10 آلف دينار نشاط ليلة واحدة في الشهر الفضيل وماخفي أكبر «الشعب» تتحرى وضعية بعض المتسولين الاجتماعية ظاهرة التسول تعرف أوجها وتستفحل أكثر مع حلول المواسم الدينية، الأمر المرتبط منطقيا بما يجده محترفو التسول عن غيرهم من المحتاجين، لدى الناس من تعاطف إنساني وتراحم وبسط للأيدي، حيث يعتبر غياب الوازع الديني من أكثر العوامل تشجيعا للظاهرة التي صارت تعكس صورة غير حقيقية لمجتمعنا الذي يسجل بوعي خطورة هذه السلوكات غير الحضارية خاصة مع تحسن المستوى المعيشي وغياب فكر ونظم الطبقية الاجتماعية في الجزائر. ولتسليط الضوء على الظاهرة التي أخذت مؤخرا أبعادا جديدة من حيث تطورها وانتشارها خاصة في شهر رمضان، وتتواصل هذه الايام مع عيد الفطر خرجت «الشعب» لرصد حركة فئة خاصة من المتسولين. وقد استغرقنا ذلك عدة ايام وليال حتى نحقق في العناصر التي اعتادت التسول لا سيما ليلا والتأكد من وضعياتها الاجتماعية والدوافع التي قضت عليها بطلب الصدقات، وذلك عن طريق التقرب الفعلي من بعض العينات. استدعى ذلك تقمصنا لدور المتسولة التي ترتدي جلبابا، فتجلس دون لفت انتباه المارة بالقرب من إحدى المتسولات، والتي اتخذت منا موقفا صارما في تجربتنا الميدانية، حيث يعتبر جلوسا بالقرب من محيطها تهديدا سافرا ل “ كسرتها “ . وغير ذلك تنبهنا أن عينة من المتسولين، وأغلبهم من النساء والأطفال بصحبتهن، لا تختلف ملامحهم كما لا تختلف لهجات كلامهم أو طرقهم في التسول، وكأن الوضع برمته قائم على مخطط محكم التنظيم، مسير من أطراف ذات ذكاء عالي وقدرة متكاملة من التفكير والحكمة، حيث يركز ذلك الطرف في نشاط التسول على الحركة والانتشار المكثف و القدرة على التحكم في مشاعر المتصدقين أو ضحايا احتيال أشباه المحتاجين الذين يمتهنون نشاط التسول مثلما يزاول أي نشاط مهني أو تجاري عن طريق المعاملات النقدية. و حسب شهود عيان ممن يثير اهتمامهم موضوع استفحال ظاهرة التسول، فإن المتسولين يجمعون في الليلة الواحدة مع رواج النشاط في أيام رمضان ما يفوق 10 آلاف دينار أي ما يعادل الأجرة الشهرية لعامل مهني بسيط، وهو المستوى الذي استند إليه الكثيرون من الناقلين بواسطة سيارات الأجرة أو المحلات المتعددة الخدمات الذين يحتاجون إلى الفكة أو العملة النقدية المجزئة في تعاملاتهم اليومية، أين يقصدهم معتادين التسول قصد المبادلة بين المبالغ النقدية الحديدية والورقية . الأمر الذي لا يعد غريبا ولا جديدا في مجتمعنا حسب أحد المتدخلين بشهاداتهم ل»الشعب»، بالنظر إلى الظاهرة وإن كنا سنسلط عليها الضوء بعاصمة ولاية معسكر كعينة، فإنها تأخذ أبعادا أخرى في مناطق أخرى من الوطن ..قد لا يتوقعها القارئ . أفاد ربيع إطار جامعي يشتغل ساق سيارة أجرة، أن 90 بالمئة أو أكثر من المتسولين في الشوارع والذين يتزامن ظهورهم المفاجئ إلى العلن مع شهر رمضان، هم أشخاص انتهازيون اعتادوا الحصول على المال بطرق سهلة، وهو ما يعتبر منطقيا احتيالا. وأضاف ربيع أنه و من باب التحفظ على الحكم ظلما ومباشرة على هذه الفئة التي تتقاضى يوميا ما يفوق 8 آلاف دينار دون أن تدفع الضرائب، على المجتمع أن يتدخل لكي يحد من الظاهرة سواء بالمساعدة على تشغيل المتسولين أو تعويدهم على أداء عمل ماجور، وهناك سيتفق الجميع على وصفهم بالمحتالين والمنتحلين لصفات إنسانية». رأي ربيع لم يكن مخالفا لرأي شاب آخر قال صاحبه أنه مطلق وأب لطفلين، وعدم ظفره بمنصب شغل جعله يتخبط في أزمة خانقة تجمعت فيها كل المآسي الاجتماعية زيادة عن النفقة المطالب بتسديدها كل بداية شهر، غير أنه لا يمكنه طلب الصدقة أو المساعدة المادية، مشيرا أنه حين تقصده متسولة يقول لها بالحرف الواحد «تنقصني شجاعتك وجرأتك في التسول فأنا لا اختلف عنك» دون معرفة حقيقية بالشخص الطالب للصدقة. ثروات طائلة ومجوهرات ثمينة حصيلة شهر من التسول سيدة عاملة نظافة في إحدى الإدارات العمومية، وتحترف التسول في أوقات الفراغ، لمجرد أن تنظر إليها تستهويك الحلي المرصعة عليها، وغيرها من الشخصيات التي عرفت بنشاط التسول دون حاجة، حيث يعكس وضعها الاجتماعي الرفاهية التي يعيشها هؤلاء المتسولون من خلال البيوت والسيارات الفاخرة التي يمتلكونها، ويوضح الوضع مدى فداحة خطأ المحسنين في سبيل الله، حين تستغل نواياهم الطيبة وتذهب صدقاتهم في غير وجهتها. استغلال الأطفال في التسول واستراتيجية دقيقة في النشاط أبرز ما لفت انتباهنا و نحن في رحلة البحث عن خيوط شبكة المتسولين، هو تواصلهم ببعضهم البعض من خلال الأطفال أو الهاتف، و يهدف تواصل المتسولين إلى معرفة نقاط التموقع والتحرك وكذا معرفة حصيلة المال المجموع في الفترات القياسية المقدرة في بعض الحالات بساعة على الأقل، المتسولات يقمن بالتحرك و تغيير نقاط التموقع في حال لم يتم الوصول إلى القدر المحدد من المال، و بالصدفة وجدنا إحداهن بإحدى المحلات المتعددة الخدمات بمركز المدينة، و كانت ترافقها طفلة تحمل بيدها حبة فاكهة . السيدة بدت في العشرينيات من العمر، بملابس رثة تغطي بالكاد كامل جسمها، و لأنها كانت تحاول الاتصال بأحدهم، تريثنا في المحل بغرض تقصي الحقيقة و معرفة الكامن خلف هذه الفتاة، التي حملت سماعة الهاتف و راحت تخاطب المتلقي :»لا يمكن أن أبقى هنا لم أجني سوى 1700دج منذ الصباح سأتنقل وأرسلي بمن تخلفني في مكاني»، و كانت الساعة حينها تشير إلى حوالي العاشرة صباحا، والأكثر غرابة في مشهد المتسولين ليلا، هو شجارهم على النقاط التي تنبعث بها الحركة بشدة بعد الإفطار، وهي النقاط المتواجد أمام عتبات المحلات التجارية في الشوارع الرئيسية بمركز المدينة، هناك لا يبعد بين المتسول و الآخر سوى خطوات قليلة، و المثير للجدل أن بعض المتسولات قد بسطت سيطرتهن بالكامل على طول الشارع الرئيسي، مثلما عايناه من تلك السيدة التي تجاوزت الخمسين وهي تحمل بيدها طفلا رضيعا، بينما أحاطت بها عدة فتيات من أعمار متباينة، وراحت تعطي تعليماتها و توزع المهام في شبه اجتماع مصغر، لكل واحدة أمر، في استراتيجية مضبوطة ومنظمة، وخطط محكمة تمكن من الربح السريع في أمسية رمضانية، يمتزج فيها احتيال هؤلاء بكل الطرق و السبل المتاحة برغبة الناس في الإحسان قدر المستطاع واغتنام فرصة رمضان لكسب المزيد من الأجر والثواب، في الوقت الذي تتواجد فيه عشرات البطون فارغة تنتظر ما تجود به أيدي الناس بدون طلب الصدقة. أكثر المتسولين نسوة يستعملن عبارات رنانة تجذب المحسنين يقترب وصف مهنة التسول والسبل المنتهجة في استمالة القلوب، بوصفه فن معاصر، عند التمعن في العبارات الملحنة التي تستعملها المتسولات و الإنصات الجيد لتلك العبارات يجعلك تعود أدراجك لتمنح الصدقة و لو اضطررت باقتطاعها من نفقات النقل واخترت العودة راجلا لبيتك، أو أنك تمقت الوضع مقتا شديدا وتفكر لما لا يتم التصدي لهذه الظاهرة التي تزيد سوءا في كل موسم ديني و خصوصا في شهر الصيام، فتلك العبارات الرنانة الممزوجة بدموع لا تجف طيلة اليوم وكأنها مبرمجة على السيلان على الطريقة الدرامية، والكيفية التي تطلق المتسولة بها العنان لنفسها بالدعاء بالخير للمانحين، تجعلك تفكر أن تقترب منها وتسألها على غرار ما يفعل الكثيرون بغية التقليل من هم المتسولة. وكما بادرت «الشعب» وهي تحاول التحقيق في ما تخفيه هذه الشخصية المتسولة، لذا كنا مستعدين لتلقي وابل من الشتائم والدعاء بالشر لمجرد سؤالها بنية المساعدة، هل أنت بحاجة إلى عمل ؟، في حين لا يمكنك الإفلات من قبضة الأطفال الصغار المتسولين الذين يقطعون أمامك الطريق، إلا بعد أن تمنح الصدقة ولا تهم قيمتها حتى ولو تمعنها الطفل المتسول بازدراء وهي بقبضة يده، مشاهد مثل هذه تصادفنا يوميا في الطرقات والأسواق والتفسير الشكلي للظاهرة على وجه العموم أنها في تطور ملحوظ يستدعي قبل أي دراسة أو تحليل سوسيولوجي، الردع القانوني ومكافحة التسول مع ضرورة الحفاظ على حقوق الطفولة المستغلة في مثل هذه السلوكات البعيدة كل البعد عن ثقافة مجتمعنا المحافظ والمتحضر.