بحثتُ عن كلام يليق بالرجل، الذي قصفته طائرة، فارتقى هو وامرأته! ولعلي لن أجد ما يوازي قامته السامقة المؤمنة الجميلة. إنه الشيخ الشهيد يوسف سلامة، الذي زرته في بيته، قبل شهور من الحرب! وكالعادة هشّ وبشّ، وفرد العَشاء، في صالته الوسيعة، وكانت ليلة كاملة. وقد صدمت لحظة تناقلوا خبر استشهاده، فبكيت الرجلَ، الذي عرفته، بدماثته وصبره وحزمه وسعة صدره، أيام كنّا معاً في الهيئة العامة لمجلس التعليم العالي، وأيام كان وزيرا للأوقاف.. وربما أهم ما ميّزه أنه لم يُنافق، ولم تُخضعه الوظيفة أو تغريه الدنيا. كان يحترم ذاته، ويقول الحقّ، وإن أغضب صاحب السلطان. لم ينغلق على بُعد واحد أو رأي فقهي بعينه، بقدر ما استمع.. وقدّم رأيه، بتواضع ومعرفة جمّة.. ويشرحه، أحياناً، ملفّعا بالظُرف وخفّة الدم. وهذه كلمات وفاء وعرفان ومحبة، أضعها توطئةً لسيلٍ عارم من النبض المُحبّ، الذي أُحيط به الأخ الصديق الشهيد العالِم الجليل، ما يؤسس لشهادات توثّق مسيرة وتجربة واحدٍ من أبناء الشمس، وقائد دينيّ مضيء، ونموذج فذّ من الذين قدّوا أعمارهم في البحث وتقليب المراجع، وصولاً إلى غير موقع متقدّم في الفعل الوطنيّ الفلسطينيّ. كان حبيبي الشيخ يوسف ؛مثالاً فريداً للنقاء والعمل الدؤوب، وأيقونة مشعّةً بعيدةً عن الشهوات والبريق والمكاسب. إنه الساطع الحقيقي، بكل فطرته وعلمه وبراءته، والتي نفتقدها، الآن، على نهج قول: و«في الليلة الظلماء". فهو من الذين نبتوا مع إرهاصات العمل الوطني، فكان ممن كرّسوا خطاب البسطاء النبيل الداعي إلى الوحدة، عملياً، والطاهر فعلياً، ما جعله القاسم المشترك طيلة سنيّ حياته. وقد تمتّع بحكمة النّحل، دون أن يقع، بسذاجة، في رغوة التنظير الطامّة والشكلانية، أو لطمعٍ في موقع أصابته الشعاراتية أو الرومانسية المتسطّحة! فكان معادلاً موضوعياً لعلماء تاريخيين مؤسسين، وقد وهب حياته لله تعالى، وللمسجد الأقصى الذي كان من خطبائه، ولخلاص البلاد والعباد .يدعونه للعمل فيلبّي بصمت الجندي المجهول المنذور للشهادة. كان موعده مع الفعل الدؤوب، فتجلّى حدّ الضوء، ولم يُلقِ مرساة العلم، بل ظلّ يسعى إلى أن أكرمه الله تعالى بالشهادة، فظلّ متعلّقا بطمي الوطن الريّان بالدماء.. ولم يكتفِ الرجل بالفعل المثابر الدؤوب، بل سجّل رؤيته وتجربته في غير كتاب وبحث، وقال ما ينبغي أن يقوله الرُّسل للناس والتاريخ..، أي أنه فعل ثم قال، مصداقاً لخطواته االراسخة، لتبقى روح الجماعة متّقدةً بنفحات الشهداء وهتاف الشوارع والزنازين الغاضبة، ، فصارت وشماً على جدران الأرواح الشاهدة والشهيدة! وظلّت أغنية غزّة الطازجة، في وجدانه لا تقرّ للاحتلال بأي شيء.وكان واضحاً، ومبذولاً للوطن، ومريحاً، وهو يجترح أي فعل أو كلمة، بكل بهائهما، ليشهدا له ولاسمه المبارك العزيز. الشيخ يوسف، الذي لم تلوّثه الدنيا، ولم تكسره أباطرة الإصلاح الكاذب، أو حُكام التقطيع والبيع.. واجه السواد والإحباط والكآبة وعوامل الاستلاب والرداءة والبشاعة بالفعل الصافي الذي لم يداهن، ولم يكن مُبْهماً بأخٍ عدوٍ أو بنَمَشٍ غريب، لم تصافحه العواهل، ولم تحضره الياقات ولم يلتق الغرباء، ولو من بعيد! بل لم يشوّه أباه الطيني بلمعة الوظيفة أو بحذف النشيد، ولم يرتبك كالطارئ المفضوح! ولم يضع في ألبومه غير صورة ذلك الثائر أو الغارق بدمه أو المطرود من بلاده، لأنهم فرسان البلاد، ورؤوسها التي لم تنحن إلاّ على الأعواد أو فوق النطوع. إننا بحاجة، الآن، إلى الرجل الواضح الجامح المُشعّ الحاسم، ذلك لأن الانهيار البادي.. لا يحتمل الانزواء، أو هجرة الكحليّ وموزّع النار والمدارك، أو الذهاب إلى الهامشيّ أو المُلتبس، أو الكرنفال المصنوع.. لأن الشيخ لم يذهب للهامش أو المُعتم أو الجوّاني المُحطم أو بذخ المسؤول والتأمل المجّانيّ، أو إلى رماد النفس الأمّارة بالسوء، بل ظلّ مشتعلاً كقنديل في عقد حجري كنعاني طاعن بالعشب والندى.. إننا نفتقد هذا القائد الروحي، العالِم، النازل إلى الأرض، حتى يرجع زهرة أو شقيقةً أو غرسة فرح.