صلابة وحنكة ودقة واجهت "مراوغات ديغولية" لتقسيم الجزائر عبقرية الثورة التحريرية ظهرت جليا في اهتمام مفجريها بكل التفاصيل المحيطة بها، تفاصيل دقيقة سيكون لها دور محوري إلى جانب الجهاد المسلّح في مختلف مناطق الوطن لكسر "سلسلة" أكاذيب مستعمر ساوى بين "فلاقة" ومجاهد ينشد الحرية، بل أعطى الأفضلية لمغتصب الأرض على حساب صاحبها، فكان الكفاح المسلح يسير جنبا الى جنب مع الكفاح الدبلوماسي فالأول يضرب قوة المستعمر داخليا والثانية تضيق عليه خارجيا بتدويل القضية الجزائرية ووضعها في خانة الثورات التحريرية العادلة، والوقوف في وجه "روايات" استعمارية ألبست أصحاب الحق لباس الإرهاب والهمجية في محاولة بائسة ويائسة لإسكات لمنع بزوغ فجر الحرية بعد ليل تجاوز ظلامه الحالك قرنا ونيف من الزمن. لم يغفل ديبلوماسيو الثورة التحريرية عن حقيقة كونهم صوت الشعب الجزائري المحتل في المحافل الدولية، ليكون سيف الحقيقة القاطع لأكاذيب المستعمر ببريقه وقوة حجته، ما أكسب القضية الوطنية والثورية التحريرية قوة سمحت بوقوف الجزائر الند للند مع القوة الرابعة عالميا. لذلك، أعطت جبهة التحرير الوطني ومنذ اندلاع الثورة في 1 نوفمبر 1954، أهمية بالغة للعمل الديبلوماسي "عن طريق مواثيقها المتمثلة في بيان أول نوفمبر ومؤتمر الصومام والتي تدعو إلى تدويل القضية الجزائرية في المحافل الدولية، لذلك أرسى الوفد الخارجي لجبهة التحرير المقيم في القاهرة أرضية للعمل الدبلوماسي، حيث أسندت له مهمة تدويل القضية الجزائرية على الصعيد الخارجي والقيام بزيارات وبعثات لكسب التأييد الدولي". ووضعت الحكومة المؤقتة استراتيجية مضبوطة للديبلوماسية الجزائرية من اجل كسب تعاطف الدول الشقيقة الافرواسياوية واختراق المعسكر الغربي، ووضع القضية الجزائرية في أجندة هيئة الأممالمتحدة لبلوغ الأهداف المرجوة واسترجاع السيادة الوطنية ونيل الاستقلال. براعة دبلوماسية منذ اللحظة الأولى، وضع بيان أول نوفمبر أهدافا خارجية للثورة التحريرية حدّدها في تدويل القضية الجزائرية وتحقيق وحدة شمال افريقيا في اطارها العربي والإسلامي، من خلال العمل السياسي والديبلوماسية الخارجية لرفع راية القضية العادلة للجزائريين بمساندة الحلفاء الطبيعيين للجزائر، وبهذا رسم البيان توجهات الثورة التحريرية على الصعيد لها بمختلف ابعادها الاقليمية، العالمية والإنسانية، لتتحوّل القضية الجزائرية إلى ثورة تناضل لتحقيق العدالة ونشر مبادئ الحرية والسلام. أما في مؤتمر الصومام 1955، فتمّ تعيين محمد الأمين دباغين مسؤولا عن مندوبية الخارج، بعد أن خطت الدبلوماسية في الخارج خطوة مهمة في مسارها السياسي، بعد مشاركتها في مؤتمر بان دونغ بإندونيسيا في نفس السنة، على اعتبار انه اول تجمع افروآسيوي "أثبت فيه كل من آيت أحمد ومحمد يزيد آنذاك براعتهما الدبلوماسية في إيصال صوت الجزائر إلى المحافل الدولية. وسعيا للحصول على أقوى ما يمكن من التأييد المادي والمعنوي والروحي، وكذا تصعيد الراي العام العالمي لصالح القضية الجزائرية، تمّ تعيين بعثة دبلوماسية كانت القاهرة مقرا لها، تتشكل من حسين آيت أحمد ومحمد خضير، أحمد بن بلة، تظافرت جهودهم ليكونوا سفراء القضية الجزائرية العادلة من أجل الحرية، وليكونوا بذلك جسرا رابطا بين الشعب والخارج ينقل حقيقة ثورة تأبى الاستسلام لهوان الاحتلال وعبوديته. وبكسبهم مساندة الدول العربية، استطاع الوفد إرساء أرضية للعمل الدبلوماسي، ما جعل منه الأداة الدبلوماسية الأولى للثورة التحريرية، حيث استهدف من خلال نشاطه التضييق على فرنساالمحتلة دبلوماسيا في مختلف المحافل الدولية. رِبح أصدقاء جدد في الداخل والخارج، إلى جانب الحصول على مساعدات مادية ومعنوية تعطي الثورة التحريرية دفعة قوية للثبات والصمود وتقليص الفارق اللوجستيكي بين جيش التحرير الوطني وقوات المحتل الفرنسي، وأخيرا استعمال سياسة الانهاك الإعلامي من أجل الضغط المتواصل على الاستعمار. وكان استلام السكرتير العام للأمم المتحدة في 1955 خطابا من أربعة عشر دولة أفروآسيوية يطلبون فيها ادراج القضية الجزائرية في جدول اعمال الدورة العاشرة للجمعية العامة، بداية انتصارات الدبلوماسية الخارجية. وبالفعل طرحت القضية ونوقشت من الهيئة الأممية، ما يُعتبر قفزة نوعية في تدويل القضية واخراجها الى العالم ليسمع صوت الاحرار المرابطون في الجبال والمدن من اجل استرجاع سيادة وطنهم المسلوبة. بل أكثر من ذلك، استطاعت التحركات الحثيثة والنشاط الدبلوماسي من زعزعة الموقف الفرنسي الذي كان يصف الثوار ب«الفلاقة" أو الإرهابيين، حيث أثمرت بأول لقاء سري بين محمد يزيد ممثل جبهة التحرير الوطني في الأممالمتحدة في 21 جوان 1956، فرنسا. لقد صارت الدبلوماسية الجزائرية وعلى رأسها الإعلام تلعب دورا حساسا رئيسيا يتمثل في التصريحات التي كان يدلي بها ممثلو جبهة التحرير الوطني، وكذلك الندوات الصحفية التي يعقدونها في مختلف العواصم الأجنبية، سلاحا فعالا لتثبيت موقف الجزائريين في العالم. واستغلت الدبلوماسية في الخارج مختلف وسائل الاعلام العربية المتاحة من اجل نقل حقيقة ما يحدث في الجزائر، ومواجهة بالدرجة الأولى الخطاب الإعلامي الغربي الذي كان يعمل جاهدا لنقل الرواية الفرنسية عن الثورة التحريرية. كان من بينها البرنامج الإذاعي "صوت الجزائر" الذي كان يبث من القاهرة وتونس، وإذاعة بودابست السرية لتي كانت تذيع برنامج "صوت الاستقلال والحرية"، وبرامج أخرى بمختلف اللغات العالمية حتى تكون خير وسيلة لإيصال وتمرير الرسائل الدبلوماسية لثورة التحريرية. من دبلوماسية "الثورة" إلى دبلوماسية "التحرّر" سطّر الكفاح الدبلوماسي الجزائري للثورة التحريرية في الخارج "عدة طرق وأساليب حيث لم تكتف فقط بالجانب السياسي، بل بكل ما يمكن أن يفيد في التعريف بالقضية ومن هذه الوسائل والأساليب، التمثيل السياسي عن طريق ممثلي الثورة في الخارج، حيث كانوا يقومون بمختلف النشاطات منها عقد الملتقيات والندوات والمحاضرات في المعاهد والجامعات للتعريف بالقضية الجزائرية". إلى جانب فتح مكاتب جبهة التحرير في عواصم الدول المساندة للثورة لتمثيل الجزائر بها، وكذا تنظيم الجالية الجزائرية في المهجر لدعم ثورتهم ماديا ومعنويا، ففي فرنسا أنشأت فدرالية جبهة التحرير التي لعبت دورا كبيرا في تنظيم الثورة داخل دولة الاحتلال، وصنفت قسم العمل السياسي والعسكري بالولاية السابعة، وإنشاء شبكات الدعم لتزويد الثورة بالمال والسلاح". ومع اعلان تشكيل الحكومة المؤقتة في 1958، انتقل العمل الدبلوماسي إلى مرحلة جديدة وتحول من دبلوماسية "الثورة" إلى دبلوماسية "التحرر"، فكانت الممثل الوحيد للشعب الجزائري في المحافل الدولية لزيادة الدعم والمساندة التي ستعطي ثقلا كبيرا للوفود الجزائرية بعد فتح مكاتب لها في مختلف دول العالم، واستحداث مؤسسات الدولة. فيما اعتبر فرحات عباس في تصريح لجريدة المجاهد 10 أكتوبر 1958، "إن تشكيل الحكومة المؤقتة الجزائرية من شأنه أن يجعل التفاوض بين الجزائروفرنسا أكثر سهولة ودقة من ذي قبل". حنكة دبلوماسية تواجه مراوغات "ديغولية" في 1961، سجّلت الجزائر أكبر انتصاراتها الدبلوماسية في هيئة الأممالمتحدة بعد اعترافها بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، واعترفت أيضا بالصفة الدولية للحكومة المؤقتة، معتبرة القضية الجزائرية قضية استعمار تهدّد الأمن والسلم العالميين. هذا واستطاعت الدبلوماسية الجزائرية في اتفاقيات ايفيان من التفطن للمراوغات "الديغولية" ومناورات الوفد الفرنسي المفاوض من أجل فرض اقتراحاته التي كان من بينها الاحتفاظ بالصحراء، لكن صلابة موقف المفاوضين الجزائريين وإصرراهم على مبادئ الثورة التحريرية ورفض أي مسّ لوحدة الشعب والتراب الجزائري منع ذلك. واستطاعت حنكة الدبلوماسيين الوصول إلى امضاء اتفاقية ايفيان الثانية في 18 مارس 1962، والتي نصّت على وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962، ليعقبه استفتاء تقرير المصير في الفاتح من جويلية من نفس السنة، والذي صوّت فيها الجزائريين لصالح الاستقلال ما أجبر ديغول في الثالث من نفس الشهر إعلان استقلال الجزائر، قائلا، "إن رئيس الجمهورية الفرنسية يعلن رسميا أن فرنسا تعترف باستقلال الجزائر"، لتكون انتصارا ساحقا للدبلوماسية الجزائرية، ما زال يحافظ على بريقه العالمي بعد 69 سنة من اندلاع الثورة التحريرية.