وجّه رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، رسالة إلى الشعب الجزائري بمناسبة إحياء يوم العلم المصادف ل16 أفريل، فيما يلي نصها الكامل: «بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين
عزّ عليّ ألا أحتفل، مع كافة المواطنين، بيوم العلم هذا، كدأبي كل عام، لذلك أبيت إلا أن أشاركهم الإحتفاء به عشية تاريخ الإنتخاب الرئاسي. وهو موعد وطني في غاية من الأهمية، سيجمعنا لتفعيل سيادتنا باختيار المرشح الأنسب والبرنامج الذي سيكون منهاجا لقيادة بلادنا خلال السنوات الخمس الآتية. إننا نقف جميعا هذه الوقفة في ذكرى وفاة رائد نهضتنا، الإمام عبد الحميد بن باديس، عليه من الله شآبيب الرحمة والمغفرة. لقد نذر حياته كلها وأفنى زهرة عمره لنشر العلم والوعي الديني والوطني، واضعا نصب عينيه، في المقام الأول، تنوير العقول لأنها أساس كل نهضة في هذه الحياة الدنيا وتحريرها من قيود الجهل والتجهيل التي فرضها المحتل البغيض، فأيقظ بذلك شعبنا من سباته، ونفض عنه غبار الخمول، وحرّك الهمم في كل مكان من أرض الجزائر. إن ذلكم الرجل، الذي قيّضه الله للشعب الجزائري، كان نعم العالم، والمجاهد، والقائد. فقد أبان في سعيه ذاك عن نظرة حصيفة شمولية ما تركت مجالا من مجالات النضال، والعلم، والتعليم، إلا طرقته، ولا بابا من أبواب الخير للبلاد والعباد إلا فتحته. لقد رام استعادة مكونات شخصيتنا الأصيلة، من لغة وهوية، كان المستعمر قد بذل قصارى جهده في طمسها. بن باديس جمع بين العلم والجهاد لقد جمع عبد الحميد بن باديس بين العلم والجهاد فأحسن الجمع، وكان خير قدوة لطلابه ومريديه في مختلف جهات القطر الجزائري. لقد عرف كيف يواجه المستعمِر، فعمل على نشر أسباب الوعي بين أفراد شعبه في المساجد، وفي المدارس الخاصة التي أنشأها في كل مكان من الجزائر، ووجه ضربة قاصمة للمشعوذين والعملاء وأصحاب الممارسات الضالة وأعد أبناء شعبه لكي يدخلوا هذا العصر بكل جدارة، ويتمكنوا من أن يقفوا الند للند في وجه الغزاة ومن كان يسير في ركابهم. وبالفعل، فقد سعى تلاميذه ومريدوه إلى اكتساب العلوم والبحث عنها في مضانها من أجل وضعها في متناول كل جزائري وجزائرية. فكان بذلك نعم المجاهد والعالم، صاحب النظرة النيّرة الحصيفة. ولم يفرق في مسعاه ذاك بين الذكر والأنثى في مجال التحصيل المعرفي حين انبرى لمهمّته، مفسّرا للذكر الحكيم، وللوعظ والإرشاد، ولتوجيه الطلبة إلى مختلف مجالات الكسب العلمي النافع، فضلا عن رئاسته لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وحسن تعامله مع خيرة أبناء هذا الوطن من علماء يحبون الخير لشعبهم ويريدونه أن يكون في صدارة الشعوب المتقدمة. لقد أدرك ابن باديس بنظرته الثاقبة، أن الحياة ينبغي أن تكون مكتملة الجوانب. وعلى الرغم من الضغط الذي ظل الإستعمار يمارسه على شعب الجزائر، آلى ابن باديس على نفسه أن تتكامل الجوانب الحياتية كلها بين طلبته ومريديه، فكان يشجع على الرياضة وارتياد النوادي الرياضية من أجل تحصين أبناء الجيل الطالع من كل أشكال الخمول، ونسق جهوده مع بقية روافد الحركة الوطنية على اختلاف مشاربها وقد سار غيره من العلماء على منواله واستلموا منه مشعل التنوير، واكتملت المسيرة حين انتقل إلى جوار ربه راضيا مرضيا. لقد أولت الجزائر كل العناية للمعلم والتعليم، منذ أن استعادت سيادتها، يقيناً منها أن العلم وحده هو الذي يمكنها من سد الفجوة بين قصور ذات اليد وما تتطلع إليه العين، ولأنه النهج الذي سارت عليه الحركة الوطنية منذ بدايتها، النهج القائم على استجماع أسباب التخلص من الإحتلال الأجنبي الغاشم بمحاربته ببعض ما اعتزمت نخبة شعبنا مجاراته فيه من فكر علمي، وتخطيط علمي، وتنفيذ علمي، إلى أن مكن ذلك من خوض الثورة التحريرية المباركة وتكليلها بالنصر المبين. إن العناية تلكم، مهما عظمت، تظل غير كافية لاستيفاء كل شروط التكفل الأمثل بصقل ملكات وقرائح أجيالنا الجديدة وتفتقها، بالإبداع العلمي والفكري والفني، وتفرض علينا تعهدها بالمزيد. ونقول هذا ونحن على ثقة بأن ما بلغناه ليس هيّنا في حد ذاته، إذ أن نظرة سريعة إلى سجل الإنجازات التي تمت ما بين 1999 و2014 تكفي للإلمام بقدر جم من المكاسب يبرهن برهانا ساطعا على الجهود المعتبرة التي بذلناها. إنّ ما تحقق لمجتمعنا، التواق إلى النهوض والتقدم، من حرية الفكر والتعبير، منذ 1999 غير متاح في كثير من البلدان. ومن ثمة، فهو يلقي اليوم على عاتق المعلم والمتعلم والعالم والمفكر والفنان مسؤوليات جساما في صنع النهضة الشاملة التي نصبو إليها بالإبتكار والإبداع اللذين لا ينتقلان من جيل إلى جيل بالوراثة وإنما بالكد في التحصيل والمغالبة والجدارة والإستحقاق. عهدي بالجيل الجديد من الجزائريات والجزائريين أنه، كسابقه، لا يرضى لنفسه الهروب من الصعب إلى السهل من الأمور، ولا يتقاعس عن إقتحام القمم الشاهقة جنوحا إلى سهولة الوهاد الممهدة. ومن ثمة، يصبح جديراً بأن نوليه من العناية ما هو لازم لجيل نراه متوثّبا وعلى وشك اجتياز طور المحاولة والتجريب، وبألا نتركه فريسة لعبث الظروف تجرفه إلى حيث تشاء. إنه، بما جبل عليه من طموح إلى المعالي، أهل لأن نشد يده ليصعد، ولأن نتعهده بالمؤازرة والدعم حتى يتمكن من فرض ذاته وإثبات أهليته فرضا وإثباتا لا جدال فيهما. إن المتأمل في الطريق الذي قطعناه في إعداد مواردنا البشرية يلاحظ لا محالة أننا لم نتوصل بعد إلى تمام التحكم في الاعتماد على نتاجه القابل للتعويل عليه في تنمية البلاد، وإننا ما نزال نبدد الكثير من الطاقات بفعل غياب تنظيم جاد محكم يحل من هو مؤهل في المكان الملائم له. والطاقات المهدورة هذه تشمل، فيما تشمل، شبابنا المتعلم المكون في الداخل وفي الخارج على نفقة الأمة الذي يتخرج وهو حائز من العمل ما نحن في أمسّ الحاجة إليه، ليجد نفسه مكلفا، بل ومكبّلا، بما لا يوافق اختصاصاته ومهاراته. فذلك إهدار لأغلى طاقاتنا، وإهدار لتكاليف باهظة، وإهدار لوقت لا يعوض، في عصر تتسابق فيه الشعوب إلى التفوق والتقدم تسابقا لا يرحم، وتتنافس على التميز والإمتياز تنافسا صارما. إننا نبعث الصفوة من شبابنا إلى مختلف بلدان العالم لتحصيل علومها المتقدمة، ثم ننساهم بعد الرحيل ولا نعتني، يوم يعودون، بإدراجهم في المناصب المناسبة لهم في الجامعات والمخابر والشركات والمصانع، وهم، من جراء ذلك، يجدون أنفسهم مضطرين إلى العودة من حيث أتوا وإلى تسخير أنفسهم لخدمة بلدان لم يكن لها سهم لا بالكثير ولا بالقليل، في الجهد التربوي والمالي والمعنوي الذي اقتضاه وصولهم إلى تلك المراتب. أَوَ لاَ نرعوي ونضع حدّا لهذا التفريط في موارد البلاد البشرية والمادية، ولهذا التسيّب في التخطيط والتسيير الذي يجعل الغير يجني غلال ما نزرعه. إننا دأبنا على إحياء يوم العلم هذا احتفاء من الشعب برمّته بالعلم وأهله وتقديرا للعلم وأهميته في رقي المجتمع وسعادة أفراده ولمكانة الأسرة التربوية في هذا المجتمع، وما تقوم به من دور حيوي لا غنى عنه في تكوين الموارد البشرية؛ ذلك أن المعلم هو الركيزة الأساسية في العملية التعليمية من حيث هو المناط بتحقيق الأهداف التربوية المنشودة. ولئن كانت له حقوق وواجبات معلومة، فإنه مايزال في حاجة إلى المزيد من العناية بقضاياه وإلى تحسين مكانته الاجتماعية وظروف تعاطيه مع ما يواجهه من التحديات والصعوبات اليومية. وهو أهل لذلك من حيث إنه هو من يأتي في مبتدإ دفع عجلة التنمية والتطور والتقدم بما ينشئ عليه الناشئة من الإستقامة الأخلاقية والعلم والمعرفة وما يلقنه إياهم من حب للوطن وما يزرعه في نفوسهم من علو الهمة والإقدام. إننا واثقون بأن المربين والمكونين والأساتذة الجامعيين والباحثين يدركون جميعا، أنْ لا سبيل لكسب رهانات العصر ومغالبة تحدياته إلا بسلاح العلم والمعرفة ومضاعفة الجد والجهد لمواكبة التحولات العلمية في كافة الميادين وإعداد أجيال كفأة طموحة لها من الروح الوطنية ومتانة التكوين وقوة العزيمة ما يؤهلها لتأمين العزة والمناعة لبلادنا والرقي والازدهار لشعبنا. لقد أصبح العلم والمعرفة يشكلان حجر الزاوية في بناء الاقتصاد في هذا العصر الذي قدم العلم على غيره من الوسائل في تدبير وإدارة التنمية، وهو ما يجعل من الإخفاق في اكتساب المعرفة والتكنولوجيا خطرا وخيمَ المغبة على الأمن القومي بكافة جوانبه. إنني من هذا المنطلق لم آل جهدا من أجل جعل رجال الصناعة والمستثمرين يسعون إلى العلم والعلماء الجزائريين، المقيمين منهم والمغتربين، لكي يفعّلوا خبراتهم من خلال بناء التكامل المطلوب بين البحث والتصور، وبين التطبيق والانتاج، لتحقيق نقل تكنولوجي حقيقي من الخارج إلى الداخل. أدعو كل علماء الجزائر للإسهام في بناء رؤية مستقبلية وأنا أدعو كل علماء الجزائر للإسهام في بناء رؤية مستقبلية يتحقق بها وضع بلادنا على سكة ما نبتغيه لها من تجدد وتقدم قائمين على العلم. إنني على يقين من أن علماءنا وباحثينا لهم من الطاقات العقلية والعلمية والمعرفية والإخلاص للوطن والرغبة في العطاء والإبداع ما سيدخل الجزائر في نهضة حقيقية ويحقق تنميتها المستدامة. إنني آمل من هؤلاء وأولئك أن يأخذوا علم غدهم كما أخذوا علم اسمهم؛ ذلك أن العلم يتجدد ويتوسع كل يوم. إنهم ذخر الجزائر، فعليهم ألا يدّخروا علمهم ولا طاقاتهم في سبيلها، وأن يجعلوا الأمانة والإخلاص في خدمتها رسالة لهم، معتزين بوطنيتهم ومعتدين بانتمائهم إليها. إنه لا يسعني، في هذا المقام، إلا أن أترحّم على أرواح النساء والرجال من الرعيل الأول الذي واكب الحركة الوطنية، ومن تبعه من العلماء والمعلمين الأجلاء الذين توفّاهم الله، وأولئك الذين استشهدوا من أجل الوفاء بواجبهم الوطني. وأهنّئ بهذا العيد أولئك الذين مازالوا يزاولون رسالتهم الشريفة الجليلة في كل مستويات قطاعات التربية الوطنية، والتعليم والتكوين المهنيين، والتعليم العالي والبحث العلمي. ولا أنسى القائمين على التعليم الخاص، والمعلمين الناشطين في مسعى محو الأمية. وإنني أزفّ لهم جميعا دلائل التبجيل والإجلال في هذا العيد ذي الدلالات والمعاني الكثيرة بالنسبة لحاضرنا ومستقبلنا؛ مستقبل الأجيال الحالية والآتية، التي نريد أن يكون العلم في صدارة الوسائل والإمكانات التي نوفرها لها حتى تشق بنا عباب التقدم وترتقي ببلادها وبشعبها معارج النماء والإزدهار. أدعو الله لهذا الوطن أن يكون، ويظل شريكا خصبا وفاعلا منجزا في رسالة العلم والمعرفة. الامتناع عن التصويت جنوح عمدي إلى عدم مواكبة الأمة ولما كنا نتأهب لنذهب، غدا، إلى مكاتب التصويت لانتخاب رئيس البلاد، يأبى عليّ الواجب إلا أن أذكّر، مرة أخرى، بأنّ السيادة السياسية ملك للشعب دون سواه، وبأنّ ذلك يلزمه، إنْ هو أراد أن يبني نظاما ديمقراطيا سليم القوام، بتفعيل هذه السيادة من خلال تصويت كل أفراده المؤهلين؛ ذلك أن بناء الديمقراطية ومشروعيتها يتوقفان على مدى مشاركة المواطنات والمواطنين في التصويت. إن الحق في التصويت ليس حقا وكفى، إنه بمثابة أمّ شعائر المواطنة وأوجبها على أفراد الأمة في اختيار ما ترتضيه لنفسها من توجهات أو في انتقاء من يخدمها من النساء والرجال. والإمتناع عن التصويت، إن كان من باعث نزعة عبثية أو خال مما يبرره، ينمّ عن جنوح عمدي إلى عدم مواكبة الأمة، وعن عدول عن مسايرتها والانتماء إليها. والمشاركة في التصويت هي، بالنسبة إلى مجتمع سائر في طريق بناء صرحه الديمقراطي، مقياس لمدى توصل الأسرة والمدرسة والأحزاب والجمعيات إلى تطبيع الناخبين من المواطنات والمواطنين على الانخراط المواطني العلمي والفعلي ضمن حياة مجتمعهم المدنية. إن التصويت واجب أكثر منه حق. وهو الذي يقحم ضمير الفرد في التعاطي مع الصالح العام ومع مصير الأمة ويجنب عري علاقة الإنتماء للوطن التفكك والإنفصام. إنني أهيب بكافة المواطنات والمواطنين ألا يفرطوا في المشاركة في الإنتخاب الرئاسي غدا أو يسهوا عنه، وأن يدلوا بخيارهم إحقاقا وتجسيدا لسيادة شعبهم التي استعيدت بأبهظ الأثمان. وعلى كل جزائري وجزائرية».