تابع العالم كله حفل تسليم الرئيس الأمريكي باراك أوباما جائزة نوبل للسلام التي أسالت الكثير من الحبر، وفتحت الجدل حول لماذا اختياره لهذا الاستحقاق، وكيف فاز على غيره من الشخصيات التي هي أجدر وأقوى. وكان التساؤل المحير كيف تُمنح لأول مرة جائزة نوبل على أساس النوايا والبرامج أكثر من الإنجازات. وجاء الفوز بالجائزة السلمية في المراحل السابقة وفق عمل تقييمي للإنجاز وإعطاء حوصلة لما تقرر في الميدان وكان محل متابعة واهتمام وعناية. وعكس التوقعات والأمر الاعتيادي جاء منح جائزة نوبل للسلام هذه المرة حاملة الخصوصية والاستثناء، وسُلمت لأوباما وهو في بداية عهدته الرئاسية على قاعدة النوايا والخطة المستقبلية أكبر من أي اعتبار آخر. عكس هذه التوقعات والاستثناء، أخذت كلمة أوباما الاتجاه والمنحنى واحتوت المضمون، وانصبت على شحن القوة والقدرة من أجل توفير الحماية اللازمة للولايات المتحدة في أي موقع من المعمورة وبأفغانستان تحديدا قلب الاهتمام الإستراتيجي الأمريكي وجوهر حساباته التكتيكية وخياراته القريبة والبعيدة الأمد. وبنفس درجة التأثير بستوكهولم التي كُرمت في أجوائها الشخصيات العلمية والأدبية بجوائر ذات الاختصاص وأغلبيتها العظمى أمريكية، جرى حفل تسليم جائزة نوبل لأوباما بأوسلو غير بعيد عن قمة كوبنهاغن المهتمة بأزمة الاحتباس الحراري الذي يهدد الكوكب الأرضي بالانهيار الحتمي ما لم تتخذ على عجل تدابير جادة للتقليل من انبعاث التلوث، فكان الحدث الذي طغى على كل شيء وانصبت عليه الاهتمامات. ولم يجد الرئيس الأمريكي مبررا لحالة الاستحقاق والتكريم غير محاولة تغليف سياسته بمضامين سلمية رغم أنها امتداد لسياسة من سبقه في المهمة: جورج وولكر بوش الذي لوّح في بداية المشوار بشن حرب صليبية ضد المسلمين، قبل أن يعدل عن هذا التطرف ويدرجه في خانة محاربة الإرهاب ولو لم يحدد مفهومه ومصطلحه. أظهر أوباما مدى الوفاء للسياسة السابقة التي انتهجها الجمهوريون من حيث المبدأ والغاية وإن اختلف الأسلوب. وانصب الاهتمام الأمريكي على حقيقة واحدة ثابتة لا تقبل الجدل والمساس: حماية نفوذ الولاياتالمتحدة وتوفير لها عناصر القوة والغلبة في قيادة العالم دون القبول بتقاسم وظيفي. وبدبلوماسية معهودة رد الرئيس أوباما على تأويلات منحه جائزة نوبل وراح يفككك الألغاز بالتدريج، معطيا لنفسه أشياء لا تحق لغيره، في صدارتها مشروعية اتخاذ إجراءات لحماية الولاياتالمتحدة بما في ذلك القوة العسكرية. وعلى طريقة "العملية الجراحية" التي طبقت في العراق بداية التسعينيات المبنية على أوهام، تطبق هذه الإستراتيجية في أفغانستان لأبعد ما يمكن، لأن أفغانستان موطن الخطر الاسلاموي الآتي من القاعدة، ومنها شنت اعتداءات ال 11 سبتمبر سبب كل هذه الزوبعة. وطالما أن خطر القاعدة قائم وماثل بين الأعين لا يرى أوباما إمكانية انسحاب القوات الأمريكية التي تخوض حربا شعواء بأفغانستان وتستمر إلى إشعار آخر. وبهذا الخطاب أظهر أوباما أنه رجل استراتيجي يواصل تطبيق سياسة بوش بأسلوب مغاير يعطي الانطباع أنه مهادن مهادئ ويترك المجال للتحرك السياسي في الحوار مع الآخر لتسوية أي عقدة مهما كبرت وتوسعت. وهي النقطة التي ارتكزت عليها لجنة نوبل واستندت عليها في تكريم أوباما بهذا الاستحقاق الذي فاز به ثلاث رؤساء أمريكيون من قبل: كارتر، ويلسون، روزفلت، لكن على أسس إنجازات وليس الوعود والنوايا مثلما حصل الآن مع أوباما الذي قدم على أنه أطلق عهدا جديدا من الحوار والتعددية في السياسة الخارجية الأمريكية، ولوح بالمشاورة مع أكبر الخصوم وأكثرهم عنادا كإيران وكوريا الشمالية، اعتقادا منه بأنه الأسلوب الأمثل لتحقيق ما عجزت عنه القوة العسكرية التي ليست دائما وأبدا وحدها الرهان.