يعود المجاهد الكبير، محمد بن يحيى، ليسجل شهادته التاريخيه النابضة بالحقائق الناصعة والمثيرة بأحداثها التي يسردها بلسان من عايش جزء وشارك في صنع الجزء الآخر منها، من منطلق حرصه الشديد على حفظ الذاكرة الثورية بعد كتابه الموسوم ب:...... لكنه في الوقت الراهن يوجد في حالة صحية حرجة، تتطلب تدخلا عاجلا من السلطات العليا، لاسيما بعد الترويج بأنه من الشخصيات الوطنية والإطارات السامية للدولة التي يتوقع أن يتم تعيينها في مجلس الأمة. ''الشعب'' ، إنتقلت إلى مقرّ سكناه بأعالي »شوفالي« بالعاصمة، ورغم الحالة الصحية المتدهورة التي تتطلب تكفلا عاجلا به من طرف الدولة، إلا أنه مازال ينبض بالوطنية ومستعد لتقديم المزيد من التضحيات حتى تبقى الجزائر قطبا يشعّ بالصمود والتطوّر. ❊ ''الشعب'': ناضلت إلى جانب أسماء ثورية لامعة وقياديين خالدين في ثورة التحرير المجيدة، وعشت الأحداث الثورية بإنتصاراتها وإخفاقاتها، ورغم التحفظ الكبير الذي يبديه بعض صناع الثورة الذين مازالوا على قيد الحياة، إلا أنك ظاهرت ضمن المجموعة التي تقتنع بمبدأ ضرورة تسجيل الشهادات الثورية قبل رحيل الجيل الصانع لها، حتى لا تزيف الحقائق ولا تمزّق صفحات جوهرية من تاريخنا المعاصر، نودّ في البداية تسليط الضوء على إنطلاق مغامرتك الثورية التي تكلّلت بافتكاك الإستقلال واسترجاع السيادة الوطنية؟ ❊ ❊ المجاهد محمد بن يحيى: أنا من مواليد 5 فيفري 1930 ببجاية، حيث ترعرعت في هذه الولاية، وإلتحقت بمدرستها العربية والفرنسية، ثم واصلت تحصيلي العلمي في الثانوية الفرنسية، تكوّنت في المدرسة البحرية التجارية، ولا أنسى المحطة الجوهرية التي أثرت تكويني، لأنني التحقت بصفوف الكشافة الإسلامية الجزائرية ولم أتجاوز سن 12 سنة، وكانت آنذاك تسيّر من طرف شخصيات ناشطة في الحزب الوطني يتصدرها ''مصالي الحاج''، حيث نشأنا على الوطنية وحبّ الجزائر وتبلور بداخلنا شعور بالتضحية من أجل هذه الأرض الطيبة. وفي سنة ,1945 نظمت جماهير ولاية بجاية مظاهراتها الخالدة ضدّ المستمر الفرنسي يوم (1 ماي 1945)، وكنت أبلغ يومها 15 عاما، حيث ومن شدّة الإستياء على الظلم الإستعماري، حملت حجارة وأقدمت على كسر زجاج سيارة محافظ الشرطة، عندها تم سحبي إلى مقر الشرطة ونيّتهم إيداعي رهن الحبس، لكن شرطي جزائري يقطن بجوارنا تعاطف معي وتصرّف بذكاء، حيث عاملني كقاصر وتظاهر بصفعي وتأنيبي وطردي من محافظة الشرطة، وهذا ما هدّأ من روع محافظ الشرطة وخاطبه قائلا: »لقد أحسنت صنعا«، فنجوت من سجن مؤكد. الخطابي شحذ هممنا للتحرّر من الإستعمار ❊ هل نفهم من هذا، أنك تغلغلت أولا في النضال السياسي قبل النضال العسكري؟ ❊ ❊ رغم أن الحزب الوطني في سنة ,1946 شارك في الانتخابات التي نظمتها فرنسا لولوج المجلس الوطني الفرنسي، إلا أن فرنسا كانت متعصبة وقاسية على الحزب الوطني، وقامت بإدخال قادته عدة مرات إلى السجن، هذا ما رسب بداخلنا نقمة كبيرة على فرنسا، وبعد أن كتب الزعيم المغربي »عبد الكريم الخطابي« في جريدتين وهما: »الجزائر حرة« و»الأمة الجزائرية«، بأنه سينشئ جيشا ويحرّر به منطقة شمال إفريقيا، حيث كنا شبان، وتأثرنا بهذا الكلام كثيرا، ونجح الخطابي في شحذ هممنا، غير أن فقرنا للمال جعلنا لا نتمكن من التحرّك. وبالموازاة مع ذلك، عقب تكويني في المدرسة البحرية سنة ,1950 عملت في البواخر الفرنسية وأبحرت في رحلتين عبر العالم وعندما كنا نستعد لإنزال السلع في ميناء بور سعيد، توقفت الباخرة في جويلية من عام ,1953 وعجّلت بالفرار ثم توجهت إلى القاهرة رغم أنني لا أحسن اللهجة المصرية ولا أملك المال.. وتوجهت إلى جامع ''الأزهر'' عندها تفاجأت بلقاء أحد أصدقائي من ولاية بجاية، ويدعى سيد أحمد الطرابلسي بزيّ مصري، وأخبرني أنه كان جنديا في صفوف فرنسا واضطر للفرار وحضّر للإنضمام إلى جيش عبد الكريم الخطابي، غير أنه صدم بعدم وجود أي جيش، وكان مجرد حديث جرائد ولم يجد أمامه سوى التسجيل للدراسة في جامع ''الأزهر''. ❊ لقد تشوقنا كثيرا لمعرفة المزيد، وكيف تمكنت مجددا من الإلتحاق بالمناضلين الجزائريين بعد أن ثبت عدم وجود جيش ل''عبد الكريم الخطابي''. درّست المصريين الفرنسية وتدريبهم العسكري كان ضعيفا ❊ قضيت الليلة في منزل صديقي الطرابلسي وطلبت منه التوجه إلى مكتب المغرب العربي الذي أسّسه الخطابي ويضمّ إلى جانب مكتبي تونس والمغرب مكتب خاص بالجزائر ونصّب فيه محمد خيضر مسؤولا، تحدثت إلى القائد محمد خيضر وأخبرته بمشروعي النضالي بعد كل ما سمعته عن جيش الخطابي، وعندها طلب مني العودة في اليوم الموالي، ولدى عودتي، إلتقيت بكل من آيت أحمد وأحمد بن بلة، وسألني آيت أحمد عن المنطقة التي أنحدر منها، وأخبرته أنني من ولاية بجاية. ولم أجد أمامي سوى مرافقة الطرابلسي إلى جامع ''الأزهر'' وفجأة حضر شخص يتحدث اللهجة المصرية وسألني عن المهنة التي أتقنها، وبعد إدراكه لإتقاني الجيد للغة الفرنسية، عرض عليّ تقديم دروس في اللغة الفرنسية وافقت على هذا العرض واستقبلت من طرف يوسف طلعت زعيم الإخوان المسلمين في الإسماعيلية وجمع من الإخوان المسلمين الطلبة وأتذكر أنني لم أطلب أي نقود وعكفت على تدريسهم بطريقة أبهرتهم، حيث إرتفع مستواهم في وقت قياسي، وصرت معروفا ومشهورا باسم الأستاذ محمد الجزائري، واستمرّ إتصالي مع السيد محمد خيضر، وفي يوم من الأيام حدث أمر مذهل... ❊ ماذا حدث بالضبط..؟ ❊ ❊ لاحظت أن صورة الزعيم مصالي الحاج معلقة على جدار المكتب، قد نزعت ولم أتردد في السؤال عنها وسبب نزعها، إلا أنه إكتفى بالقول بأن نظام جديد سيتكرّس وكان ذلك في شهر أكتوبر من سنة ,1954 ومع نهاية شهر أكتوبر أدلى بخطاب إلى رجال الإعلام وتحدث فيه عن حزب »الأفلان«.. وفي »الفاتح نوفمبر«، إنطلقت أول رصاصة لتعلن عن إندلاع الثورة التحريرية المجيدة، ووصلنا الخبر ونحن متواجدين بالقاهرة وأصرّ محمد خيضر على تدريبنا في ثكنة مصرية، إلا أنني بعد شهر من التدريب إنسحبت لأنه لم يكن تدريبا فعليا، بل ضعيفا.. على إعتبار أنني في تمنموست، في سنة ,1950 تكونت كبحري عسكري وتدربت لمدة شهر ثم لذت بالفرار من الثكنة، وتوجهت نحو مارسيليا ودخلت مجال البواخر البحرية التجارية. وبسبب عدم جدوى تدريب ثكنة مصر تحولت في سنة 1955 نحو ليبيا وبالضبط طرابلس حيث كان أحمد بن بلة يحضّر باخرة السلاح وكان الليبيون يحرسون عليه، ولما تحررت تونس صرنا نستعمل ميناءها، وفي سنة 1956 ألقي القبض على كل من بن بلة وآيت أحمد وخيضر بعد أن كان بن بلة يجلب الأسلحة بالباخرة عبر طرابلس ولا أنسى يوم إقتنى فيها بن بلة باخرة وكانت تحتاج إلى صيانة ومكثنا بداخلها حيث قمنا بإصلاحها، غير أنه عقب تأميم ''جمال عبد الناصر'' لقناة السويس، أغلقت بواخر فرنسا وإنجلترا طرابلس، ثم دخلنا إلى تونس ووجدنا أن الجزائريين مصنفين إلى ثلاثة أصناف وهي: 1 جماعة الفيلات وتحولوا إلى مسؤولين. 2 جماعة الفنادق وكانوا يكتنزون الأموال. 3 الطبقة الكادحة المكونة من الجنود. عندها توجهت إلى العاصمة تونس وطلب مني السيد محساس تفسير الأمر؟!، ثم أخبرني بأنه يودّ إرسالي لفتح مدرسة في باجة تابعة لجيش التحرير الوطني، حيث أشرفت فيها على تدريس الجنود، وكانت أول مدرسة لجيش التحرير الوطني،. ثم إنتقلت إلى التدريس وصرت أدرّب الجنود وحضر أحمد ڤرابة ليتدرب وأخبرني بوجود سلاح، وسألني كي نتوجه لإحضاره وكنا نحو 63 شخصا، لكن وقع إشتباك مع الجنود الفرنسيين حتى وصلنا إلى الولاية الثالثة ومكثنا في هذه الولاية، وفي الإستقلال كانت الجزائر منقسمة على اثنين.. ❊ من فضلك نودّ توضيحا بخصوص هذه النقطة؟ ❊ ❊ نعلم بأن الجزائر، خلال الثورة، قسّمت إلى 6 ولايات، وبعد الإستقلال إنضمت كل من الولاية الثانية والثالثة والرابعة إلى الحكومة المؤقتة، وكانت عاصمتهم تيزي وزو، أما الولاية الأولى والسادسة والخامسة، وجيش الحدود والمجموعة التي تكوّن المكتب السياسي التي تضمّ كل من محمد خيضر وأحمد بن بلة، شكلوا مكتبهم في ولاية تلمسان، ومن هنا برزت جماعة تيزي وزو، وجماعة تلمسان، ووقع إشتباك في ولاية تلمسان بين جيش تيزي وزو وجيش الحدود، حيث إندلعت المعركة في ماسينا بولاية الشلف وكان يلقب جيش الحدود بجيش بومدين، حيث إلتحقت آنذاك بتلمسان، وفي سنة ,1962 أي بعد إسترجاع السيادة، دخلت إلى ولاية بجاية وقمت بكسر مجموعة تيزي وزو، وساهمت في إذابة الجليد وإرجاع المياه إلى مجاريها، حيث أعدت رصّ الصفوف .. وبعدها إستدعاني محمد خيضر ومحمد الحاج عقيد الولاية الثالثة وخرج خيضر عن صمته وقرّر قائلا: يجب أن نوحّد الجزائر.. ثم إلتفت محمد خيضر نحوي وخاطبني قائلا: »ما لم أستطع فعله، نجحت فيه، لأنك ساهمت في وحدة الجزائر، هذا ما سمح لابن بلة برئاسة الجمهورية الجزائرية. ❊ وبعد الإستقلال، هل واصلت نضالك في صفوف جبهة التحرير الوطني؟ ❊ ❊ في سنة ,1963 كان ''الأفلان'' مقسما إلى جبهتين، حيث جماعة الشلف لم يعترفوا بجبهة التحرير المركزية، ونجحت في إحداث إنقلاب ووحّدت هذا الحزب، الأمر الذي سمح لأحمد بن بلة بزيارة ولاية الشلف، ونظمت له تجمعا شعبيا بعد أن كانوا لا يعترفون به، ونفس الأمر أقدمت عليه بالنسبة للمجاهد عبد العزيز بوتفليقة، حيث نظمت له تجمعا بولاية الشلف، ثم عقدنا مؤتمر ''الأفلان'' في سنة ,1964 وانتخبت عضوا في اللجنة المركزية للحزب في سنة .1965 ❊ ماهي الذكريات التي مازالت راسخة لديك في تعاملك مع الرئيس الراحل ''هواري بومدين''، وكيف كانت علاقتك به؟ هذا ما قاله لي الرئيس الراحل ''هواري بومدين'' ❊ ❊ لقد إستدعاني الرئيس الراحلي ''هواري بومدين'' يوم 13 جوان ,1965 واستقبلني في وزارة الدفاع، ثم تقدم بتشكراته منوّها بوقفتي التاريخية سنة (1962) ووصفها بالمعجزة وأبلغني سرا أوصاني بعدم البوح به. ❊ ماهو هذا السّر؟ ❊ ❊ أوصاني بأنه في حالة تلقيت طلبا من بن بلة بالذهاب إلى خارج الوطن، أن أرفض.. وبتاريخ 14 جوان عقدنا إجتماع اللجنة المركزية للأفلان وبتاريخ 19 جوان جاء الإنقلاب على بن بلة. ❊ من خلال حديثك يبدو أنك تكنّ معزّة خاصة وتقديرا للرئيس عبد العزيز بوتفليقة؟ ❊ ❊ لدي مجموعة من الصور النادرة التي تجمعني بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة من أجل ذلك وبالنظر إلى العلاقة التي كانت تربطنا، دعّمته في جميع حملاته الانتخابية، أي منذ عودته إلى الحكم سنة 1999 ثم في حملته سنة ,2004 وحتى خلال عهدته الثالثة. ❊ نعود إلى وضعك الصحي، متى بدأت حالتك بالتدهور، وهل قدمت نداء بالإستغاثة للتكفل بعلاجك؟ ❊ ❊ أنا معطوب حرب، حيث أصبت بنحو 10 رصاصات، واليوم فقدت عيني اليسرى تماما، وأخبرني الأطباء بإمكانية إسترجاع عافيتها، إلى جانب تدهور حالتي الصحية، وفي الماضي كنت أعالج خارج الوطن كلما سقطت طريح الفراش واليوم نفذت نقودي وأنتظر أن ينظروا إلى حالتي بالكثير من الإهتمام لأنني مستعد لمواصلة عطائي وإحتراقي من أجل الوطن. ❊ مامدى صحة ما تم ترويجه من أنكم من الشخصيات الوطنية التي دار الحديث، عن إمكانية تعيينها من طرف الرئيس في كتلة الثلث الرئاسي بمجلس الأمة؟ ❊ ❊ لقد بلغني ذلك، ولم أستغرب الأمر.. بالنظر إلى ما قدمته لهذا الوطن، خاصة وأن الرئيس بوتفليقة لا يتخلى عن كل من خدم الجزائر.