لا تزال الحاجة لهذه الثروة لإنجاز التحول الاستراتيجي ببناء منظومة جديدة للطاقة تحل الذكرى ال45 لتأميم المحروقات الموافقة ل 24 فيفري في ظل اتساع جدل لا يكاد يتوقف حول هذه الثروة من بترول وغاز طبيعي ودورها في تأمين الاقتصاد الوطني وحماية المكاسب الوطنية التي تحققت غداة استرجاع السيادة الوطنية. كان البترول في صميم المفاوضات التي أنتجت اتفاقيات ايفيان من خلال الصراع الدبلوماسي الذي خاضه وفد الحكومة الجزائرية المؤقتة في مواجهة الوفد الممثل لدولة الاحتلال التي حاولت يائسة التلاعب بمصير الصحراء الجزائرية للاستحواذ على ما تكتنزه من ثروات أبرزها المحروقات. خيار الاعتماد على الذات وبقي الذهب الأسود يتصدر العلاقات بين البلدين بعد 1962 مشكلا الورقة التي يستعملها كل طرف لمصلحته إلى أن قلب الرئيس هواري بومدين الطاولة على الطرف الآخر المتعنت والمراوغ معلنا في ال24 فيفري 1971 من مقر الاتحاد العام للعمال الجزائريين قرار تأميم المحروقات. وكانت عبارة قررنا... مدوية إلى درجة أصابت الشركات الفرنسية التي لطالما استنزفت الثروة وحققت أرباحا خيالية رافضة الاستجابة للمطالب المشروعة التي قدمتها الحكومة الجزائرية آنذاك. وتحول ما اعتبرته بعض الأوساط المرتبطة عضويا بالمصالح الأجنبية انتحارا أو مغامرة إلى ملحمة أخرى في سجل انجازات الجزائر المستقلة خاصة وان عدة عمليات تأميم سابقة قد نجحت على غرار استرجاع البنوك والمناجم، فتحملت الدولة الناشئة بعد أقل من عشرية عن استقلالها وما خلفته حقبة استعمارية طويلة من خراب ودمار وانهيار، مسؤوليتها كاملة ومواجهة الواقع بكل تحدياته. اللحظة الحاسمة.. وبالفعل، ما إن أنهى بومدين خطابه التاريخي في ذلك اليوم الذي سجل تحولا عميقا في المجتمع وتكريسا لخيار الاعتماد على الذات وإلقاء المسؤولية على عاتق الكفاءات الجزائرية لتتصدر المشهد الاقتصادي، حتى انتشر كافة العمال يتقدمهم المهندسون والتقنيون على مستوى مواقع إنتاج النفط ومعامل الاستغلال ضمانا لمواصلة الإنتاج وتأمين وفرة المادة في السوق الدولية. وكان الجانب الفرنسي حينها يتوقع فشل العملية مراهنا على عدم قدرة الجزائريين على تشغيل المعدات في الآبار وهو رهان خاسر في تلك المرحلة التي كانت تمثل فيه الوطنية قناعة أكبر من أن تكون مجرد شعار. وتحمل الجزائريون تبعات قرار فتح المجال واسعا أمام تجسيد الأهداف الجوهرية للاستقلال تتقدمها برامج ومخططات التنمية الواسعة النطاق فسخرت الدولة إيرادات تلك الثروة الثمينة في تمويل مشاريع ضخمة شملت الصناعة والبنية التحتية والتعليم والصحة وبشكل عام كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية كما تعززت قدرات الدولة المالية لتؤكد موقعها المؤثر في الساحة الدولية إقليميا وعالميا بحيث لم تتأخر في المساهمة في برامج إنسانية لفائدة بلدان وشعوب مقهورة وأخرى كاد أن ينال منها الفقر وذلك ضمن مبادئ الثورة الجزائرية التي جعلت تحرير الإنسان في مقدمة أهدافها. وانعكست عائدات النفط بشكل إيجابي وفي زمن قياسي على مستوى المعيشة حيث ارتفعت أسهم المؤشرات ذات الصلة بالتنمية البشرية فيما كانت المصانع والمركبات تغير من وجه الواقع المزري الذي خلفه الوجود الاستدماري الفرنسي لترسم صورة حديثة لجزائر ناشئة تبني نفسها بنفسها وتجيد الخوض في قضايا كانت في السابق حكرا على الدول المتقدمة وكانت محطة الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1974 التي ترأسها وزير الخارجية آنذاك عبد العزيز موعدا لتطلق الجزائر بلسان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نداءها الشهير بإرساء نظام اقتصادي عالمي جديد يقوم على ملكية الشعوب لثرواتها الطبيعية وإنهاء احتكار الشركات متعددة الجنسيات والتضامن الإنساني والتوزيع العادل للاستثمارات الدولية. نعمة أم نقمة.. خاضت الجزائر باسترجاع ملكيتها للطاقة مسارا تنمويا لا يزال يتواصل بالرغم من محطات عرفت فيها صعوبات نتيجة انهيار أسعار برميل النفط وتقلبات الأسواق تحت تأثير دول وشركات نافذة في العالم كما يجري حاليا بفعل سقوط الأسعار إلى أدنى مستوياتها مكلفة الدول البترولية مواجهة تحديات مصيرية كما هو الحال للجزائر التي تواجه تداعيات الصدمة المالية الخارجية في وقت بلغت فيه شوطا متقدما على درب التنمية المستدامة. وفي ظل أوضاع كهذه بالنظر لما تعكسه من مؤشرات سلبية أبرزها انكماش احتياطي الصرف بالعملة الصعبة وتراجع مستوى الإيرادات المالية إلى سقف أقل مما تتطلبه مقتضيات الاستثمار والنمو بعيدا عن الاحتياج لتمويلات بالاستدانة الخارجية فان الجزائر لا تزال بحاجة لهذه النعمة وليس النقمة لإنجاز التحول الاستراتيجي ببناء منظومة جديدة للطاقة البديلة توفر متطلبات التنمية وتخلص الجهاز الاقتصادي من تبعية للطاقة التقليدية. بطبيعة الحال ينظر للنفط على أنه نعمة لما يضمن حركية العجلة بتوفير مداخيل ملائمة تصب في الاستثمار والتنمية البشرية، ولكنه يتحول في نظر الكثيرين إلى نقمة لما يحدث العكس فيتحول إلى كابوس يزعج أكثر من واحد فتجد المجتمع كله يعيش على وقع تداعيات السوق البترولية العالمية وتجاذبات الفاعلين فيها ويزداد الطين بلّة حينما تدخل اعتبارات المخططات الجيواستراتيجية لكبار العالم ودول صاحبة النفوذ التي تستهدف بلدانا بترولية مصنفة لديها ضمن الدول المستعصية أو المتمردة ويعني ذلك الدول التي ترفض أن تسير في فلك لا ناقة ولا جمل لها فيه وتفضل بدله مصالحها الوطنية العادلة فقط مثلما هو الشأن بالنسبة للجزائر التي ساهمت بشكل كبير في ضمان توازن معادلة السوق البترولية انطلاقا من مبدأ المصالح المتبادلة والمتوازنة. المنعرج.. والأفق الجديد غير أن الذكرى التاريخية تعود هذه السنة والبلاد أمام منعرج حاسم يرتبط بمدى النجاعة في التعاطي مع النفط الذي لا يزال يمثل الوقود الأول في دفع مسيرة النمو. ومن ثمة فإن التعامل معه في هذا الظرف يتطلب التزود بتلك الطاقة القوية التي كانت تسود خلال مرحلة التأميمات والمستمدة من روح وطنية خارقة والانطلاق في بناء مسار اقتصادي جديد يمثل فيه المحروقات منصة الانطلاق الصحيحة والمتوازنة نحو اقتصاد إنتاجي ومتنوع. ولا تزال الفرصة متاحة اليوم لإنجاز ذلك الهدف بإتباع خط سير يقوم على قواعد دقيقة تستند إلى خيارات مسؤولة عنوانها ترشيد النفقات العمومية وحسن تدبيرها وهو ما يتطلب مراجعة في العمق للذهنيات وتنمية لسلوكات تقود إلى بر الأمان. ومن أول شروط رد الاعتبار للنفط في ذكرى تأميمه تصنيف هذه الثروة في خانة الأملاك المستقبلية للأجيال والتعامل معها بحذر لتمويل الضروريات التي تؤسس للمسار الاقتصادي خارج المحروقات والتزام عقيدة التدقيق الدوري للقطاع خاصة المؤسسة الوطنية سوناطراك وأخواتها التي يعول عليها في توفير الموارد المالية التي يتطلبها النمو وتغطية الاحتياجات الأساسية مع تأسيس منهج صارم لمكافحة الفساد والتبذير بكل أشكاله بما في ذلك ضمن القطاعات التي تعودت على الريع البترولي. ولا تزال سوناطراك بالرغم مما تعرضت له من بمثابة الأداة القوية بيد الدولة لتامين إيرادات التنمية وإنجاز برامجها لفائدة المجموعة الوطنية. فبالنفط يمكن إطلاق مسيرة التحرر منه باعتماد مخطط متوسط وبعيد المدى يرتكز على إدخال الطاقات البديلة والنظيفة أو المتجددة وهي مسؤولية أكثر من قطاع يستهلك الطاقة مثل البناء والفلاحة والسياحة في الجنوب والهضاب العليا من خلال إدخال خيار الطاقة الشمسية و طاقة الرياح مبكرا وإدراجها في مشاريعها المستقبلية لتدارك الاحتياجات الطاقوية في الآجال وبأقل كلفة ويكون ذلك عربون وفاء للمحروقات التقليدية التي تتحمل أكثر من طاقتها أمام عجز مستهلكين كبار عن تنمية البديل الطاقوي أو على الأقل اقتصاد الاستهلاك. ولعل هذه المناسبة التي تتزامن مع ذكرى تأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين الذي برز في خضم الثورة التحريرية المجدية هي الموعد الحاسم لتسطير مسار التحول الطاقوي خارج الوقوع في جدل عقيم حول الثروة والغرق في تجاذبات بعيدة عن حقيقة المصالح الوطنية الكبرى التي تتطلب إعادة صياغة ورقة الطريق للمحروقات بإدراجها في السياق الاقتصادي الجديد كمصدر للتمويل الموجه لرسم المشهد الاقتصادي الجديد فتكون المحروقات أوكسجين البناء الاقتصادي الخلاق للثروة والمنتج للقيمة المضافة أي بمعنى آخر دمج كل الموارد وأولها الإنسان في الديناميكية التي تكرس استقلالية القرار الاقتصادي باعتباره الوجه الأخر للقرار السياسي السيادي الذي كان له عمق منذ إطلاق مسار التأميمات التي توجت باسترجاع السيادة الوطنية على المحروقات. قررنا .. يعتبر قرار تأميم المحروقات من القرارات الشجاعة والحاسمة التي أعلن عنها الرئيس الراحل هواري بومدين في خطابه التاريخي الذي ألقاه على الساعة الرابعة من مساء يوم 24 فيفري1971، أمام إطارات الإتحاد العام للعمال الجزائريين بعد المفاوضات الجزائرية الفرنسية بشأن نصوص تضمنتها معاهدة إيفيان الموقعة في 7 مارس 1962، لاسيما منها ذات الصلة بحماية مصالح فرنسا وامتيازاتها في استغلال ثروات البترول في الصحراء الجزائرية ضمن ما عبّرت عنه هذه الاتفاقية بعبارة مبهمة هي «التعاون العضوي»، وقد بدأت تلك المفاوضات عام 1969 على أمل الانتهاء منها في جويلية عام 1970 والخروج بنتائج ترضي الطرفين، وكان رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة الذي شغل منصب وزير الخارجية آنذاك قد قام بجولات ماراطونية ذهابا وإيابا بين العاصمتين الجزائر وباريس للقاء وزير الصناعة إكزافيه أورتولي المكلف بملف المحادثات التي كانت عالية المستوى والتمثيل الدبلوماسي، لكنها لم تنته إلى نتيجة، رغم مرور سنة عليها، لاسيما وأن الطرف الفرنسي كان مصّرا على مواقفه وأبدى تصلبا كبيرا لصالح شركاته البترولية على حساب حقّ الجزائر يعد من صميم السيادة الوطنية. وبينما كان فيه الفرنسيون شبه متيقنين بأن المفاوضات ستكون لصالحهم، على اعتبار أن الجزائريين في نظرهم ليسوا مؤهلين وغير قادرين على تأميم بترولهم لجملة من الأسباب في مقدمتها ضعف الإمكانات وانعدام الإطارات التي بإمكانها الاضطلاع بتداعيات مثل هذه القرارات الاستثنائية التي قد ترهن البلاد وتضعها أمام مصير مجهول، كان الطرف الجزائري يفاوض برأس مرفوع وثقة كبيرة في النفس، فهو ببساطة يملك أوراقا سحرية يقرأها فتكشف له جميع الأسرار التي يخفيها المفاوض الآخر، ويعمل على الضغط بها عند كل لقاء ومحادثة، الشيء الذي دفع بالطرف الفرنسي في بداية شهر فيفري من عام 1971، إلى إعلان وقف المفاوضات بمبادرة منه أمام دهشته وانبهاره بالقدرات الخارقة التي أبداها المفاوض الجزائري الذي أعرب على لسان الرئيس هواري بومدين عن موقفه الصريح المتمثل في قرار تأميم المحروقات ظهيرة يوم 24 فيفري 1971، وكان قرارا صائبا أعاد الحق إلى أصحابه الأصليين، مما جعل صحيفة «لوموند» تكتب إثر ذلك «إن الجزائر أصبحت حاملة لواء الدول البترولية التي تريد التحرّر من وصاية الشركات الأجنبية منطلقة في سباق لاسترجاع ثرواتها، حيث تمضي في الطليعة الآن للوصول إلى هذا الهدف»، وبالفعل فقد حذا حذو الجزائر في قرار تأميم المحروقات كل من العراق عام 1972 وليبيا في سنة 1973.