الحلقة2 والأخيرة أعطت الصحافة الصينية اهتماماً خاصاً لحرب التحرير الجزائرية، خاصة وأن هذه الأخيرة تزامنت مع تضاعف التهديدات والضغوط على الصين من المعسكر الغربي، وعلى رأسه الولاياتالمتحدةالأمريكية. فبمناسبة زيارة السيد بن يوسف بن خدة، وزير الشؤون الاجتماعية في الحكومة الجزائرية المؤقتة إلى الصين (3 ديسمبر 1958)، اعتبرت الصحافة الصينية هذه الزيارة حدث اليوم. وجد الوفد الجزائري استقبالاً خاصاً وترحيباً متميزاً من طرف القيادة الصينية وعلى رأسها ماوتسي تونغ. في هذه الزيارة، كانت للسيد بن خدة اتصالات مكثفة ونشاط خاص مع القيادة العسكرية الصينية وعلى رأسها المارشال يونج ته هواي، نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع. أكد هذا الأخير للوفد الجزائري، «أن الشعب الصيني والحكومة الصينية، يرحبان ترحيباً خاصاً بمندوبي حكومة الجزائر وبالرغم من بعد المسافة بين قطرينا إلا أن قلوبنا قريبة جداً من بعضها. ذلك أن تجربة الجزائر وتجربة الصين تجربة واحدة». كان للمسؤولين الجزائريين ثقة في التعامل مع الصين من أجل مناصرة حربهم التحررية دون التأثر بدعايات الدول الغربية في تصنيف المساعدة الصينية كتأثير شيوعي على المجتمع الجزائري. كما كان التنسيق بين الجزائريينوالصينيين باستمرار على أعلى مستوى في المحافل الدولية والمجالات الدبلوماسية. لقد ثمّن دائماً وباستمرار ممثلو جبهة التحرير الوطني الدعم والمساندة الصينية وتضامن الصين مع الجزائر، مثلما تم التعبير عنه في مجلة المجاهد: «لقد أظهرت الصين استعداداً كبيراً لمساعدتنا في معركتنا ضد الاستعمار، إننا إذ نربح الصين إلى جانبنا فإنما نربح قوة عظيمة هائلة، يحسب لها العالم ألف حساب ويبدي منها الاستعمار تخوفاً كبيراً للقوة الرهيبة التي تمثلها. أما نحن فلا نخاف هذه القوة، لأننا نعلم أنها موجهة ضد الاستعمار لا ضد التحرر وهي لا تريد سوى مساعدتنا في معركتنا الوطنية». بالإضافة إلى ذلك، لم يشكل النموذج الصيني أهمية خاصة على مستوى التحرر من الاستعمار والهيمنة الغربية فقط، بل شكل بالنسبة للجزائر نموذجاً هاماً على المستوى الاقتصادي. توجه تعيشه الصين حالياً وتنبأت به جبهة التحرير الوطني خلال الثورة الجزائرية، «إن ما يخيف العالم الغربي من نهضة الصين... ليس فقط أن تسد أمامهم أسواق الصين وهو ما أصبح أمراً واقعاً. بل يخشون أن تتخذ الشعوب [المستعمَرة] دولة الصين الشعبية قدوة لها في التنظيم الاجتماعي الذي ينهض بالشعب، وفي التصنيع الذي يغنيه عن مصنوعات الدول الاستعمارية. وفي الرقي العام الذي يسد الطريق أمامهم خراطيم الاستعمار التي تمتص دماء الشعوب وتعيش على أكثر من نصف الإنسانية». وجد الصينيون لدى الجزائريين تقديراً واعترافاً مستمراً بالمساعدات المعنوية والمادية التي قدمتها الصين للجزائر من أجل انتصار الثورة الجزائرية مثلما عبّر عنه (ماي 1961) السيد عبد الرحمان كيوان رئيس أول بعثة دبلوماسية جزائرية إلى الصين. «الشعب الجزائري لن ينسى أن حكومة الجمهورية الشعبية الصينية كانت من بين أولى الحكومات التي اعترفت بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. ومنذ ذلك الحين ما انفك بلدكم العظيم يقدم مساندة مستمرة لثورتنا. إن الصداقة الصينية - الجزائرية تنصهر في الكفاح، لذلك فهي قوية ودائمة». يشكل الاعتراف الجزائري بالدعم الصيني خلفية ومرجعية لتطوير وترقية علاقات الصداقة والتعاون بين الجزائروالصين. مثلما أكده رئيس الجمهورية الجزائرية السيد عبد العزيز بوتفليقة (16 ماي 1999) إلى الرئيس الصيني السيد جيان زيمين في رسالة رد على تهنئة هذا الأخير للرئيس الجزائري بمناسبة انتخابه رئيساً للجمهورية الجزائرية. «أؤكد لكم إرادتي في السعي معكم إلى ترقية الصداقة الجزائرية - الصينية والعمل على تعزيز التعاون الثنائي» لقد شيد بلدكم العظيم وبلدنا علاقات تاريخية خلال حرب التحرير الوطني، وأعتقد أن الجزائر فيما يخصها قد كانت دائماً في مستوى متطلبات التضامن مع الشعب الصيني امتناناً للدعم المادي الذي قدمتموه لنا ولاعترافكم الرائع بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. أود أن أؤكد لكم هنا استعدادنا لتوسيع بكل ما في وسعنا وفي جميع مجالات التعاون بين الجزائروالصين». العلاقات الجزائرية - الصينية بعد استرجاع استقلال الجزائر (1962): منذ استرجاع الجزائر لسيادتها شهدت العلاقات الصينية - الجزائرية تطوراً إيجابياً متزايداً. مباشرة بعد استرجاع الاستقلال الجزائري، أرسلت الصين إلى الجزائر 9000 طن من القمح، و3000 طن معدات للبناء و21 طنا من الأدوية، إضافة إلى بعثات طبية، حيث وصل عددها سنة 1963، 180 طبيب وألف طن من التجهيزات المدرسية، كما أرسلت الصين للجزائر باخرة نقل وقدمت لها قرضا ب2 مليون دولار. دولياً، أصبحت الجزائر بالنسبة للصين قوة أمامية لدعم حركات الاستقلال والتحرر الوطني في العالم. عوامل متعددة عمقت العلاقات الجزائرية - الصينية بعد 1962، من بينها: 1 - كلا البلدين عانيا من الاستعمار والهيمنة وكانا ضحية لكل أنواع ممارسة الهيمنة والتوسع والمجازر اللاإنسانية من طرف الاستعمار الفرنسي بالجزائر والغربي والياباني بالصين. تجربة مريرة، للتحول إلى شحنة وخلفية ومرجعية تعاون بين البلدين ومصدر للدعم اللامتناهي لقضايا الاستقلال والتحرر في العالم. 2 - كلا البلدين ضحية لنظام دولي لم يساهما في تشكيله. عملت الصين على إضعاف أو إزالة الواقع الذي فرضته القوى الكبرى على النظام الدولي وسير العلاقات الدولية ككل; مثلما طالبت الجزائر باستمرار منذ بداية الثورة الجزائرية وبعد استرجاع استقلال الجزائر بنظام دولي عادل ينصف دول عالم الجنوب التي تشكل الأغلبية الساحقة في العالم دولاً وشعوباً. 3 - كلا البلدين كانا ضحية لصراع الحرب الباردة. تبنّت الجزائر خطّا غير منحاز ولكن إيجابي تجاه الأحلاف العسكرية، مثلما اعتبرت الصين بأن الصراع الحقيقي هو بين عالم الجنوب من جهة وعالم الشمال من جهة أخرى بما فيه الاتحاد السوفيتي. 4 - كلا البلدين مرا بتجربة اقتصاد القطاع العام أو الاقتصاد المركزي أو الاقتصاد الاشتراكي، ودخلا منذ الثمانينيات في الإصلاح وإعادة الهيكلة ضمن ووفق اقتصاد السوق. الصين تقدمت خطوة أكبر، ولهذا التجربة الصينية جد هامة للإصلاح الاقتصادي في الجزائر. تميزت العلاقات الجزائرية - الصينية بعد انتصار الثورة الجزائرية، بزيارة (1963) ثاني أعلى مسؤول صيني إلى الجزائر بعد ماو، الوزير الأول تشون لاي، للجزائر سنة 1963. حتى سنة 1965 أظهرت الجزائر ميلاً أكثر لمقاربة الصين في توسيع الجبهة ضد الاستعمار وكل أنواع الهيمنة من خلال محاولة عقد مؤتمر باندونغ ثانٍ بالجزائر، الذي كان مبرمجاً في جوان 1965. مؤتمر لم يعقد بسبب تغيير في هرم السلطة في الجزائر في 19 جوان 1965 (ذهاب الرئيس بن بلة، ومجيء الرئيس هواري بومدين). عدم انعقاد المؤتمر لم يؤثر سلباً على العلاقات الجزائرية، بل أن الصين وجدت الجزائر مرة أخرى سنداً لها في دعم مسعاها لاسترجاع مكانتها في منظمة الأممالمتحدة. استمرت وتكثفت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين لتصبح الصين مستوردا أساسيا للحديد الخام الجزائري. سنة 1971 وحدها استوردت الصين من الجزائر 40 ألف طن من الحديد، بالإضافة إلى تعهد الصين (1969) بدعم الجزائر لإنجاز مصنع للخزف والذي تم إنجازه سنة 1971، ينتج يومياً 3000 وحدة، ودعم الجزائر لبناء قصر المعارض (1968-1970). ومصنع لصناعة الدراجات العادية والنارية، إضافة إلى بعثات طبية صينية سنوياً إلى الجزائر. كما كانت الصين في مقدمة الدول التي وقفت بجانب الكوارث الطبيعية الكبرى التي ضربت الجزائر في مناطق مختلفة من الوطن (زلزال المسيلة في 1965، الأصنام 1980، عين تموشنت 1999 وبومرداس 2003). سياسياً ودبلوماسياً، في الستينيات، لعبت الجزائر الدور الأساسي في تعبئة دول عالم الجنوب بصفة خاصة والعالم ككل بصفة عامة لدعم استرجاع الصين لمكانتها في الأممالمتحدة، والذي تجسد في سنة 1971. الرئيس الجزائري الحالي السيد عبد العزيز بوتفليقة الذي كان آنذاك وزيراً للشؤون الخارجية لعب الدور الأساسي في تعبئة وتفعيل هذا القرار الدولي في الجمعية العامة لمنظمة الأممالمتحدة. تطورت العلاقات الجزائرية – الصينية أكثر بعد زيارة الرئيس الجزائري هواري بومدين إلى الصين، والتي دامت خمسة أيام (24-29 فيفري 1974). في هذه الزيارة أبرز الطرفان الجزائريوالصيني توافقهما في القضايا الدولية والإقليمية بما فيها إصلاح منظمة الأممالمتحدة والمطالبة بنظام دولي جديد. لعب الانسجام والتوافق السياسي بين الصينوالجزائر الدور الأساسي في مضاعفة العلاقات الاقتصادية والتجارية الصينية - الجزائرية، وتوحيد المواقف السياسية في القضايا الدولية. يأتي في مقدمة ذلك، دعم الجزائر اللامتناهي لاسترجاع الصين أراضيها المحتلة (هونغ كونغ، ماكاو وتايوان) ودعم الجزائر للوحدة الصينية، وإدانة كل عمل يؤثر سلباً على ذلك، بما فيها محاولة الغرب إثارة قضية التبت. ذلك ما تضمنته باستمرار تصريحات ومواقف الرؤساء الجزائريين خلال زياراتهم إلى الصين: الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد (1982)، الرئيس اليمين زروال (1996)، الرئيس الجزائري الحالي بوتفليقة (أكتوبر 2000) وقد زارها مرة أخرى في نوفمبر 2006، حيث حضر قمة بيكين لمنتدى التعاون الصيني - الإفريقي، وفي نفس الوقت وقع الرئيس بوتفليقة مع الرئيس الصيني بيانا لترقية العلاقات الجزائرية - الصينية لمستوى التعاون الاستراتيجي؛ تطور انطلق بين الرئيسين الصينيوالجزائري في 2004 بالجزائر العاصمة، وتم تأكيده وتجسيده بالصين. كما كان للجزائر مكانة متميزة لدى القادة الصينيين وإعطائها الأولوية في اهتماماتهم وزيارتهم ابتداءً من الوزير الأول تشون لاي سنة 1963، والوزير الأول زاو زيانغ سنة 1982، ورئيس البرلمان الصيني سنة 1982، والوزير الأول زو رونغي سنة 2002، والرئيس الصيني جيانغ زيمين سنة 1999، والرئيس الصيني هوجينغ تاو سنة 2004 والرئيس الحالي شي جينغ بينغ ، إضافة إلى زيارات في أعلى مستوى لممثلي الحكومة والبرلمان والحزب الشيوعي الصيني... ساهم هذا العمل السياسي الإيجابي في تطوير علاقة الجزائر مع الصين في المجال الاقتصادي والتجاري، ليصل حجم الواردات الجزائرية إلى أكثر من 7 ملايير دولار سنة 2014، لتصبح الصين في المرتبة الثانية من الدول العشرة الأوائل المورّدة للجزائر في هذه السنة، ويصل مستوى الاستثمار الصينيبالجزائر إلى حوالي 3 ملايير دولار، إضافة إلى 4.51 مليار دولار لإنجاز الطريق السيار. بالمقابل، وصلت صادرات الجزائر إلى الصين سنة 2014 إلى أكثر من 2 مليار دولار، وهي مرشحة للارتفاع بحكم تزايد طلب الصين على النفط. بهذه الوتيرة قد يصل التعاون الاقتصادي الصيني – الجزائري إلى أكثر من 20 مليار دولار، في السنوات القليلة القادمة ليشمل مشاريع في البناء، الفلاحة والري والسدود والموانئ، الفنادق، التنقيب عن البترول، تصفية وتكرير البترول... «انتهى»