يحمل الحقوقي ميلود براهيمي رصيدا بأربعين سنة من الممارسة اليومية للمحاماة، وهي المهنة التي لم يكن يفكر فيها لدراسته الرياضيات، وبعد استرجاع السيادة الوطنية غير الاتجاه لدراسة العلوم السياسية والقانون لينضم إلى نقابة المحامين سنة 1970. وانتزع لنفسه موقعا متقدما في الدفاع عن حقوق الإنسان وتكريس ثقافة الديمقراطية ومن ثمة يتابع عن كثب تطور التعددية الإعلامية وممارسة حرية التعبير التي تجسد حقيقة الخيار الديمقراطي. ويجيب الأستاذ براهيمي الذي استقبلنا بمكتبه عن جملة من التساؤلات في هذا الحوار من خلال مختلف جوانب المسألة التي أصبحت حقيقة ملموسة وان كان لا يزال ينتظرها الكثير من حيث جودة الأداء في مواجهة ما يسوقه الغير حولنا. وفيما يلي مضمون الحوار: @ «الشعب»: في اليوم العالمي لحرية التعبير وكونكم متابع للشأن الإعلامي في الجزائر، ما تقييمكم للموضوع من حيث ما له وما عليه؟ @@ ميلود براهيمي: يفرض الحديث عن مسألة حرية التعبير التمييز بين واقع الصحافة المكتوبة من جانب والإعلام السمعي البصري من جانب آخر، والحقيقة أن الصحافة المكتوبة تمتاز بأنها حرة بشكل تام ولا يمكن الجدال حول الأمر، كونها تعمل بحرية كبيرة جدا ويعود الفضل في ذلك هذا بالأساس لحركة الصحافيين الجزائريين خلال النصف الثاني من عقد الثمانينات وقادها إطارات ذات وزن من أسرة الصحافيين منهم من هم على رأس جرائد مستقلة حاليا. غير أن الغريب في الموضوع اليوم لما نطالع تقارير منظمات غير حكومية تفيد وبدون موضوعية إطلاقا أن الجزائر بعيدة عن حرية التعبير، وفي هذا جهل للواقع ويعكس وجود موقف جاهز يسوق لنظرة سلبية تعود لفترة العشرية السوداء وأنا أسميها العشرية الحمراء وتسويق تلك المنظمات لسؤال من يقتل من بينما الوضع كان يعبر عن نفسه بشكل جلي. وهنا أقول لتلك المنظمات وأطمئنها أن الصحافة المكتوبة حرة في بلادنا وبلغت ممارستها الحرة للإعلام مستوى جد متقدم بالمعايير العالمية وهذا نعيشه يوميا بما في ذلك الرسوم الكاريكاتورية التي أتحدى بلدانا أخرى خاصة من العالم العربي أن تنشرها. غير انه بالنسبة للإعلام السمعي البصري فالمسألة تختلف، فقبل سنة كان وضع معين يجسد وجود التلفزيون العمومي وهو يفتقر للحرية المطلوبة، وبعد أن ظهرت قنوات خاصة لديها نوع من الحرية وهي في مرحلة التعلم، بدأت الوضعية تتجه نحو التحسن. وحسب علمي يوجد مشروع لتحرير السمعي البصري أعدته الدولة من أجل فتح المجال للمنافسة وأتمنى أن يتجسد هذا قريبا، علما أنني شاركت في الورشات وبالمناسبة أدلي بشهادة مفادها أن رئيس الجمهورية أعطى حينها تعليمات من اجل الذهاب بعيدا في تحرير قطاع الإعلام ومنه السمعي البصري، وذلك خاصة بتكريس مبدأ عدم تجريم مخالفات الصحافة. وهنا للأسف وجدت الوزارة المكلفة آنذاك صعوبة حقيقية مع موقف وزارة العدل التي تذرعت بعد المساس بقانون العقوبات علما انه يتضمن عقوبات في الموضوع. وفي سنة 1966 كنا في ظل نظام أحادي لم تكن جنح الصحافة مطروحة، حيث تم إدراج جنحة القذف في قانون العقوبات. ومن ثمة أتمنى أن الوفاء بالتزام إلغاء تجريم الصحافة في انتظار أيضا صدور قانون السمعي البصري وبعدها تتضح الأمور. وبرأيي الايجابيات اكبر من السلبيات بلا شك، علما أننا في زمن يفرض حرية التعبير على المجتمعات بفعل الفضاء المفتوح بدءا بالمقعرات ووصولا إلى الشبكة العنكبوتية (الانترنيت) ولم يعد ممكنا البقاء في عزلة عن العالم. والأفضل أن نتجه إلى تحرير القطاع وتسييره بذكاء تفاديا لحدوث انحرافات وانزلاقات تضر بحرية التعبير، مثل تضخيم الأحداث سعيا لربح التجاري وتسويق صورة مغالطة وسلبية عن البلاد والمجتمع مما يؤثر في بناء الأجيال وخاصة الشباب، بينما المنطق يفرض التزام وسائل الإعلام بمسؤولية اكبر لتنمية مساحة الحرية . @ تتميز هذه السنة بفتح ورشات إصلاح الإعلام تزامنا مع تعديل الدستور، كيف يمكن ترسيخ وتعميق الحق في الإعلام وحرية الرأي؟ @@ يضمن الدستور حق المواطن في الإعلام وممارسة حرية التعبير، إلا أن الواقع بدون شك يقدم صورة تثير الجدل وتطرح تساؤلات بشأن الموضوع. وإذا كان الدستور القادم سيؤكد هذه المبادئ يبقى التطبيق مسألة ترتبط بمدى تحقيق استقلالية فعلية للقضاء في مجتمع يقدم على انه ديمقراطي. والدستور كوثيقة أساسية يخص السلطة والأحزاب كونه يعكس مشروع مجتمع بينما يتولى المختص في القانون الدستوري جانب صياغة الأحكام الدستورية. والواقع أن المبادئ العامة واضحة، لكن أملي إدراج قضايا مثل ترسيم اللغة الأمازيغية لتجاوز هذا النقاش ودسترة حقوق المرأة علما أن خطوات هامة تم قطعها في هذا الشأن وكذا الوصول إلى الحسم في العهدة الرئاسية بشكل يضمن مبدأ التداول. لقد أكدت للجنة الحوار برئاسة السيد عبد القادر بن صالح لما استقبلت كشخصية وطنية أن الذهاب إلى نظام ديمقراطي يفرض منذ البداية وضع ضمانات لحماية الديمقراطية من أي مساس أو تهديد قد يصدر ممن يدعي انه صاحب الأغلبية الانتخابية. وفي هذا الإطار تحدثت عن دور الجيش في حماية الدستور. وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد على أن هناك خطا احمرا لا يسمح بتجاوزه من أي كان، كما أن الديمقراطية كنظام وممارسة لها جانب تقني يتمثل في الوصول إلى السلطة للأغلبية، وجانب أخلاقي يتمثل في جملة المبادئ الديمقراطية وضرورة احترامها، ومن ثمة لا يمكن استعمال الديمقراطية لاغتيالها فيما بعد، ولعل التجربة التركية جديرة بالاهتمام فتركيا البلد الوحيد في العالم العربي والإسلامي القائم على الديمقراطية. @ حرية الفرد تنتهي عند بداية حرية الآخر، ألا تعتقد أن الساحة انزلقت إلى ممارسات تعرض مبدأ حرية التعبير للضرر، وأين يبدأ وينتهي القذف؟ @@ في الحقيقة ومن جانب روح النصوص التشريعية فان القانون يميز بين القذف والسب والشتم، فالقذف هو إلصاق تهمة بشخص علنية بالتصريح أو النشر أو الادعاء بذلك أمام العامة. وهذا أمر موجود بينما بعض الممارسين لمهنة الإعلام والصحافة لا يحذرون في ذلك ونتابع كيف تطلق اتهامات مباشرة ضد أشخاص أو هيئات بينما بالإمكان القول والكتابة بصيغة حذرة كالقول للمعنيين إنكم متهمون بكذا قضية وإعطاء فرصة الرد والتوضيح في انتظار أن تفصل العدالة في مثل هذه القضايا. وألاحظ انه لا يوجد تمييز بين الحقيقة وما يعتقد الصحافي انها حقيقة، وإذا كان يحق للصحافي الاعتقاد بأن شخصا ما محل تهمة أو فساد فلا يحق له أن يقل له انك سارق على اعتبار أن هناك مبدأ قرينة البراءة التي يكرسها الدستور والمواطن بريء إلى أن تثبت إدانته من القضاء وفقط. @ إذا كانت حرية التعبير قاسما مشتركا، هل يتم حمايتها بالقانون أم بالأخلاقيات، وكحقوقي هل أنت راض عن درجة احترام أخلاقيات المهنة؟ @@ الأصل أن حرية التعبير ترتبط بالقانون الذي يضع الضوابط، وفي نفس الوقت إنها مسألة تدخل في جانب الثقافة على مستوى الفرد أو المجتمع. والصحافة الجزائرية حققت مسارا مشرفا بما فيها الصحافة العمومية التي تلعب أيضا دورا، علما أن المهنة واحدة ولا تتجزأ انطلاقا من قيمها الأخلاقية والتنوع الإعلامي مؤشر صحي يؤكد حيوية المجتمع الذي لا يمكن الحد من طموحاته ومنها المعرفة والحصول عل المعلومة في كافة الميادين مما يعطي للصحافي الحق في الوصول إلى مصادر الخبر. وبرأيي المفروض أن يتفتح نقاش داخل المهن نفسها وأتذكر حركة الصحافيين كيف كسرت القيود وفرضت نفسها طرفا شريكا وهو ما تفتقر إليه الساحة بالرغم من وجود تطور ايجابي رغم أن وتيرته بطيئة ويجب تسريعها من المهنيين أنفسهم بالالتزام بالمهنية والأخلاقيات. @ بين الصحافة والقضاء فترات أزمة وأخرى للمصالحة، كيف تنظر للعلاقة بينهما، وعلى اعتبار حرية الصحافة كل لا يتجزأ هل يحق للبعض احتكارها وبماذا تشعر لما يرفض البعض نشر حق الرد؟ @ ما حصل نتيجة لغياب ثقافة الديمقراطية في السابق لكن الأمور بدأت تتطور في المدة الأخيرة ومن الطبيعي أن لا تقبل بعض الأطراف وبسهولة حدوث التحولات التي تفرض نفسها ومن الأحسن التعاطي معها من البداية. لكن ألاحظ وجود مناخ ايجابي بدليل أن النيابة العامة لا تقوم بالمتابعة القضائية للصحافيين بطريقة آلية خاصة بعد إلغاء جنحة الصحافة. وبخصوص حق الرد أو التوضيح فانه يرتبط بمفهوم استقلالية المهنة الصحفية وكم هو مؤلم لما لا يجد من يعتبر نفسه ضحية أو مظلوما الصدى لدى هذه الجريدة أو تلك. ولقد استقبلت الكثير من الحالات من هذا النوع، ورغم وجود القانون الذي يحمي هذا الحق إلا انه لا يحترم من البعض وربما بتأسيس مجلس مهني لأخلاقيات المهنة يمكن تصحيح الأمور على أن لا يكون هذا المجلس بيروقراطيا وإنما يكون جريئا ومستقلا حتى يؤدي دوره كاملا بما فيه الجانب التربوي للمهنة وينتظره عمل كبير. @ ما تعليقك على تقارير منظمة حقوق الإنسان في مجال حرية التعبير وممارسة الصحافة، وكيف يمكن تحرير هذه الأخيرة من الايديولوجيا؟ @@ هذا مرده للنظرة السلبية ضد بلادنا لا سيما خلال العشرية الحمراء والتي تشكلت خلالها صورة غير طبيعية لدى عدد من تلك المنظمات لا سيما التابعة للحزب الاشتراكي الفرنسي. إنها صورة خاطئة تماما ومغالطة للرأي العام في وقت قطعت فيه الجزائر أشواطا كبيرة يبدو أن أصحاب تلك النظرة السلبية مصممون على تجاهلها لأغراض يعرفونها هم بالتأكيد. وبصراحة لا غبار عليها إني ارفض تماما ما ورد في تلك التقارير عن الصحافة وحرية التعبير كونها تحمل مغالطات وبعيدة عن الواقع الذي يسقط تلك الأوهام. ومن جانب آخر الإعلام يرتبط بالايديولوجيا وهذا طبيعي، لكن المطلوب أن تعطى الفرصة في التعبير للجميع بدون إقصاء، والمسألة تتعلق بثقافة التسامح وقبول الآخر رغم الاختلاف حتى يمكن الخروج كمجتمع من وضعية أشبه بالفوضى.