إنّ المتتبّع للوضع الليبي وللتطورات الحاصلة يلاحظ أنّ هناك قناعة جديدة آخذة في التبلور في أوساط الفاعلين في الساحة السياسية الليبية، وهي ضرورة الجلوس إلى طاولة الحوار والتخلي عن العنف الذي يعصف بهذا البلد. عنف لم يزد أوضاعه إلا تعقيدا و نذر بإشعال حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. في ليبيا لا تزال للقبيلة اليد الطولى في المعادلة الاجتماعية والسياسية، وأمام انهيار شبه كلي لمؤسسات الدولة وانتشار مخيف للسلاح ولميليشيات مختلفة الإيديولوجيات والتوجهات، أصبحت بمرور الوقت الآمرة الناهية في ليبيا، اختصرت حلم المواطن في الاستقرار والطمأنينة، وذلك بعد ثلاث سنوات من المعاناة والخوف والفوضى، ولكن رغم رغم ذلك فإن النور بدأ يظهر على الناحية الأخرى من النفق. مجهودات مختلفة والهدف واحد من الخطأ الاعتقاد أنّ التوصل إلى جمع الفرقاء الليبيين سيكون أمرا هيّنا، فبعد مرور كل هذا الوقت على اندلاع الأزمة والتدخلات الخارجية من أجل دعم طرف على حساب آخر بهدف الظفر بامتيازات سياسية واقتصادية في ليبيا ما بعد القذافي دون مراعاة أدنى حد من مصلحة شعبها، الذي وجد حلمه في الديمقراطية والتحرر يضيع وسط أطماع خارجية متداخلة، وميليشيات مسلحة تفرض منطقها، ودولة ليبية تحاول الوقوف على رجليها من جديد من خلال بناء مؤسسات يمكنها أن تتحمّل على عاتقها استلام مشعل الانتقال السياسي والانعاش الاقتصادي من خلال حماية ثروات وخيرات الشعب الليبي التي أصبحت عرضة للنّهب واللّصوصية. إنّ التّعقيد الذي يميّز الحالة الليبية لم تمنع النوايا الحسنة المشبعة بروح الجوار والأخوة من العمل والقيام بكل ما هو متاح من أجل تجنيب الشّعب الليبي ويلات التدخل الأجنبي، الذي حاول البعض تسويقه على أنّه الحل الوحيد للمعضلة الليبية دون استنفاذ أدنى الوسائل الدبلوماسية التي ترى فيها دول أخرى المخرج الأسلم للأزمة. كانت الجزائر في هذا الصدد سبّاقة إلى تفضيل الخيار السلمي التحاوري بين الليبيين، ولم يكن هذا التوجه وليد اليوم ولكن يعود إلى أيام الأحداث الليبية التي اشتعلت في فبراير 2011، وانتهت إلى الإطاحة بالقذافي وتصفيته البشعة على أيدي ميليشات مسلّحة مدعومة من الحلف الأطلسي، دخلت على إثرها البلاد في النفق المظلم، ومن حينها لم تتخل الجزائر عن الشعب الليبي ولم تدّخر جهدا في مساعدته والأخذ بيده وسط حملة مضللة من داخل ليبيا، ومن خارجها حاولت تشويه صورة الجزائر والطعن في مصداقيتها وصدق ما تقوم به اتجاه الشعب الليبي، إلاّ أنّ تلك الحملات الشّعواء لم تستطع النيل من علاقة تربط بين شعبين تجمعهما أواصر أخوة وجوار أمتن وأعمق بكثير من مؤامرات مكشوفة كانت تحاول إغراق منطقة شمال إفريقيا بأكملها في حالة من الفوضى عبر إسقاط دول وحكومات بدعوى تحرير الشعوب ونشر قيم العدالة والديمقراطية، وكذا قطع الطريق أمام كل مساعي وقف هذا القطار المحمّل بالهدايا المسمومة والقيم المغلوطة لشعوب كانت في حقيقة الأمر تعاني التّهميش والضّغط. تلك هي نقاط شكّلت الحلقات الضّعيفة التي استغلّها أمثال برنار هنري ليفي، الذي قدّمه مهندسو ما يعرف بالربيع العربي ووسائل الإعلام المأجورة والمكلّفة بمهمة على أنه رسول السماء الذي جاء ليحرر ليبيا من الوثنية والطغيان، والكل يعرف اليوم من هو "بي أش أل"، ذلك الفيلسوف الفرنسي المتصهين. كان ذلك إذا الهدف لإبعاد الجزائر عن الساحة الليبية، وكسر أي مبادرة يمكن أن تتقدم بها قد تفشل المخططات التي تحاك ضد الشعب الليبي الشقيق، إلا أن ذلك لم يمنعها من الاستمرار في مساعيها النبيلة التي نالت لاحقا مباركة ودعم المجتمع الدولي لوجهة نظرها في حل الأزمة الليبية من خلال حوار بيني شامل بدأ تظهر بوادره الأولى خلال قمة دول عدم الانحياز المنعقدة بالجزائر شهر ماي 2014، فقد عقد اجتماع خاص بليبيا على هامش تلك القمة بدعوة من الجزائر وبعدها جاء اجتماع دول الجوار بالقاهرة شهر أوت الماضي، وتمّ الإتفاق فيه على ضرورة إيجاد حل سلمي للأزمة الليبية، ورفض لأي تدخل عسكري أجنبي في الأراضي الليبية. وفي هذا الإطار دائما لا يمكن إغفال ما تقوم به الأممالمتحدة، والتي جاء موقفها في تناغم تام مع توجهات الجزائر ممثلة في المبعوث الخاص للأمين العام الأممي برنار دينو ليون، الذي قام بنشاطات معتبرة من أجل تقريب الرؤى بين الفرقاء الليبيين، والتي كلّلت بالنجاح بجمعهم الاثنين في مدينة غدامس بالقرب من الحدود الجزائرية لإجراء محادثات تمهيدية تعبد الطريق لحوار جوهري يهندس لحل نهائي للازمة الليبية يتم بوساطة جزائرية في الجزائر. وهي وساطة أثبتت نجاحها وفعاليتها في حالة مالي وسط إشادة أممية ودولية بعمل دبلوماسي نال إعجاب الأصدقاء واحترام الأعداء يستند إلى مبادئ مقدّسة تقوم عليها الدبلوماسية الجزائرية، من أهمها عدم التدخل في شؤون الآخرين دون أن يعني ذلك السلبية أو التفرج على مآسيهم خاصة عندما يتعلق الأمر بدولة جارة وشقيقة كليبيا. الأكيد أنّ ليبيا لا تعدّ استثناءً في هذا العالم الذي أصبح يعجّ بالصّراعات والنّزاعات، وتراجع بؤر الاستقرار والطمأنينة بسبب طغيان المصالح والأنانيات على حساب راحة الإنسانية التي يتشدّق البعض بالكلام عن مآسيها،في حين لا يتوقّفون عن بثّ القلاقل والفتن وتفكيك الدول والحكومات ونشر الفوضى تحت مختلف المبررات والأسباب. وفي الحالة الليبية المثال الواضح على أن أولئك الذين استعملوا القوة واللوائح الأممية لإسقاط القذافي ثم تركوا الشعب الليبي يواجه مصيره بمفرده هم أنفسهم الذين يفضلون اليوم الحلول العسكرية لحل الأزمة الليبية، لكن يبدو أن الأوضاع قد تغيرت وأن التسويق لهذا الخيار لم يعد سهلا في ظل توجه يكاد يصل حد الإجماع على تحييد الحلول العسكرية، ومداخلة الوزير الأول البلجيكي اليو دي ريبو أمام الجمعية العامة للأمم في دورتها العادية ال 69 التي اختتمت أمس بنيويوك، والذي حمّل فيها الحلول العسكرية نتائج المآسي التي تعيشها الإنسانية اليوم دليل واضح على أن تعد من الموضة ولا أعتقد أنّ ليبيا تشذ عن هذه القاعدة.