شهدت مختلف بلديات ولاية بجاية العديد من النشاطات الثقافية والفنية المختلفة، بمشاركة بعض الجمعيات والمؤسسات الثقافية حرصا منها على تخليد الذكرى ال60 للثورة التحريرية، خاصة عند الشباب الصاعد، ليعلم أن أسلافهم عانوا من أجل أن تصبح الجزائر حرة ومستقلة. وفي هذا الصدد، نظمت السلطات المحلية لدوار «آيت وعمر والي» ببلدية بجاية احتفالات كبيرة في ستينية الثورة لتعريف الشباب بما قدمته المنطقة المناضلة التي أعطت الكثير إبان حرب التحرير، وتعد بمثابة البوابة الغربية لمدينة بجاية المقاتلة. «الشعب» وقفت عند هذه الأنشطة وتقدم تفاصيل عنها استنادا الى شهادات مجاهدين صنعوا الحدث التحرري. المجاهد «إخلف مصطفى» قال لنا في سرد مسيرته النضالية وهو شاب في مقتبل العمر: «أتذكر جيدا أنني كنت في سنة 1959، ضمن مجموعة «حمو أمليكشي»، والذي أوكلت إليه مهمة تزويد المجاهدين بالسلاح من تونس، هناك وفي عاصمة هذا البلد، التقيت بالمجاهد «بسة مقران»، الذي أسندت إليه مهمة تكوين الشباب». وأضاف المجاهد: «تعلمت الانضباط الحربي إلى جانب امليكشي وب»أمطيق نتفاث»، اسم القرية الأولى لهذا الدوار، جلّ عظام شهداء الدوار تمّ جمعها في هذه المقبرة التي هي رمز للمقاومة». وواصل المجاهد إخلف حديثه: «تم تنفيذ أول عملية مست فيلق من الفرنسيين، نفذت من طرف «مشرود الهاشمي»، مجاهد ذي شجاعة فريدة من نوعها، حيث أطلق الرّصاص على الفيلق فقتل على الفور عسكريا ثم همّ بالفرار، طارده الفرنسيون عبر شعاب الغابة، لكن لم يتمكنوا من القبض عليه فعادوا إلى نفس المكان للانتقام، فقتلوا تاجرا في الجوار». وأضاف أنه بتّلة تطلّ على كل قرى وبعد 500 متر، بمنطقة أيث وعمر والي، قبل كل صبيحة، يأتي الفرنسيون ليتمركزوا هنا ولا يعودون إلاّ في نهاية الظهيرة، حيث يراقبون تحركات المواطنين في الحقول والقرى، وفي سنة 1958 قام الفرنسيون ببناء هذا الحصن باستعمال السجناء الذين عوملوا كالعبيد، حسب شهادة المجاهد اخلف. وواصل المجاهد في سرد أدق التفاصيل عن آلة التعذيب الفرنسية الجهنمية قائلا: «الحصن قسّم إلى عشر غرف تحيط بساحة كبيرة واستعمل كمرقد، أدخل السجناء في قبو يحتفظ لحدّ الآن بآثار التعذيب والأغلال، التي قيدوا بها، وكل غرفة لها فتحة صغيرة يراقب من خلالها الفرنسيون القرى المجاورة». وأشار المجاهد إلى أنه عندما تتعرض الثكنة للهجوم يردّ الفرنسيون بإطلاق النار عبر هذه الفتحات، كما كان بحوزتهم أيضا مدفع يستعملونه لضرب القرى وهذا بغية تهجير السكان، من أجل وقف إمداد المجاهدين بالمؤونة، علما أنّ المنطقة تمّ تصنيفها كمنطقة محظورة طوال الحرب التحريرية. وبقرية «إزغران»، الواقعة في سفح الجبل المحاطة بالشعاب، قال إخلف مصطفى: «المجاهدون آنذاك قاموا بالهجوم على العدو بغتة والاختفاء كلمح البصر، وهو ما دفع بالفرنسيين القيام بأوّل عملية تمشيط بداية سنة 1956، باستخدام إمكانيات بشرية وحربية كبيرة، وحاولوا إلقاء القبض على كل من القادة، شرقي محند في «إزغران»، إخلف سعيد في «بلعيش»، بوزوزو عمار في «إبوشتوان» وبوعبيدة سعيد في «تالازدا»، وحين لم يفلحوا، قاموا بحرق بيوتهم انتقاما». صعوبة التضاريس ساعدتنا في المعارك وفي قرية «بلعيش» التقينا بالمجاهد «أوزميم مولود» الذي يعتبر ذاكرة حية لحرب التحرير، وسرد لنا قصة عدة معارك شارك فيها ضدّ العدو الفرنسي، وعيناه تدمعان من شدّة التّأثير، وقال: «أتذكر رفقاء السلاح أين الأغلبية منهم اليوم ليسوا من هذا العالم، وأتشوق كي ألتحق بهم». وحسب، ما رواه لنا أنه ولد سنة 1926 وبدأ النضال سنة 1956، حيث كان مع «حسين حيحاط» رئيسه في الفرقة، وبعد وفاة هذا الأخير قام باستخلافه «عيسى بلاندي»: «ليس باستطاعتي أن أسرد تفاصيل كل المعارك التي شاركت فيها، حيث ليس بإمكاني حتّى تعدادها، وسوف أحاول أن أبذل جهدي كي أقصّ عليكم تفاصيل معركتين أو ثلاث». هكذا قال والدمع ينهمر من عينيه. وأضاف أنه يتذكّر جيّدا معركته الأولى التّي خاضها ضدّ العدوّ، كانت في أواخر سنة 1956، وفرقته تتكوّن من 33 فردا بقيادة «حسين حيحاط»: «وصلنا بعد الزوال إلى قرية «بلعيش»، أين قضينا الليلة لأن هدفنا كان الهجوم صباحا على ثكنة عسكرية تقع على بعد 20 كلم، لكن العدو الفرنسي علم بوجودنا وأرسل فيلقا كاملا لمهاجمتنا». وواصل المجاهد أوزميم أن تضاريس المنطقة وعرة، مما دفع الإدارة الاستعمارية إلى نقل قواتها العسكرية بواسطة المروحيات فوق تلّة لإنزالهم في المكان المسمى «بوحمدان»، على بعد بعض كيلومترات من قرية «بلعيش». هنا وقعت المعركة التي استشهد فيها 11مجاهدا، كما أنّ الفيلق الفرنسي المتكوّن من مئات العساكر فقد العديد من قواته، والجرحى تمّ نقلهم عن طريق المروحيات، طيلة المعركة التي دامت 12ساعة بدون انقطاع، من العاشرة صباحا إلى العاشرة ليلا. وأضاف المجاهد أنه بسبب العياء اضطرّ الفرنسيون إلى التراجع وانسحب المجاهدون، حيث طلبوا من القرويين استرجاع الشهداء من المجاهدين ودفنهم، وكانت الأوامر تقتضي منهم القيام بثلاث عمليات أسبوعيا. وحسب المجاهد، فإن الهجومات التي قام بها تعدّ بالمئات، لكن أهمها كانت تلك العملية التّي نفّذها سنة 1958 في «بوشاكرون» بقريته، حيث اتجّهت فرقة من جيش التحرير الوطني من الولاية الثالثة التاريخية إلى تونس للتزويد بالسلاح، وبعد مرورها من المنطقة كان ينبغي عليها مرافقتها لضمان حمايتها حتى حدود المنطقة، وفي طريقهم صادفوا مجموعة تمشيط للجيش الفرنسي التي بادرت باطلاق النار عليهم فواجهوها ببسالة. وفي البداية كان عدد قوات العدو أكثر من عدد المجاهدين، الذين كانوا يتموقعون في أعلى تلّة وهم في أسفلها، وقام المجاهدون بإطلاق رصاص مكثّف على جنود العدو، لكن طائرة وصلت لإسنادهم محلّقة على ارتفاع منخفض وقام الطيّار بقصفهم بقنابل. وفي هذا الصدد، قال محدثنا أنه لم يعرف بأي معجزة تمّ إسقاط الطائرة من طرف أحد رفقائه، وكثافة الغابة وانعدام المسالك كانت لصالحهم، حيث أرغم الفرنسيون على الصعود مشيا على الأقدام تاركين ورائهم شاحناتهم، وبما أن المنطقة وتضاريسها يعرفها المجاهدون جيّدا سمح لهم ذلك بالفرار قبل أن يشتدّ الخناق عليهم، حيث كانت حصيلة العملية بإسقاط ثلاث طائرات وقتل المئات من الفرنسيين، واستشهاد 45 مجاهدا. وفي معرض حديثه، أشاد عمي أزميم بشجاعة الشهيد «سعيد بلّيل» المسمى «سعيد لندوشين»، من قرية «تغديوين» الذي وصفه بالمثالي، وشجاعته بغير العادية والذي لا يتراجع أمام أي خطر، والتي أعطت للثّورة أعظم أولادها، حيث التحق الشهيد بصفوف جيش التحرير لإثبات بسالته ومدى حبّه للوطن، قبل تنفيذه عملية فدائية بالهجوم على ثكنة عسكرية ببجاية، باستعمال قنبلة يدوية فقتل من خلالها حارس الثكنة، قنّاص من الدرجة الأولى لا يخطأ هدفه إلاّ نادرا. وقد تمّ إدماج «لندوشين» في فرقة الصاعقة للولاية الثالثة، حيث لاحظ مسؤوليه فيه صفات الجندي غير العادي فرقيّ إلى درجة ملازم، أصيب بجروح في معركة في دوار «إغرم»، ونقله رفقائه إلى تازمالت من أجل العلاج، لكن القدر شاء أن يستشهد في ذلك اليوم، حيث تعرّض لهجوم من طرف مجموعة من الجنود الفرنسيين، ولم يرغب المجاهدون في تلك المعركة أن يكونوا في قبضة العدو، ففضّلوا الاستشهاد والموت أحرار.