للشّاعر العراقي شلال عنوز وترتقي فعالية الشّاعر على تأسيس هذه المعادلة الصعبة بين المطحونين، من جهة، وبين اللصوص الذين يثملوا في حانات الليل الموبوءة بالعهر، لذلك يعود مستدركا ليختم المقطع بقوله: لا جدوى... عندما تعانقهُ نفوسٌ دبّت فيها شراهة الطاعون ومعنى اللاّجدوى هنا اعتراض بائن، داخل هيمنة الفحوى التحريضية للوعي الجمعي، لأن مشاهدة منظر الفرح، وهو يجثو على ركبتيه أمام هزال النفوس المريضة، وحينما تعانقه ذات النفوس التي دبت فيها شراهة الطاعون، وهذا التصوير اللافت يأخذنا الى حيث عوارض استفحال هذا المرض الخبيث القاتل، الذي يستشري حيثما حلت الحروب، وحلَّ الخراب، وحلَّ الفقر، والجهل، لأنه يبحث له عن مأوى في الأجساد، وفي العقول، ويفعل فعلته العدائية في إصابة الجميع بحمى الموت المباغت، أو الاحتضار البطيء. لقد دأب الشاعر شلال عنوز في هذا المقطع العالي التأثير في ذهن المتلقي باعتباره من أوقع التثويرات الشعرية الواقعية التي أثثها الشاعر برمزية معافاة، لبث ملاحق التحريض القصدي بنوازع المتلقي اليومية المغلفة بالأسى، والحزن، وإعلان معارضته المعلنة على هذا المشهد اليومي الذي يبعث على الغثيان، لعله يستطيع أن يرسم لنا كمتلقين صورة لمأساتنا الحاضرة، الحالكة الظلمة. ويأخذنا (الشاعر) في مقطع آخر من القصيدة الى مديات متساوقة مع الفعل الدينامكي للمأساة المبثوثة في صيرورة انتخاب الصورة الواقعية، وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض، حيث يقول في المقطع التالي: صدى صوت (بروتاغوراس) والمدى غلّفته دجنّةُ المَنافي شَربهُ عطشُ دم الأضاحي نام فيه رُقادُ الخُذلان يوم أمس كان العيد باكيا منصّات صَلبه يوميءُ لصخب السكارى أن يهدأ ليموت بصمت إن المعنى المخبوء خلف هذا الإتيان الأنموذجي لصدى صوت (بروتاغوراس)، فهو في الحقيقة استدراج لملحق التلقي، حيث مراد الشاعر التحريضي، ليؤثر على ملامح إنصاته الواعية الواقعية، والسفسطائية في آن واحد، فالمعروف أن بروتاغوراس) الذي عاش ما بين أعوام (487 ق.م - 420 ق.م هو صاحب الفكر، أو المنهج السفسطائي في القرن الخامس قبل الميلاد، وتُعتبر أفكاره هي أساس أفكار السفسطائيين، حيث كان يعتقد، بأن الإنسان هو مقياس كل شيء، أي أن الخير والشر، كلها يجب أن تُحدد بحسب حاجات الكائن البشري، ويعتمد منهجه أيضا على الجدل القائم على المغالطة، والتلاعب بالألفاظ، وهي خلاصة فكر 839838789 السفسطة، لأن المغالطة تكون غير إرادية، أما السفسطة فتكون إرادية لقلب الحق إلى باطل، أو بالعكس. وفي إحدى مقولاته الشهيرة يصرح (بروتاغوراس) «الإنسان مقياس كل شيء ما يوجد، وما لا يوجد»، وعلى أساس هذه القاعدة «البروتاغوراسية» السفسطائية يكون معيار الحقيقة ثابتاً، فما تراه حق، فهو حق بالنسبة لك، وما أراه باطلاً، فهو باطل بالنسبة لك. واستثمر الشاعر شلال عنوز هذا الإسقاط الرمزي بين صدى صوت بروتاغوراس ومنهجه السفسطائي وجدلية قلب الحق الى باطل، أو العكس، وهو هنا ينتخب ذات المناخ الواقعي الذي يعيشه الشاعر، والمجتمع برمته، من خلال اختلاط الخير، بالشر، الحق مع الباطل في وضع مجتمعي سادته العشوائية السياسية، والسفسطة الجدلية، والمغالطة العقيمة، والتلاعب بالألفاظ، لإبعاد الحقيقة عن ثوابتها المستقرة الواضحة، لإدخالها حيز التشويش، والضبابية، والعتمة من اجل مآرب شخصية، ومكاسب سياسية، وارتقاء مناصب زائلة، لينتج عن ذلك كله هذا الخراب، كما يذهب إليه الشاعر بقوله: صدى صوت بروتاغوراس والمدى غلّفته دجنّةُ المَنافي شَربهُ عطشُ دم الأضاحي نام فيه رُقادُ الخُذلان لقد استخدم الشاعر مفردة المدى، لأنها الوحيدة القادرة على نشر اتساع صدى الصوت، لذا نجده يركز على هذا المعنى (والمدى غلفته دجنة المنافي) وهذا الغلاف المعتم وفق المنهجية السفسطائية هي التي ذهبت بالشعب بعامته، ونخبته حيث المنافي والمدى) عبارة عن مفازة قاحلة، وشربة ماء لإطفاء الظمأ فيه مستخلصة من (دم الأضاحي) البشرية التي تذبح كل يوم في الحروب، أو تتناثر أشلاءها بأحزمة ناسفة على إسفلت الشارع، إنه تصوير بالغ الوجع لتلك المأساة الواقعية التي أدلفنا في جوفها الشاعر ليقودنا الى نتائج ذات معاني مخيبة، ليسحبنا الى منطقة ذات منافع تحريضية عالية، بمعنى أن دم الأضاحي البشرية قد نام فيه ..رقاد الخذلان، ليصور هذا الخذلان بطريقته الفواجعية، ورصده الببليوغرافيا الماهر للواقع اليومي البائس، الذي تذبح فيه الأضاحي البشرية، قربانا للأفكار الظلامية الهمجية، وللسياسات العقيمة التي أدخلتنا الى مستنقع الموت المبكر. وفي مقطع أوسط من القصيدة يستمر الشاعر شلال عنوز في تصويره لهذه المأساة حيث يقول: الأطفال في مساءات مدن الخشخاش يلتحفون نيبان الفاقة أسنّة القهر يفترشون أزيز ذُباب المزابل يرتّقون أسمال أحلامهم الممزقة بخيوط من عراء النكبات وهنا لا بد لنا من التصريح بأن من أهم أسباب اختيارنا لهذا المقطع من القصيدة، هو عملية تبيان مدى صلاحية المعنى العملي الفاعل في مخبوءات النص، وفي رصد الشاعر للواقع اليومي المعاش، واشتغاله القصدي على منطقة التحريض، فهو يختزل هذه المأساة بلغة باهرة، وتصوير شعري بارع، وإيقاع مُسارع، وموسيقى مأساوية منغمة، لتنسجم كل هذه الموارد الفنية بكليتها مع فداحة تلك الفواجعية اليومية، والأحزان الدائمة، والمشاهد الدموية المرعبة، ليطرح سؤاله الأزلي الذي أرقه كثيرا، وليتوخى من خلاله الإجابة عن كل تلك الخرائبية التي تحدث من حوله، حيث يقول في هذا المقطع: الأطفال في مساءات مدن الخشخاش يلتحفون نيبان الفاقة أسنّة القهر يفترشون أزيز ذُباب المزابل يرتّقون أسمال أحلامهم الممزقة بخيوط من عراء النكبات وفي هذا المقطع يصور الشاعر الذي ينتمي الى مدرسة تنظيم مشاهده المفجعة، وتحويلها الى حقائق واقعية إنسانية صرفة، استلها من بوتقة التلاقي بين الحقيقة في تصوراتها المأساوية، وبين نضجه المخيالي الفطن ليخلق منها فيلما مدهشا للواقعية المأساوية، ونوازعه الاشتغالية في منطقة التحريض، فهو يصور الأطفال في مساءات مدن الخشخاش والمعروف عن الخشخاش) بأنه جنْسُ من أجناس النَباتات العُشبيَّة المُعمِّرة، والتي تَتميَّز بعُصارتها اللَّبَنيَّة المُخَدِّرة، أَوراقُها حاضِنة مُتقابلة، أَزْهارُها كبيرةُ القَدّ، ثمارُها سمراءَ اللَّون، ومنها النَّوع الّذي يُسْتَخْرَجُ الأَفْيُون. إذن فالشاعر هنا يصور لنا بدقة قصدية فاعلة في إدانة المجتمع الذي ينجب أطفالا يعيشون في مدن خربة، تعتاش على أفيون الخدر اليومي، وتحت ظلال نزق الساسة، والمحتلين القادمين من خلف الأسوار، لينهشوا جسد هذا الوطن، بأطفاله، ونساءه، وشيوخه ليحولوهم لمجرد أشباح، ولتجدرهم من إنسانيتهم، وبخاصة الأطفال تلك الشريحة التي لا ذنب لها، سوى أنها ولدت في مدن مخدرة، نائمة فوق مساحات شاسعة من نبات الخشخاش الافيوني. وفي المقطع الأخير الذي يصور في الشاعر شلال عنوز الأطفال وهم في حالات يرثى لها، مجردة من أية حياة تليق بالطفولة، والإنسانية، أو واعظات أخلاقية، ولا حتى منافع آدمية، فيصرح بقوله: يلتحفون نيبان الفاقة أسنّة القهر يفترشون أزيز ذُباب المزابل يرتّقون أسمال أحلامهم الممزقة بخيوط من عراء النكبات يؤثّث الشاعر مشهده المأساوي الحافل بالفجيعة، فينشئ مشهدا خطيرا لحياة الأطفال وهم يلتحفون، نيبان الفاقة انها صرخة شعرية مدوية راح صداها يملأ أرجاء الخلجات الإنسانية، والعالم المتحضر، الذي يدعي المدنية، ويدافع عن حقوق الإنسان، والذي يزعم بأن من أولى مهامه الاعتناء، والاهتمام بالطفولة، ورعايتها، بل وبزعم الشاعر هو مشارك فعلي في قتلهم، وفي إبادتهم، وفي تشريدهم، ليعيشوا تحت وطأة الفقر، والجوع، والعوز، والحرمان من ابسط حقوق الطفولة في وطنهم الذين يعيشون فيه غرباء، فهم يعيشون تحت أسنّة القهر) الذي فرضه عليهم نظام متعسف جاء ليبيد ذاكرة الطفولة من خارطة الوطن، وهم كما يصورهم الشاعر بمشهد محزن، وبليغ الوجع (يفترشون أزيز..ذباب المزابل أية طفولة هذه التي تعتاش على المزابل، وازيز الذباب يعرش فوق رؤوسهم)، وهم كما ينعتهم الشاعر صادقاً، غير مبالغ. يرتقون أسمال أحلامهم الممزقة بخيوط من عراء النكبات يتبع الحلقة 2