شكّلت السيادة الاقتصادية ولا تزال، جوهر مسار الكفاح من أجل استرجاع السيادة الوطنية وإرساء الدولة الوطنية. وتتأكّد هذه الحتمية المصيرية اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل تحول العلاقات بين الدول إلى صراعات من أجل السيطرة على الأسواق والتحكم في الموارد في مشهد هو أقرب إلى حرب اقتصادية لا تعترف بالحدود السياسية. حرصت الجزائر منذ أولى سنوات الاستقلال على تجسيد السيادة الاقتصادية - تعد من أصعب المعارك بعد ثورة التحرير - من خلال بسط سلطة الدولة المستقلة على الثروات الطبيعية، وكافة المقدرات الاقتصادية عن طريق آليات قانونية تنسجم مع الخيارات السيادية الكبرى. وكانت التأميمات التي شملت مختلف القطاعات الاقتصادية الرد الوحيد الذي يكفل تلبية احتياجات المرحلة من كافة جوانبها الاقتصادية والاجتماعية، وتمكين الشعب الجزائري من قطف ثمار الحرية التي دفع من أجلها فاتورة لا تقبل نصف الحلول أو التردد في الحسم بشأن مسائل ترتبط بمصير الأجيال. كانت البداية بالأراضي الفلاحية التي استحوذ عليها المعمرون الاستدماريون لحقبة طويلة لتدخل حظيرة ملكية الدولة، تلتها المناجم والبنوك ومختلف، الوحدات الصناعية التحويلية، لتتوّج العملية بإعلان تأميم المحروقات في 24 فبراير 1971 إثر توقف المفاوضات بتعنّت من فرنسا التي كان قادتها حينها يراهنون على حسابات خاسرة مسبقا أمام إرادة القيادة الوطنية الجزائرية المشبّعة بقيم مبادئ ثورة أول نوفمبر الصارمة. واستمرت المسيرة المعقّدة بكل ما تتطلّبه من إرادة وإخلاص طيلة كافة المراحل التي مرت بها البلاد، وتتواصل في هذه المرحلة الحاسمة من أجل تعزيز المكاسب ذات الصلة بالشق الاقتصادي للسيادة الوطنية وفقا لما يكرّسه الدستور الجديد المنسجم مع الدساتير السابقة من حيث التأكيد بوضوح على أنّ الاستقلال السياسي بالمفهوم الشامل يكتمل بكسب معركة الاستقلال الاقتصادي التي تتجدد في كل مرحلة بالنظر للانعكاسات المترتبة عن ديناميكية النظام العالمي وتحولات العلاقات الدولية التي لا تؤمن بثوابت إنما تخضع لتغير القوى الفاعلة. لذلك يتطلب العبور بالسيادة السياسية إلى السيادة الاقتصادية حضورا مستمرا في المجالات والقطاعات التي تجري فيها تلك المعارك بالتزام اليقظة في كل لحظة وإدراك متواصل لمدى أهمية الرهانات وثقل التحديات التي لا مجال لرفعها سوى بالحرص على البذل والعطاء في مواقع العمل وفاء لأولئك المخلصين، الذين هبّوا منذ أول لحظة للدفاع عن الجزائر طيلة مختلف مراحل المقاومة التي أثمرت ثورة أول نوفمبر لتغير، وبشكل نهائي، مجرى التاريخ بتصحيح اتجاهه نحو بلوغ الطموحات المشروعة للشعب الجزائري وممارسة حقه في تقرير المصير من اجل الانعتاق والتحرر من الاحتلال الاستيطاني الغاشم. كانت تلك القناعة المتوارثة جيلا بعد جيل بمثابة الارضية الصلبة التي ارتكزت عليها مسيرة البناء والتشييد تحت مظلة السيادة الوطنية التي يحرص عليها الشعب الجزائري بقوة لا تلين، بل وتترسّخ أكثر فأكثر كلما مرت البلاد بمنعرج ازمة او واجهت ظروفا صعبة، كما هو الأمر اليوم أمام تداعيات الصدمة المالية الخارجية التي تحمل تهديدات مختلفة الاشكال تحوم حول السيادة الاقتصادية التي تتعلق بها مختلف اوجه السيادة الوطنية. وفي هذا الاطار، يبرز مدى الوعي السائد في المجتمع بضرورة تجديد العهد مثلما أظهره الشعب الجزائري في أكثر من ظرف على غرار الوقوف في خندق الدفاع عن مقدرات الامة الاقتصادية في مواجهة الخطر الارهابي، وقبلها في مواجهة أكثر من تهديد وابتزاز ومساومة من جانب قوى خارجية، أبرزها تلك التي لا يهدأ لها بال والجزائر تواصل بناء مشروعها الحضاري ضمن الامم التواقة للتقدم والرفاهية. وانسجاما مع هذه الروح المتجددة المستمدة من رصيد تاريخي هو مضرب المثل لدى الشعوب الحرة، لا تزال أسس السيادة الاقتصادية قائمة تتضمنها اسمى وثيقة تحكم البلاد، بحيث يؤكد الدستور الدفاع عن مكونات تلك السيادة من ملكية الدولة للاراضي الفلاحية والموارد الطبيعية الحيوية لتامين القرار السيادي وعدم التنازل عن مبادئ اصلية بما في ذلك - كما أكّده مخطط عمل الحكومة الحالية - قاعدة 51 / 49 للشراكة الأجنبية، ووضع الرأسمال الوطني في صدارة المشهد الاستثماري والأكثر جدوى الرهان على العنصر البشري الجزائري في حمل هذا الموروث المصيري، خاصة ما يتعلق بالانتقال الاقتصادي النوعي بنفس العزيمة التي كانت لدى السلف الذي لم يتراجع عن الخيارات الوطنية تحت أي ذريعة بل صمّم على رفع التحديات دون الالتفات للكلفة وإن كانت في أوقات باهظة. واليوم، خاصة في الظروف الراهنة، التي يبدو أنها قد تطول لا يوجد من بديل سوى أن تتوجه المجموعة الوطنية بجميع طاقاتها وفي كافة القطاعات خاصة الإنتاجية منها إلى رفع تحدي النمو الذي يتطلب التفاف القوى الاقتصادية والاجتماعية حول النموذج الجديد للنمو بروح لا تقل عن تلك التي تميزت بها مختلف الأجيال من التحرير إلى البناء والدفاع عن المكاسب اليوم في ظل نظام عالمي لا يؤمن بالتضامن، ولا يعير لحقوق الشعوب عناية بل لا تتوانى القوى الفاعلة فيه في استهداف الدولة الوطنية طمعا في مقدرات الشعوب. وبالفعل في ظروف تصبح فيها قضايا الأمن الغذائي أولوية في نظام العلاقات الدولية غير المتكافئة والخاضع لتأثيرات الدول الكبرى التي تستجيب للشركات النافذة في الأسواق العالمية، لا مجال لبلدنا وشعبه غير تجديد العهد مع ميثاق الوفاء لثورة أول نوفمبر التي زلزلت الأرض تحت أقدام الاحتلال الفرنسي وعملائه وتجسيد ذلكم الخيار بكل صعوباته من خلال الحرص كل في موقعه على العمل وإتقانه مع الاستجابة لضرورات ترشيد النفقات على مستوى الفرد والأسرة أو المؤسسة عمومية كانت أو خاصة وكذا المرفق العام من اجل كسب معركة السوق.