وأخيرا خرج رأس الشركة الوطنية للمحروقات "سوناطراك"، عبد المومن ولد قدّور، عن صمته ليفضح المستور في دهاليز الإمبراطورية الماليّة للبلاد، وما كان مُتداولاً بين عمالها وعامّة الناس خارجها، ورد هذه المرّة، في لحظة اعتراف صريح، على لسانه، بل إنّ الرجل اشتكى علنًا من ممارسات الإقصاء والتهميش والمحاباة وتصفية الحسابات الممارَسة على نطاق واسع داخل مؤسسته، حتى قال بالحرف الواحد: "لقد سئمت من الحقرة في سوناطراك.. تعبتُ من تلقّي رسائل تتضمن شكاوى من موظفين أُسيئ احترامُهم وأسيئت معاملتهم"! طبعا ما قاله المسؤول التنفيذي الأول في الشركة، على أهميته، هو غيضٌ من فيض، لأنّ المعني أثار فقط معاناة إطارات المؤسسة وموظفيها مع مرؤوسيهم، دون الإشارة إلى قطاع واسع من الجزائريين الذين يرون أنفسهم محرومين من "حلم خيالي" للظفر بأيّ موقع في القلعة المحصَّنة لأصحابها وذويهم الأقربين! شركة "سوناطراك" التي شكّل قرارُ إنشائها، قبل نصف قرن ويزيد، رهانًا ثوريّا لدى الرعيل المؤسِّس للدولة الجزائرية، في إطار خيار التأميمات الوطنيّة، بُغية التخلّص من التبعيّة للمستعمِر القديم وأذنابه، لاستكمال الاستقلال السياسي، من خلال تحقيق الحريّة الاقتصاديّة، أضحت اليوم عبئًا كبيرًا على البلاد والعباد، غارقة في وحل الفساد والبيروقراطية. صحيح أن الشركة هي مصدر قوت الجزائريين الرئيس منذ 1962، ولكنّ الحقيقة المُرّة هي أن مواردها مرتهَنة بثروةٍ ربانيّة، لا فضل لأحد في وجودها، بل إنّ سوء التدبير والتسيير يستنزف الكثير من عوائدها، ويجعل تنمية البلاد كلها مجرّد ريْع بترولي، تحدّد مداخيله الهشّة سوقٌ دولية متقلبة ضمن لعبة أمميّة فوق ملعب الكبار. البعض يريد أن يجعل "سوناطراك" الشجرة التي تغطّي غابة يابسة من الأحراش والأشواك، لكونها مورد رزق الجزائريين الأوّل، غير أنّ الواقع يؤكد أنها تحوّلت إلى بقرة حلوب ليس لصالح الخزينة العموميّة وحدها، بل هي ضرِعٌ مدْرارٌ يصبّ في وعاء مسؤولين كبار في مستويات مختلفة ونقابيين وإداريين، كادوا يحوّلونها إلى ملكية خاصة يتصرفون في مصيرها وفق ما تُمليه مصالحهم الضيقة. فضائح الفساد والرشاوى بملايين الدولارات والعلاقات المشبوهة مع المتعاملين الأجانب، فضلًا عن سلوكات التهميش ضدّ الإطارات التقنية والفنيّة والتمييز المهني بين الموظفين، هو ما يجعل خيرة سواعد "سوناطراك"، الذين صرفت الجزائر آلاف الملايير على تكوينهم طيلة عقود، يُهاجرون ويهربون نحو التقاعد، لأنهم سئموا، مثلما سئم ولد قدور، من الظلم و"الحقرة" وما تعيشه الشركة من تعفّن عامّ. لقد دقّ الرئيس المدير العام ناقوس الخطر، وهو يصرخ متألمًا من حالة التردّي التي تنخر المؤسسة، ليعلن أنّ السنة الجارية ستكون لإصلاح الموارد البشرية، مشدّدا على أنّ الشركة تعتمد على جميع موظفيها من دون استثناء، وهي رسالة واضحة لمحاربة المحسوبيّة في الترقيات والتعيينات والمكافآت الوظيفية. لكن المطلوب كذلك، هو فرض الشفافية والمساواة والإنصاف في التحاق كل أبناء الشعب الجزائري بحقول الشركة وقواعدها، وفق معايير الأهلية والكفاءة وشروط المنصب، بعيدًا عن الجهويّات، وأن تتجسّد الإرادة العليا في حماية مكاسب "سوناطراك"، بتفعيل الرقابة السياسية والقضاء العادل، للضرب بيد من حديد ضدّ كل العابثين بالمال العام وسارقي خبزة الجزائريين، فهل تراهم فاعلين؟