الأستاذ الدكتور تركي رابح عمامرة عليه سحائب الرحمة والرضوان واحد من رجالات العلم القلائل الذين تشهد لهم أعمالهم الباقية؛ أسهم بتجربته الأكاديمية المتميّزة، وبعطائه العلمي المتواصل، وكان منذ المنتصف الثاني من ستينيات القرن الآفل إلى جانب زمرة من زملائه الذين راهنوا على تحرير البحث العلمي والنهوض بواقع الجامعة الجزائرية الذي تزامن مع السنوات الأولى لميلاد الجزائر الفتية واسترجاع سيادتها الوطنية. في تلك الظروف العسيرة وأمام شتى الفراغات المتنوعة التي واجهت الجامعة، وكادت تعصف بتطلعاتها وتعيق مسار البحث العلمي، كان الأستاذ الدكتور تركي رابح عمامرة بمعية زملائه الذين كانوا بمثابة البدائل لسدِّ تلك الفراغات، وكانوا محلّ التحدي الذي أَطّرَ الجامعة الجزائرية بكفاءة واقتدار، وكانوا بعلمهم وإخلاصهم وتضحياتهم نجومًا في سماء الجزائر المستقلة. لقد كان جُلُّ الأساتذة الذين اضطلعوا بمهمة التدريس في الجامعة في ذلك العهد من خيرة الأساتذة الأفذاذ الذين شَرَّفُوا الجامعة الجزائرية بخبرتهم وتواليفهم وإنجازاتهم العلمية المتنوعة التي أعدوها أثناء الثورة في جامعات أوروبا وأمريكا والمشرق العربي بأوامر وتوجيهات قيادة الثورة التي وفرت لهم المنح وضمنت لهم الإقامات، وحرصت على تكوينهم وإعدادهم لساعة العسرة بعد الإستقلال وتحقيق السيادة. وبعد عمل دؤوب وسنوات من الجهد المتواصل والبحث المثمر، عاد هؤلاء الأساتذة إلى الجزائر المنتصرة، وكان هذا النوع من الأساتذة على الخصوص يمثل جيلا ذهبيا لا يتكرّر بما قدمه وما أنتجه من علم وثقافة في مدة وجيزة، وفي مرحلة محفوفة بأعقد التحديات، وغير ملائمة لشرائط ومتطلبات البحث الموضوعي الأصيل. ومن هؤلاء العلماء الذين كانوا في الصدارة في السنوات الأولى للإستقلال وقامت على عاتقهم وبجهودهم المخلصة نهضة التعليم العالي في الجزائر نذكر: العلامة عمار طالبي أمدَّ الله في حياته ، المرحوم العلامة شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله، المرحوم الأديب الناقد والمبدع عبد الله خليفة الركيبي، المرحوم الباحث غزير التأليف تركي رابح عمامرة، المرحوم المؤرخ الكبير يحيى بوعزيز، المرحوم الباحث المتضلع الفيلسوف عبد الله شريط، المرحوم الناقد والمترجم أبو العيد دودو، المرحوم المؤرخ الثبت موسى لقبال، المرحوم المؤرخ المحقق المفسر محمد بن عبد الكريم، المرحوم الأديب الناقد الجنيدي خليفة، الباحث والمترجم المتمكن حنفي بن عيسى، وغيرهم. نموذج للباحث الدؤوب والأستاذ الدكتور تركي رابح عمامرة معدن نادر من معادن البحث المتواصل، قضى حياته بين طلب العلم والإنتاج العلمي الغزير، وخصص أغلب جهوده الفكرية لتجلية آثار ومناقب الحركة الإصلاحية في الجزائر، واستعرض في تواليفه العديدة حياة وأعمال رائد النهضة الإصلاحية في الجزائر الأستاذ الإمام عبد الحميد ابن باديس، ونَوَّهَ بجهوده ومواقفه، وأشاد بدور جمعية العلماء ومنهجها التغييري، وكانت مباحثه العلمية بشكل عام تتمحور حول الفكر التربوي والمنهج الإصلاحي لجمعية العلماء، والترجمة لرجالاتها وإبراز دورهم الحاسم في مواجهة الصراع التغريبي الظالم، وبلائهم الحسن في رَدِّ شبهات الكيد والزيف التي تولى كبرها المدُّ الصليبي المتدثِّر بعباءة الاستعمار العسكري باسم أكذوبة المدنية والحداثة وغيرهما من الأوهام والتلفيقات التي مَرَدَتْ على تسويقها مناهج الغزو والاستبداد. عاش الأستاذ تركي رابح عمامرة كغيره من المغمورين الذين ابتعدت عنهم الأضواء، وتعسَّف في حقهم الإعلام المُوَجَّهُ الذي لا يحفل إلا بالضجيج والتهريج، وينساق وراء التسويق الثقافي وما هو بثقافي الأجوف، ولا تعنيه الأعمال العلمية الجادة، ولا الأفكار المبدعة والمشاريع المنتجة للعلم والثقافة. والواقع أن مكانة العلم عندنا ليست في صدارة الاهتمامات، ولا هي في مقدمة الأولويات، بل هي في مؤخرة الترتيب، إن لَمْ تكن هوت إلى الحضيض الذي ليس بعده حضيض!!! والمتابع للشأن المعرفي يعلم أن الحياة العقلية عندنا متوقفة الآن إلى أجل غير مسمى، وأن الكتبة والمؤلفين قد تطرَّقَ إلى أقلامهم العقم الذي عَمَّ وطَمَّ، وفشت فاشيته في كل يراع كان مبدعًا، وكان صريره متواصلا لا يكاد يتوقف. أين باحثو اليوم من أولئك الرواد؟ والتساؤل الجدير بالملاحظة والطرح: أين دور الجامعة التي هي موئل البحث العلمي وملاذ الدراسات المتخصّصة من هذا الوضع المزري؟ !!!وأين حقيقة السلطة الأكاديمية مما يجري من تدني وقصور على مستوى ما بعد التدرج، وما تفرزه نتائج البحث الصوري المتسم بالضحالة والهزال، ويُمْنَحُ بعدها للطالب ضحية التكوين الهش شهادة الماجستير وبعدها أعلى الشهادات العلمية بتقدير مشرف جِدًّا مع التوصية بالطبع؟!!! وآخر التساؤلات المؤلمة: ما مدى صحة التقييم العلمي الذي على أساسه تُمنَحُ الشهادة؟ وهل التقييم الحيادي والتقدير النزيه للشهادة يقابلان ما ورد فيها من محتوى ومضامين ؟!!! ونتوقف قليلا عند عبارة: (التقييم الحيادي والتقدير النزيه)، وهل مازالت هذه العبارة بعيدة عن الميول والمجاملة والمحاباة ؟!!! أم أنها فقدت صرامتها العلمية وتخففت من كل مصداقية والتزام؟؟.. والذي أردتُ أن أصل إليه من وراء كل تلك التساؤلات القلقة هو الوقوف بالمقارنة والتأمل على ما حققه ذلك الجيل الذهبي من الأساتذة الذين انطلقوا من لا شيء، وتكونوا إبان الثورة، وزاولوا دراساتهم في أعرق الجامعات، في ظروف غير ملائمة، وجابهوا أعسر التحديات، وكانت عزائمهم أقوى من كل العوامل والمثبطات غير المساعدة، لأن قضية الوطن السليب وما كانت تَمُرُّ به من تحرّر وبطولة وانتصارات، حَرَّكَتْ بدواخلهم الروح الوطنية التي لا تعرف الانهزام، وكان تصّديهم في كل المجالات والمحافل بمثابة المواجهة غير المتكافئة، ولكنها المتغلبة في نهاية المطاف على الرغم من افتقارها لأسباب الدعم والنجاح. من هذا الوسط المسلَّحِ بالصبر والجلد والمعاناة كان فقيدنا الأستاذ الدكتور تركي رابح عمامرة من أولئك الطلبة الأفذاذ الذين ادخرتهم الجزائر المجاهدة إلى يوم الجهاد الأكبر؛ ومن ثمّة فلا عجب إذا رأينا مدى التزامهم بثقل المسؤولية الملقاة على كواهلهم، وكان التحدي في محله، وكان مستواهم العلمي المتألق لا يختلف عن مستوى أساتذة أرقى الجامعات المتميزة بتقاليدها ومناهجها العلمية المتبعة. وفي جامعة الجزائر تصدى الأستاذ الدكتور تركي رابح عمامرة إلى تدريس علوم التربية لطلابه، وتلقينهم مفهوم الفكر التربوي من خلال المحاضرات المنتظمة والتصنيف العلمي الرصين، والبحث المضني في هذا الموضوع الشائك الذي لا يتصدى له إلا العلماء الأعلام، لِمَا له من صلة بتطور الحياة العقلية ومناهج التعليم والتَّعلُّمِ عند المسلمين الأُوَل كالإمام الغزالي ومن جاء بعده ونهج نهجه، أو اهتم بفلسفة التعليم كابن خلدون الذي اعتنى بتحليل فلسفة التعليم والتعلُّم، وخصص مجهودًا معتبرًا لهذا الجانب المهم في تاريخ التربية وتلقين العلم ونشره في الكتاتيب والمساجد ودور العلم والمدارس التي أنشئت لهذا الغرض في مختلف الأزمنة؛ والفرق واضح وغير متداخل بين أنظمة التربية وفلسفتها في العالم الإسلامي، وبين غيرها من الأنظمة والمناهج التربوية الأخرى عند الغربيين. نموذج من فكره التربوي ويحدثنا الفقيد الأستاذ الدكتور تركي رابح عمامرة عن التجربة الجزائرية في إطلاق المصطلحات الدارجة التي لها صلة بالمؤسسات التربوية، ولا تزال هذه المصطلحات مستعملة وسائدة إلى الآن: «... إن الجزائريين في لغتهم يطلقون على المدرسة اسم «لمسيد» فيقولون إن الأولاد ذهبوا إلى «لمسيد» ليتعلموا أو عادوا من «لمسيد» ولا يخفى أن كلمة «لمسيد» مشتقة من المسجد أو قل هي المسجد حرفت إلى كلمة «لمسيد» لأن المساجد اقترنت في أذهان الناس في الجزائر باسم العلم والتعليم لذلك فإن المؤسسات التي تقوم بالتربية والتعليم هي عبارة عن مساجد في شكل آخر. وعندما يصبح معلمو المدارس ومديروها والمشرفون عليها على درجة مرضية من الخلق والاستقامة والكفاءة فإنها سوف تؤدي رسالة المسجد على أفضل وجه مهما كان نوع العلوم التي تدرس بها سواء كانت علوم الدين أو علوم الدنيا. فالعلم هو أساس العملية التربوية وفي الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت معلما). والجامعات هي الأخرى مشتقة من الجامع لأن الجامع في الإسلام هو المؤسسة الأولى للتربية والتعليم بعد دار الأرقم بن أبي الأرقم كما ذكرنا وقد سبق أن أشرنا إلى دور المساجد الجامعة في الإسلام في التربية والتعليم والتوجيه الديني والخلقي وكيف كانت تلك الجوامع هي محور الحياة المدنية الإسلامية سواء كانت مدينة معسكرات أو مدينة إدارية» أ. ه. (د. تركي رابح عمامرة: دراسة بعنوان: «رسالة المسجد في المجتمع الإسلامي»، ص: 83، منشورة في: (حوليات جامعة الجزائر)، العدد رقم: 1، 1986، ص 87. وعن مسألة التفريق والفصل بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي، وهي إشكالية لها مدلولها ومفهومها عند الغربيين، يقول فقيد التربية والثقافة الإسلامية الأستاذ الدكتور تركي رابح عمامرة طيب الله بالرحمات ثراه : «إن تقليد بعض بلدان العالم الإسلامي لأوروبا في الفصل بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي يجب إعادة النظر فيه حتى نخرج من هذا التيه الذي نعيش فيه حسب تعبير الإمام محمد عبده في بعض خطبه أو هذا التذبذب الذي تتخبط فيه معظم البلاد العربية والإسلامية بسبب إهمال التعليم الإسلامي في برامجها التربوية أو إعطائه مكانا هامشيا لا يسمن ولا يغني من جوع، مما أفقد بعض الشباب الإسلامي الحصانة تجاه التيارات الإلحادية والمادية، كما أفقده التماسك والصلابة وقوة الإرادة في مواجهة بعض مشاكل الحياة ومقاومة الصراعات الفكرية والعقائدية التي هي إحدى سمات عصرنا الحديث» (المرجع السابق، ص: 85). وفي بحث آخر بعنوان: «حقوق الطفل بين التربية الإسلامية والتربية الأروبية الحديثة: دراسة مقارنة» عالج فقيدنا قضية من أهم القضايا المعاصرة التي شغلت العديد من المنتظمات الدولية ونشطاء حقوق الإنسان، وكان لهم فيها نضالات شتى وتقارير متساوقة ومرافعات متتابعة، وجدل متواصل قبل أن تتبناها الأممالمتحدة وتصدر بشأنها إعلانا بتاريخ 20/ 11/ 1959مِ، وفي هذا الصدد يقول الأستاذ الدكتور تركي رابح عمامرة: «لقد وجدت أن كل ما حواه الإعلان العالمي لحقوق الطفل الذي أصدرته الأممالمتحدة في العشرين من شهر نوفمبر 1959، وهو يقع في مقدمة عامة وعشرة بنود، موجود برمته وزيادة في التربية الإسلامية، ولم يبق للباحثين والمهتمين بحقوق الطفل في التربية الإسلامية إلا أن يجمعوا عناصر تلك الحقوق ويبوبوها ثم ينشروها على الناس حتى يعرف العالم في عام الطفل وغيره أن التربة الإسلامية قد اعترفت للطفل بحقوقه الأساسية ومكنته منها عمليا منذ أكثر من أربعة عشر قرنا...»، ويضيف: «مع ملاحظة أن التربية الإسلامية هي تربية إلهية مصدرها خالق الإنسان والكون والحياة. بخلاف التربية الأوروبية فهي تخضع لأراء البشر وفلسفاتهم واتجاهاتهم وبالتالي فهي تخضع لعوامل النقص البشري، وقصور العقل عن إدراك الإحتياجات الأساسية للطفولة في مختلف مراحل العمر إدراكا عميقا وحقيقيا وواقعيا» د. تركي رابح عمامرة؛ دراسة بعنوان: «حقوق الطفل بين التربية الإسلامية والتربية الأوروبية: دراسة مقارنة»، ص: 251، منشورة في: (حوليات جامعة الجزائر)، العد: 7، 1993. الواقع أن شخصية وتراث الأستاذ الدكتور تركي رابح عمامرة يحتاجان إلى دراسة علمية مفصلة، تستبطن جوانب علمه ونتائج أبحاثه، وتكشف عن طوايا تفكيره وما تضمنته تواليفه وطرائقه من إضافات في مجال النهوض بالفكر التربوي الإسلامي، وتجلية نظريات ومناهج التربية الإسلامية؛ بَلْهَ علم النفس التربوي في الإسلام، وهذا ما سنؤجله إلى مناسبة أخرى، نلقي فيها بعض الإضاءات على ترجمة وأعمال فقيد الجامعة الجزائرية المرحوم البروفيسور تركي رابح عمامرة؛ ولا يسعني في ختام هذه الكلمة المستعجلة إلا أن أتوجه بخالص شكري وتقديري وامتناني إلى أخي وصديقي الأستاذ الدكتور مسعود بن موسى فلوسي الذي نبهني لتاريخ ذكرى رحيل فقيد التربية والبحث العلمي التربوي في الجزائر، وحَرَّضَنِي على الكتابة والإسهام في هذه الذكرى الأولى التي نحييها للتنويه بأحد أساطين البحث ورموز الثقافة والمعرفة في الجزائر المستقلة.