بقلم: سليمان بخليلي صحفي منتج تلفزيوني مستقل طالعت مثلكم صحف الأحد فلم يشف غليلي أيا منها في التعليق على مهزلة حفل افتتاح تظاهرة عاصمة الثقافة العربية في الجزائر، والواقع أن أحدا لم يكلّف نفسه لسبب أو لآخر عناء تشريح جثة ولدت ميتة.. فلقد تمخّض الجبل ولم يلد هذه المرة فأرا، بل ولد مسخا ميتا غير محدد الهوية: شيء بين الفأر والجرذ، والظاهر أن آلام هذا المخاض الغامض العسير بدأت حسبما قرأنا وسمعنا عند مدخل القاعة البيضوية، حيث وجد المدعوون من أشقائنا العرب -دبلوماسيين وضيوفا- أنفسهم أمام سلوكات لم يعهدوها، ولربما لم يصادفوها طوال مشاويرهم الدبلوماسية والفنية إلا عندنا.. ومع أن الأستاذ كمال بوشامة أكرمني -كما أكرم غيري بالتأكيد- بتجنيبي حضور ذلك الحفل الصاخب عندما طلب مني أن أتجه إلى القاعة البيضوية بدءا من الساعة الثانية زوال الجمعة إن رغبت في حضور الحفل بالقاعة، نظرا لعدم توفر دعوات شخصية عنده لي ولأمثالي، إلا أنني تابعت المخاض عبر التلفزيون من آلامه العسيرة الأولى إلى أن استوى المسخ بشرا غير سوي يخاطب الجمهور في نهاية الحفل بلسان فرنسي لا يكاد يبين: tout le monde .. algeria, tout le monde .. algeria .. والحقيقة المؤلمة المؤسفة التي لا يختلف فيها اثنان، ولا يتناطح بشأنها كبشان! هي ذلك التناقض الصارخ الذي يعكس بحق مآل الجزائريين في السنوات الأخيرة وهم يدخلون الألفية الجديدة بأزمة هوية حادة وعميقة، بحيث انصرفوا عن التقدم نحو الأمام بالعودة إلى الوراء وهم يتساءلون سرا وعلانية: من نحن؟ ما هي جذورنا؟ أعرب نحن أم عجم؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي أضاف إليها الحضور الفرنسي المكثف في الحفل تناقضا جديدا يعكسه افتتاح السنة الثقافية العربية في الجزائر بأنامل فرنسية تعمّدت حتما أن تقدم للعرب ملامح الثقافة الجزائرية الأصيلة في شكل مسخ غامض لا يمكنه إلا أن يكرّس أزمة الهوية التي عملت فرنسا دوما وما تزال وستظل تعمل على بلورتها وتكريسها إلى أن تتمكّن حتما من تجفيف مياه البحر الأبيض المتوسط، وإلحاق "المحروسة" بالدائرة الإدارية لمرسيليا. ومثلكم، لا أشك أبدا في الجانب التقني المبهر الذي قدم به الحفل، ولا أعترض على إشراك الفرنسيين أو غيرهم في هذا الجانب إلى أن يفتح الله علينا يوما ونمسك بزمام أمورنا بأيدينا، إلا أنني أعترض مثلكم أيضا على أن يشاركنا العزف موسيقيون فرنسيون استطاعوا أن يفرضوا بصمة أيديهم وأفكارهم على ما قدم في الحفل، وأن ينتقوا -بالتالي- من الفن الجزائري ما يتماشى مع النوتة الفرنسية التي تخرج الفن الجزائري من جلده الأمازيغي العربي الأصيل، وتلبسه نشازا غير مفهوم لا يمكن أن نتذوقه إلا نحن وهم، في الوقت الذي كان يفترض فيه أن يسوق فننا وثقافتنا للأشقاء العرب الحاضرين والغائبين. وأكاد أجزم أن الوفود العربية الحاضرة التي يتقدمها كبيرهم "عمرو موسى" لم تفهم شيئا مما قُدّم، وأخص بالقصور في الفهم أولا: شخصي المتواضع، وثانيا: أفراد الوفد السوري الذي حضر بقوة على اعتبار أن السيد بوشامة كان سفيرا بدمشق من جهة، وعلى اعتبار أن دمشق هي التي ستتولى حمل المشعل الذي سنسلمه إليهم منطفئا بعد عام -هذا الوفد الممثل في أسماء فنية ذات وزن ثقيل كسلوم حداد، أسعد فضة ومنى واصف، ممن كانوا ينتظرون إطلالة الحاج رابح درياسة، وصوت خليفي أحمد المجلجل، وتعابير الراحل العظيم مفدي زكريا في إلياذة الجزائر، فإذا بهم يفاجؤون بهجين من موسيقى أفلام هيتشكوك، مصحوبة بأصوات متداخلة لمختلف حيوانات أحراش غابات الأمازون وأدغالها! وتماديا في الغموض، ولد المسخ متخفيا دون قابلة تقدمه للناس وتصرّح باسمه وهويته، نبت الحفل هكذا في ظلام دامس عمّ القاعة.. دون مقدمات، ولا مذيع يرحّب بالحاضرين والمشاهدين وبالمولود بين يديه، ولقد انطلق بوجوه أعجمية مليحة شقراء تسدل ظفائر تخلط الأمر على الرائي بشأن الراقص أهو رجل أم امرأة، ثم تؤدي هذه الوجوه حركات بهلوانية مصحوبة بموسيقى مرعبة وبأصوات حيوانات منبعثة من الغابة ممزوجة بمقاطع شبيهة ب "الڤناوي" المغربي وليست مثله.. في اللوحة الموالية يحاول "حميدو" مصحوبا بصفين اثنين من شباب الطبقة الارستوقراطية أيام الكولون، أن ينقذ الموقف برائعة "فرحة وزهوة" للمرحوم حداد الجيلالي، بطريقة لا تختلف عما ألِف المشاهد -المحلي - الجزائري أن يتابعه ضمن برنامج "احنا في الهنا"، وقد كان ينبغي على الأقل أن تكون هي المدخل الافتتاحي للتعريف بالتظاهرة في غياب مذيع محترف يعرّف الناس بالعرس وبصاحب العرس. ثم تغرق القاعة في ظلام دامس من جديد لننتقل في لوحة شبيهة بإشهارات متعاملي الهاتف النقال تظهر صورا ثابتة لسيف الدولة أبي الفتوح بُلكين بن زيري، مؤسس الدولة الصنهاجية عام 971 م، انطلاقا من تونس، والذي تصرّ وزيرة الثقافة المظلومة في الجزائر على تسميته كما حرّفه الفرنسيون "بولوغين" بدلا من اسمه الأمازيغي الحقيقي "بلكين" الذي تثبته كل المصادر والمعاجم والموسوعات التاريخية بهذا النطق وبصور ثابتة وحوار متداخل وربط غير متناسق، يتحاور الرجل مع عمر راسم والشهيدة حسيبة بن بوعلي بلهجة محلية جزائرية يستعصي فهمها حتى على بعض الجزائريين أنفسهم فما بالك بمن أقيم الحفل على شرفهم ومن أجلهم، وكأني باعتماد الحفل للهجتنا المحلية يتوجه إلينا نحن بالخطاب لا إلى جموع الحاضرين والمشاهدين العرب الذي يمكنهم متابعتنا تلفزيونيا، وأتساءل هنا: لماذا نصرّ على مخاطبة الهنود بالفرنسية، والصينيين بالفرنسية، واليابانيين بالفرنسية، وسكان المعمورة الممثلين في الأممالمتحدة بالفرنسية، ولا نخاطب قومنا وأهلنا وعشيرتنا باللغة العربية الفصيحة التي تجمعنا بهم؟ يعود "لطفي دوبل كانون" -وهو محليا بالنسبة لي ولكم- الفنان الذواق اللماح في المشهد الموالي إلى وصلة غير مفهومة من نوع "الراب"، يتحدث فيها بما يمكن أن يفهمه الجزائريون دون سواهم عن القرآن والحديث والسنة في غير موضعها مختتما بتكبيرات مجلجلة لا محل لها من الإعراب. ويبدو أن الأنامل الفرنسية الحاضرة بقوة لا يروقها هذا الهتاف، فيظهر المسرحي الكبير "محمد بن قطاف" لينقذ الموقف في المشهد الموالي بعبارة "il était une fois" ليترجمها لاحقا "كان يا ما كان" بعد أن تم تصوير شخصه على شكل دمية "ماريونات" يستعرض في غموض غير معهود منه فترات من تاريخنا الواضح المجيد. بعد قرابة ساعة كاملة من الزمن تطل علينا الممثلة القديرة "فطومة" لتقدم وبلهجة أكثر محلية بلدانا عربية دون أخرى لتضيف إلى الغموض غلالة أخرى أكثر كثافة، وهكذا تتوالى اللوحات بشكل عشوائي لا يعبر أبدا عن عمق الثقافة الجزائرية الأصيلة ولا عن هويتنا وصلتنا بالوطن العربي الذي حملنا هذه الثقة على يد الوزيرين السابقين المرموقين حمراوي حبيب شوقي ومحي الدين عميمور في الرياض قبل ست سنوات خلت. ومع أنه لا يمكن أن يغيب عن الذهن ربط إسبانيا بالثقافة العربية عبر تواجدنا هناك لأكثر من ثمانية قرون، إلا أنه لم يكن معقولا أن يتم الربط بهذه الطريقة العشوائية، وإلا فقد كان من الواجب أيضا ربط الهند وباكستان بالثقافة العربية تخليدا للدول العربية الإسلامية التي تعاقبت على تلك المناطق قرونا طويلة، والتي خصّها الرحالة "ابن بطوطة" بصفحات خالدة في "مذكراته". ثم هب أنك تريد التذكير بأمجاد "الفردوس المفقود" في الأندلس، رغم ما يمكن أن ينجر عن ذلك من احتجاج إسباني في هذا الزمن الذي يصوّر العربي إرهابيا أينما حل وارتحل، فقد كان من الأجدر أن تذكر الأندلس بفن الموشحات الخالد، وليس ب "الفلامنكو" الذي كان ردة فعل إسبانية وطنية هدفها محو الشخصية العربية في تلك الربوع إلى الأبد، فجاءت لوحة "الفلامنكو" تكريسا لمسخ متعمد تشم منه رائحة التواطؤ المتعمد بين أوصياء الثقافة في بلادنا مع قائد الأركسترا الذي يفضل أن ينادى: "أوامور " AOUAMEUR" بدلا من "عوامر"! ثم هل لي أن أتساءل ببراءة: لماذا خص لبنان بذلك القدر من البكاء والعويل والنواح الذي أداه الطفل الصغير بشكل معبر -رغم أنه راح- ببراءة -يمسح الدموع المختلطة مع بقايا أنفه- في الراية الجزائرية -اللبنانية؟ والحال أن وضع العرب كلهم -وليس لبنان وحده- بدءا من العراق وفلسطين وانتهاء بالسودان والصومال مدعاة لمسح الأنوف في كل الرايات العربية دون استثناء!! أليس هذا مناقضا للدعوة الدائمة لفصل الدين عن الدولة والثقافة عن السياسة؟؟ لقد تجشم العرب الوافدون والمشاهدون المشقة لينسوا همومهم وجراحهم في الجزائر من خلال تظاهرة ثقافية تذكرهم بماضيهم الثقافي المجيد، وتدفعهم للمضي قدما إلى الأمام، لا أن تنكأ جراحهم وتعيدهم قرونا إلى الوراء رافعين أكف الضراعة إلى الله من خلال "لطفي دوبل كانون" وهو يشهق: "دمرهم يا الله، حطمهم يا الله، عقم نساءهم، ويتم أطفالهم، وأرنا فيهم الويل والثبور وعظائم الأمور" على طريقة دراويش القرن الثامن عشر أيام العثمانيين! ثم هل لي أيضا أن أتساءل ببراءة الغبي عن مدلول الحقائب الحمراء التي تحملها الراقصات بأيديهن في أكثر من مشهد؟ هل هي دعوة الجزائري العربي إلى أن "يأخذ حقيبته ويرحل"؟.. الواقع أن تجنب الخوض في مثل هذا التفسير والانشغال عنه بكشف الحضور الفرنسي المريب في حفل افتتاح عاصمة الثقافة العربية أسلم وأضمن، ذلك أن هذا الحفل كشف أن فرنسا ما تزال حاضرة فينا وبقوة، وأنها ما تزال تحرك أصابعنا ونحن نكتب، وما تزال تعاملنا كقُصّر فتتجرأ على العزف بدلا من أناملنا، وعلى التفكير بدلا من أمخاخنا، وعلى الرقص بدلا من أقدامنا، وإلا كيف تريدني أن أقتنع بتقديم البلدان العربية بالحرف اللاتيني على الشاشة التي تظهر صورا عن تلك البلدان؟ لا أريد أن أخوض في شأن ما صرف من أموال، وبالأخص ما سيصرف للفريق الأجنبي الضخم الذي قام بتأطير الحفل، تقديرا لوصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن نعطي الأجير حقه قبل أن يجف عرقه، لكنني كنت أود أن لا يتجاوز الأجير حدوده، وأن يراعي الآمر بالصرف والناهي عنه مشاعر 35 مليون جزائري وقرابة المليار عربي -باعتبار أن العربية لسان- ممن أعطوا ثقتهم في هذا البلد لتقديم مولود أمازيغي الأصل، عربي المنبت، وليس مسخا هجينا لا أصل له. وصحيح أننا لم نتابع في حفل افتتاح سنة الجزائر عاصمة للثقافة العربية ما يمكن أن يقدم ثقافة الجزائر العريقة الأصيلة الثرية المتنوعة، إلا أننا تابعنا بامتياز حفلا يمكن أن يكرس (باريس عاصمة للثقافة الفرنكو عربية بالجزائر في الوطن العربي) رغم طول هذا العنوان، وهو ما يؤكد حقيقة أن كبير لجنة "العقلاء" الأستاذ كمال بوشامة ظلم عندما أسند له هذا المنصب، وظلم نفسه بقبول توليه، لأننا لم نكن نتوقع ممن سموا ب "العقلاء" نكاية في الأستاذ "بشيشي" أن يوافقوا على حفل لا أعتقد أنه يمكن أن يدرج في سياق ما يمكن أن ينتظر من "عقلاء"، خصوصا وقد تابعنا عددا من هؤلاء العقلاء، يتقدمهم "العاقل" أحمد حمدي في مصر، و"العاقل" العربي الزبيري في "سوريا" وهم يسلمون دعوات الحضور باسم "كبير العقلاء" لحضور التظاهرة. وعندما تتذكرون أن الحفل اختتم بهتاف "tout le monde algeria" فستصدقوني حتما عندما أقول بأن الجبل تمخض عن مسخ ولد ميتا، لا هو بالجرذ ولا هو بالفأر، ولا يمكن أبدا أن يكون نتيجة حمل شرعي من "لجنة عقلاء"!