فتوح إفريقية لما أبعد فانون من الجزائر لاكتشاف السلطات الفرنسية انخراطه في الثورة، أرسلته فيدرالية جبهة التحرير إلى تونس لينضم إلى أعضاء الجبهة في الخارج.. في تونس واصل نشاطه الثوري وعمل الحساب الصحف الجزائرية الحرة، خاصة صحيفة "المجاهد" الناطقة بلسان جبهة التحرير.. بقي مدافعا متحمسا لقضية الاستقلال الوطني للجزائر. واشتغل على الحدود الجزائريةالتونسية.. وبعدها حصل على منصب عمل طبيب نفسي في مستشفى الرازي بمنوبة الذي كان من أكبر المستشفيات التونسية مماثلا لمستشفى "جوانفيل" بالبليدة، أشرف على معالجة المرضى الجزائريينوالتونسيين المصابين بأمراض عقلية جراء ممارسة المستعمر للتعذيب والتقليل للشعبين.. في هذه الفترة، كان الجنرال الفرنسي شال يثبت الألغام على طول الحدود الجزائرية مع تونس، وذلك بغية منع تدفق الإمدادات على جيش التحرير الوطني داخل الولايات التاريخية الجزائرية، وخنق الثورة من الداخل والخارج. وفي عام 1959م اصطدمت سيارة فانون بلغم على الحدود التونسيةالجزائرية، فأصيب باثني عشر كسرا في سلسلته الفقربة، صاحبتها مضاعفات خطيرة فذهب إلى روما للمعالجة الطبية، وأثناء تنقله من مطار روما للمعالجة في المدينة، تعرضت سيارته للتخريب من طرف السلطات الفرنسية، ولكن السيارة انفجرت قبل الموعد المحدّد، وأثناء ذلك، لاحظ إحدى الصحف أشارت إلى وجوده في المستشفى.. انتقل إلى غرفة أخرى؛ لأنه قبل انتقاله تمّ إطلاق الرصاص على سريره، ولحسن الحظ لم يكن نائما هناك، إن التحاق فانون بركب الثورة الجزائريةبتونس سنة 1957م، لم يكن التحاقا اعتباطيا وإنما كان للرجل ماض ثوري معها منذ اندلاعها في 1954م. في الحكومة المؤقتة اعتبر فرانتز فانون تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة انتصارا حاسما للثورة، فازداد تعلقه بها وراح يقطع كل صلة له بتلك الروابط القديمة بوصفه الأوروبي أو باعتباره يساريا منتميا إلى اليسار الفرنسي ذاته، لأنه وجد ضالته في الثورة الجزائرية التي كانت مفتوحة على كافة المذاهب والإيديولوجيات، وأصبح أكثر استعدادا للانصهار في بوتقة القضية الجزائرية، نظرا لما تحتضن من قيم إنسانية وطنية وعالمية. وقد ذكر ذلك في قوله: "إن الثورة الجزائرية قد أدخلت عنصرا جديدا في دوران معارك التحرير الوطني فضح الاستعمار فضيحة كبرى، فالاستعمار بصفة عامة استطاع أن يحافظ على نفسه كقيمة وكحقيقة في الوقت الذي ينكره التاريخ وتنكره الحقيقة الوطنية، فليس صحيحا أن فرنسا حققت عملا جميلا عندما جعلت من الجزائر ما هي عليه اليوم"، وأضاف قائلا: "إن الجبهة لم تتلاعب بالكلمات، لقد قالت أن هدفها هو الاستقلال، وأنه لا مكان لأي تنازل يتعلق بهذا الهدف.. لقد قالت الجبهة للفرنسيين، يجب التفاوض مع الشعب الجزائري، ويجب أن تعاد له بلاده بأكملها". لقد عرفت الثورة الجزائرية بعد تأسيسها للحكومة المؤقتة سنة 1958م نقلة نوعية سواء من الناحية الهيكلية والتنظيمية، أو من ناحية الاعتراف بها حتى من أعداء الأمس الذين كانوا ينكرون وجود أمة خالصة، وتفجرت عبقرية فانون نتيجة لهذه الانتصارات الكبرى التي تحققت في الميدان على مستوى ثورة التحرير، مما جعله يزداد إبداعا وتفتحا في مجال التنظير والتعريف بها. وفي إطار التحضير لاجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية، الذي تمّ عقده ما بين 16 ديسمبر و18 جانفي 1960م، شكلت لجنتان من أشخاص سموا بالاختصاصيين: اللجنة الأولى: مشكلة من فرانتز فانون، عمر أو صديق، عبد الرزاق شنتوف، محمد الصديق بن يحيى، كانت مهمتها إعداد مشروع برنامج مستقبلي للثورة. اللجنة الثانية: مشكلة من بن يوسف بن خدة، مبروك بلحسن لمين خان، كانت مهمتها إعداد الفانون الأساسي لجبهة التحرير الوطني وإجراء تعديلات على المجلس الوطني للثورة . ونتيجة لجهوده الفكرية والسياسية والمهنية في خدمة الثورة الجزائرية، عينته الحكومة المؤقتة سفيرا للجزائر في أكرا عاصمة غانا سنة 1960م، هذا وقد أثار تعيينه في هذا المنصب من قبل قيادة الثورة الجزائرية اختلافا في الرأي فمنهم من كان يرى أنه كان نادما على تركه لمهنة طب الأمراض العقلية، أما البعض الآخر فيرى أن فانون عمل المستحيل حتى يذهب إلى إفريقيا السوداء، لأنه كان مؤمنا بفعاليته السياسية، وكان يعتقد أنه يمكن أن يخدم القضية الجزائرية من هناك من جهة، وأن يقدم لإفريقيا جهودا لها وزنا كبيرا من جهة أخرى. إسهامات فانون.. من أجل الوحدة الإفريقية إن أول خطوة خطتها الشعوب الإفريقية في سبيل تضامنها ووحدتها من أجل التخلص من عنف الاستعمار تجلت في تلك المؤتمرات التي جمعت بين شعوبها والتي تمخضت عنها قرارات تدعو في مجملها إلى حقها في تقرير مصيرها ومن أهمها: مؤتمر باندونغ الذي العقد في 18-24 أفريل 1955م حيث جمع هذا المؤتمر جميع الدول المستقلة من آسيا وإفريقيا لتبحث معا عن وسائل القضاء على الاستغلال والتخلف، وتفكر في وضع أهداف ومبادئ عامة تخدم الحرية، فانعقد المؤتمر بأندونيسيا وحضر المؤتمر تسع وعشرين دولة إفريقية وآسيوية، كما حضرته كثير من الوفود الممثلة للشعوب المكافحة في طليعتها الشعب الجزائري. وإذا كان مؤتمر باندونغ مؤتمر حكومات دول، فإن مؤتمر القاهرة المنعقد ما بين 26 ديسمبر 1957 و 01 جانفي 1958م مؤتمر شعوب وحركات وطنية وسياسية ونقابية. وحضرته أربعة وأربعين دولة أفرو أسيوية، حيث قال فيه رئيس الوفد التونسي علال البلهوان عن القضية الجزائرية خلال تدخله مبينا بالخصوص الترابط المتين بين القضية الجزائرية وقضايا إفريقيا: "لو شبهنا قضية الجزائر في إفريقيا لشبهناها بقضية الهند بآسيا، فلما استقلت الهند استقلت شعوب آسيا كلها تقريبا، إندونيسيا، سيلان، بورما الباكيستان، الفيتنام فاستقلال الجزائر سيكون الضربة القاضية للاستعمار في إفريقيا كلها". وشهدت مدينة أكرا (غانا) مؤتمر للدول الإفريقية المستقلة والذي انعقد في 15-22 أفريل (1958م)، حضرته ثماني حكومات إفريقية مستقلة. وكان هدفه الأساسي تحرير الأقطار الإفريقية من الهيمنة الاستعمارية ودعم كفاحها بالوسائل المادية والسياسية وعلى رأسها الجزائر التي تخوض حربا ضارية ضد المحتل الفرنسي بقيادة جبهة التحرير الوطني. أما مؤتمر منورفيا بليبيريا الذي تم انعقاده يوم 14 أوت 1959م فقد جمع وزراء خارجية الدول الإفريقية المستقلة مصر وليبيريا وغينيا والسودان والحبشة إلى جانب حكومة الجزائر لدراسة مشاكل الدول الإفريقية خاصة الجزائر، حيث اعترفت كل من غانا وغينيا بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وكان اعترافهما دليلا على قوة التضامن بين الشعوب والحكومات الإفريقية، وهذا يعد مكسبا جديدا للثورة تحرزه إفريقيا، وقدمت بذلك ضربة قاسية للدعاية الاستعمارية المضللة التي تحاول أن تفرق بين دول إفريقيا. كما كان مؤتمر كوناكري المنعقد يوم 11-15 أفريل 1960م، بمثابة مرحلة متقدمة في هذا التضامن وتأييد النضال التحرري، ومما ساعد على ذلك هو إحراز شعوب إفريقيا وآسيا على عدة انتصارات، فقد تحررت معظم دول آسيا ونالت عدة دول إفريقية استقلالها مما جعلها تضيف قوة جديدة الحركة التضامن الآفرو-آسيوي. واتخذ المؤتمر قرارات تتعلق ب22 بلد في إفريقيا وآسيا منها الجزائر (90). كما اجتمعت في أديس بابا بأثيوبيا الدول الإفريقية المستقلة من 14 إلى 24 جوان 1960م، وقد التقى فيه وفود من 13 دولة إفريقية عالجت من خلاله المشاكل التي تعاني منها شعوب القارة الإفريقية. فانون.. على المستوى الإفريقي كانت الثورة الجزائرية عندما انضم إليها فانون، قد تجاوزت النطاق المحلي، وأصبحت موضوع تعاليق الدبلوماسية في أنحاء العالم، وفي مقدمته البلدان الإفريقية، وظهر اهتمام الأفارقة بهذه الثورة في أشكال مختلفة تمثلت أحيانا في قيام بعض المناضلين بالاتصال بقيادة جيش التحرير يطلبون منها المساعدة حتى يتمكنوا من الإعداد للثورة المسلحة في بلدانهم. فقد كان فرانتز فانون يرى أن تأثر شعوب إفريقيا بالكفاح المسلح في الجزائر يعود إلى اقتناعهم بمبادئ الثورة الجزائرية وكفاحها المتصاعد يوما بعد يوم، بل وإلى قيمها الإنسانية المجسدة في التعامل مع الأسرى ومع المدنيين، وهو الشيء الذي زاده إيمانا بضرورة خدمة القضية الجزائرية من أي مكان في العالم. حيث اعتبر أن ثورة أول نوفمبر نموذج الحركة التحرر في العالم الثالث، فالحرب التي كانت في الجزائر هزت الأفارقة، وبرز ذلك في مختلف أقطار القارة التي تعاني من الاحتلال من خلال تزايد عدد الأحزاب التي تدعو إلى الاستقلال والتأكيد على ضرورة الاعتماد على الكفاح المسلح. لذلك كانت بمثابة القدرة النضالية والتحررية خاصة في إفريقيا التي هي جزء لا يتجزأ منها، والتي كانت هي الأخرى بها شخصيات نضالية مماثلة، لفانون وهو باتريس لوممبا. من الكونغو الذي اتبع خطى فانون، كان أول اتصال لفانون بإفريقيا أثناء انعقاد المؤتمر الأول للشعوب الإفريقية، في أكرا بغانا من 8 إلى 12 ديسمبر 1958م، تحت شعار "يجب أن تكون إفريقيا حرة"، وحضره أكثر من 300 مندوب يمثلون 69 هيئة في إفريقيا.. ومثل الوفد الجزائري كل من أحمد بومنجل فرانتز فانون وشوقي مصطفاوي حيث قال فانون عن هذه المشاركة: استقبل الوفد الجزائري الذي يتشكل من خمسة أعضاء استقبالا حماسيا في أكرا، وقد لاحظنا في أكرا أن الأوجه الكبيرة للثورة الجزائرية بن بلة وبن المهيدي وجميلة بوحيرد قد دخلت الملحمة الإفريقية.. وقد خصصت مكانة ممتازة لأعضاء وفدنا إذ عين أحدنا في اللجنة الإدارية للمؤتمر وانتخب الآخرون كل لرئاسة أو نيابة عدة لجان..". ضم المؤتمر كل الحركات الوطنية في إفريقيا، وسجلت القضية الجزائرية حضورا قويا من خلال جلساته الذي درست فيه تجربة الكفاح المسلح الجزائري. واستقبل الوفد الجزائري استقبالا حماسيا وخصصت له مكانة ممتازة، وفي هذا المؤتمر ألقى أحمد بومنجل خطابا أكد فيه أن شروط وطبيعة تحرر أي شعب مرتبطة ارتباطا وثيقا بمحيطه التاريخي والجغرافي، وتدخل فانون بدوره والذي اتسم خطابه بحدة عندما طالب الأفارقة بالوحدة بما أن القارة الإفريقية تعيش تحت كابوس الاستعمار الأجنبي، ويجب القضاء على الفكرة التي تقول إن الاتحاد للبلاد الفقيرة هو تجميع للفقراء، لا ينتج عنه سوى الفقر، التي أصبحت تعبر عن معنى جامد، فعلى الشعوب الإفريقية أن تعي أنه لم يحكم على أي بلد بأن يبقى فقيرا بصفة نهائية، وأن الوحدة والتضامن بين الشعوب هي الكفيلة بجعل هذا البلد أو ذاك حرا مستقلا وغنيا شعبه. ولقد بقي فانون اثنا عشر يوما أسفرت عن تكريس علاقته بنكروما وسكيتوري، وتعرف على الزعيم الكاميروني فليكس مومي، وقائد حركة الاستقلال في كينيا والأمين العام النقابي بها بويا، وأيضا رئيس تنزانيا المستقبلي جيلييس نيجار والقائد الأنغولي روبار تو هولند والزعيم الكونغولي باتريس لوممبا. وبعد هذه الندوة، اقترح فانون تكوين جبهة إفريقية المساندة القضية الجزائرية"، كما اقترح ضرورة تحقيق وحدة نقابية بين الأفارقة من خلال إنشاء مشروع مركزية نقابية إفريقية كان يرى فيه خطوة حقيقية لتغيير اجتماعي واقتصادي جذري بعد تحقيق الاستقلال السياسي. وفيما بين 26-31 مارس كان لفانون لقاء آخر مع إفريقيا من خلال المؤتمر الثاني للكتاب والفنانين السود، وحين اعتلى المنصة ودعا إلى ضرورة الكفاح من أجل تحرر إفريقيا وتخليصها من مخلفات الاستعمار على كل المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية، كما أكد في خطابه على ضرورة نشر الوعي الوطني وترقيته في أذهان الناس، حفاظا على الثقافة الوطنية باعتبارها تشكل العمود الفقري في الهوية الوطنية، ضف إلى ذلك فإن الرجل قد شارك في عدة ندوات منها ندوة حول السلم والأمن في إفريقيا المنعقدة ما بين 07-10 أفريل 1960م، وفي نفس السنة ما بين 12-15 أفريل شارك في الندوة الإفريقية الأسيوية بكوناكري، وما بين جويلية وأوت من نفس السنة حضر ندوة الشبيبة الإفريقية باكرا، كما شارك في الندوة الثالثة للدول الإفريقية المستقلة في أديس بابا بإثيوبيا في جوان من السنة نفسها. كان فانون يحلم بالوحدة الإفريقية، وتحررها من الاستغلال الأجنبي في شتى المجالات الاقتصادية السياسية والثقافية، كما حمل فكرة التحرر للعالم الثالث المستعمر المغلوب على أمره، وراح يتحدث في مختلف المؤتمرات الإفريقية وأنديتها بوصفه يعبر عن وجهة نظر الدبلوماسية الجزائرية، كما قدم الجزائر كنموذج لحركة التحرر من الاستعمار، وكان شاهدا عليها كحركة تحرر وطنية. وفي 30 أفريل 1959م جاء في تصريح الحكومة الفرنسية أنها ستقطع علاقاتها مع أول حكومة تعترف بالحكومة المؤقتة الجزائرية، ولكن هذا التهديد تجاوزته الاعترافات التي جاءت بعد 1960م من غانا، ليبيريا، الطوغو، مالي، الكونغو، الاتحاد السوفياتي، وهذا بفضل الدبلوماسية الجزائرية، التي مثلها فانون في إفريقيا. الحلقة الثالثة