناء الأمة، عمل المستعمر على ضرب هذا المكون بشتى الأدوات، ومن بينها المدرسة. التجهيل بواسطة التعليم تعدّ المدرسة من أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية، بما يعنيه ذلك في تكوين الشخصية والانتماء. وبشأن المدرسة والتعليم، يشير الدكتور روابحي العياشي (جامعة قالمة) إلى وجود رأيين في المعسكر الفرنسي في بداية احتلال الجزائر: رأي أول دعا إلى التجهيل التام لإذلال الجزائريين وقهرهم، ورأي ثانٍ رأى في تعليم الجزائريين مصلحة أكبر لفرنسا الاستعمارية، وهو الرأي الذي تمّ اتباعه. ونقل الباحث عن المؤرخ يحيى بوعزيز قوله إن الهدف من ذلك كان الاهتمام بالمدرسة باعتبارها الوسيلة الفعالة لسلب الشعب الجزائري من هويته وموروثه الثقافي وشخصيته بصورة تدريجية، وأن النتائج التي يمكن لفرنسا أن تجنيها نتيجة لذلك أحسن بكثير وأكثر أثرا وأبعد مدى مما لو استعملت القوة. ويضيف روابحي بأن المسألة لا تتعلق بنشر العلم والثقافة والتهذيب وتنوير عقول أبناء الجزائر كما يبدو من ظاهر السياسة الكولونيالية في مجال التعليم، ولكن الغرض الاستراتيجي مسخ الشخصية الوطنية وإخماد الروح الوطنية بتكوين وسطاء أهليين يكونون بمثابة السواعد المخلصة لفرنسا الاستعمارية لمساعدتها على تثبيت أركانها بالجزائر. بالمقابل، يبدو أن ما حدث كان مزيجا بين الرأيين، وكلاهما بهدف استعباد الجزائريين، الذين لم يستفد أغلبهم من التعليم، والقلة من المستفيدين كانوا عرضة لمحاولات المسخ الثقافي والهوياتي. ويرى الأستاذ عبد الحميد ساحل (جامعة بجاية) أن النظام الاستعماري، ليضمن غزوه الثقافي والأخلاقي، سعى إلى تهديم المؤسسات التعليمية الأصيلة في الجزائر (مدارس قرآنية، زوايا، مساجد..) وإنشاء مدارس أوروبية بدلها، بل وفتح مدارس تنصيرية، فالغزو أصبح أخلاقيا أيضا عن طريق المدرسة كما يقول المؤرخ الفرنسي شارل أجرون. ويضيف الباحث أنه، في 1922، كان التلاميذ الجزائريون يشكلون نسبة 6 بالمائة من مجموع المتمدرسين الأوروبيين في الجزائر. وفي 1924، قال الأمير خالد إن تعليم الأهالي، بعد 94 سنة من الاحتلال، هو لا شيء تقريبا أو يكاد ينعدم في مناطق عدة من الجزائر، وأشار إلى غلق المدارس القرآنية حيث توجد المدارس الأوروبية. ويرى المؤرخ محفوظ قداش أن الإدارة الفرنسية، في سياستها هذه، كانت تريد محاربة اللغة العربية فضاء الهوية، ومنعها من منافسة المدرسة الفرنسية. كما تعرّض المستعمر للمؤسسات الثقافية الفاعلة كالمكتبات، والأوقاف، خاصة وأن مؤسسة الأوقاف في الجزائر كانت من أهم المؤسسات المؤثرة على الحياة الاجتماعية والثقافية. وفي ذلك يقول شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله: "الوقف في الحقيقة، كان بالنسبة للدولة، هو وزارة الثقافة والتعليم والدين والشؤون الاجتماعية مجتمعة اليوم". أما بخصوص المكتبات، فيشير سعد الله إلى أن الجزائر كانت في مقدمة البلدان الأكثر توفرا على المكتبات بأنواعها: العامة مثل مكتبة الجامع الكبير (العاصمة) ومكتبة مدرسة الكتانية ( قسنطينة)، أو الخاصة كالتي تمتلكها بعض العائلات. السمّ.. والترياق لم يبقَ الجزائريون مكتوفي الأيدي، وحاولوا، رغم ظروفهم الصعبة، مواجهة التجهيل والمسخ الهوياتي الممنهج الذي مارسه عليه استعمار استيطاني عنصري. وإن كانت ثورة التحرير تحوز، في عديد الأحيان، على حصة الأسد من الذكر والثناء في هذا الصدد، إلا أن المقاومة بشتى أنواعها، بما فيها الثقافية، لم تتوقف طيلة فترة الاحتلال، بل يمكن القول إن الجهود الأولى للحركة السياسية والثقافية والإصلاحية الوطنية هي التي سمحت بميلاد تلك النخبة الواعية التي فجرت ثورة نوفمبر. على سبيل المثال، وبسبب وضعية التعليم واللغة العربية، لجأت عائلات جزائرية إلى إرسال أبنائها إلى المؤسسات التعليمية الكبرى خارج البلاد، على غرار جامع الزيتونة (تونس) وجامع الأزهر (مصر)، وتمّ تنظيم بعثات تعليمية إلى تونس كبعثة أبناء وادي ميزاب سنة 1914، وكان ضمنها أحد رواد الصحافة الجزائرية الشيخ أبو اليقظان. فيما كان الإمام عبد الحميد بن باديس قد شرع في جهوده الإصلاحية سنة 1913. كما ظهرت مؤسسات وجمعيات ثقافية على غرار جمعية الراشدية (1894) بمدينة الجزائر وكان لها فروع في باقي الوطن، ونادي صالح باي بقسنطينة (1908)، وجمعية التوفيقية بمدينة الجزائر وجمعية الصديقية بعنابة (1908) وجمعية الشبيبة الإسلامية الجزائرية (1921) وجمعية المؤاخاة الجزائرية التي أسسها الأمير خالد سنة 1922، ونادي الترقي بالعاصمة (1927). ناهيك عن دور المسرح والأدب ومختلف الفنون في التعريف بالثقافة الجزائرية وأصالتها. وهكذا، فقد خبر الجزائريون في محنتهم سمّ الاحتلال الاستيطاني بضرب ثقافتهم وهويتهم، ولكنهم أيقنوا أيضا أن الترياق هو تحصين هويتهم الثقافية وحمايتها، وهو ما عملوا عليه بما استطاعوا حينذاك، وواصلوا المسيرة بعد الاستقلال، وعن ذلك حديث يطول.