هكذا يبدو العالم أمام متغيرات كبرى، لم يشهد مثيلا لها من قبل، دعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى لقاء قمة مع نظيره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في هلسنكي، قلب اسكندنافيا، المتأهبة دوما لمواجهة خطر تراه في خطط مد بصر الكرملين نحو الأعمق. أضحى مكان اللقاء رمزا، تعددت أبعاده، التي تتجسد في زعيم قيصري يعيد لامبراطوريته، عمقا أبعد من حدود كيانها، ورئيس يرى العالم الذي يقود قاطرته، قائما على نظم لم تعد صالحة لعصر جديد، لن يحيا إلا بقانون متغير، يتكفل بتشريعه ويلتزم العالم بتطبيق نصوصه. قمة هلسنكي، لقاء بين خصمين، لا يجمعهما أي قاسم مشترك، سوى الرغبة في بسط مناطق النفوذ، حول العالم، وما يعنينا في هذه الرغبة الواقع المعاش في الشرق الأوسط، المبتلى بصراعات هزت أركان وجوده الفاقد لقواعد الاستقرار. لا يتكافأ هذان الخصمان في مقدار القوة، فالقوي يقابله الأقوى نفوذا "عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا"، قوة روسيا في قدرتها التفاوضية تكمن في تحالفاتها المتمركزة في آسيا، لكنها تحالفات مرحلية، لا تخفي عمق خلافات استراتيجية، فأحد لا ينسى الخلاف الاستراتيجي المتواصل، بين موسكو وبكين منذ تشكل المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي سابقا، كما لا ينسى الهوة الفاصلة بين إيرانوروسيا، التي تعجز المصالح الراهنة من ردمها. لم يخف فلاديمير بوتين في لقائه مع دونالد ترامب.. أن في جعبة الطرفين عدة نقاط ساخنة حول العالم، كان لا بد من الحديث عنها. وهكذا يبدو الموقف الأمريكي الأقوى من خصمه، في مفاوضات ثنائية، قد ترسم خارطة جديدة للعالم والشرق الأوسط، فأوروبا لن تتخلى عن الحضن الأمريكي، وأوكرانيا النامية في قاعدة "الناتو" حصان طروادة الذي يقض مضاجع الكرملين، والصين مجرد مارد اقتصادي، تحاصره واشنطن بقانون الاستيلاء على حقوق الملكية الفكرية التكنولوجية، أما الشرق الأوسط، فهو ساحة واشنطن التي لا يشاركها فيها أحد. لقد فتح الرئيس دونالد ترامب باب المفاوضات مع فلاديمير بوتين، في هلسنكي، وهو مطمئن البال، واصفا هذه المفاوضات بأنها الأسهل من مفاوضاته مع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، التي أوصت ترامب بضرورة التحدث بقوة عن وحدة "الناتو" أمام بوتين. ومنطق السهولة في مفاوضات قمة هلسنكي يعني أن الطرف الروسي سيكون ذاعنا للرؤية الأمريكية، ومتجاوبا مع طروحات نظام عالمي جديد، تجني من وراءه واشنطن أكبر المكاسب السياسية والاقتصادية. رغم سهولة المفاوضات، فهي لا تخلو من عقد مرحلية، تعكر المشهد السياسي الراهن: .عقدة أوكرانيا . عقدة كوريا الشمالية عقدة سوريا عقدة إيران روسيا محاصرة بعقوبات اقتصادية، وحزام سياسي يشل حركتها السياسية، في محيط عالمي، رغم المنافذ الصينية والتركية والإيرانية، وتهديدات كفيلة بنسف اتفاقيتها الاقتصادية مع ألمانيا ودول أوروبا الأخرى. لكن أكثر ما يعنيها الآن هو وضعها في جزيرة القرم التي فصلتها عن أوكرانيا، ومستقبل وجودها في سوريا "آخر معاقلها في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط" . وما يعني الولاياتالمتحدةالأمريكية هو السباق النووي، واتفاقيات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، واقتسام خارطة الفضاء بين القوى الكبرى، فالعالم شهد اتفاقيات ضمنت التوافق على الأرض والبحار، لكن الفضاء لم يحقق توافقا بين القوى الكبرى لحد الآن. أما على صعيد الشرق الأوسط، فإن واشنطن ترى أن مفتاح غلق أبواب المشروع الإيراني التوسعي بيد موسكو التي تتقاسم أرض سوريا مع طهران، من خلال فك التحالف الثنائي المرحلي، تمهيدا لإخراج إيران من مناطق نفوذها في دول عربية. ويشكل عمق التحالف الإيراني الروسي الراهن نقطة قوة لطهران، في ظل لقاء المصالح، ومواجهة تحديات الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبما يعني أن مصير إيران التي تتخبط بمشاكل اقتصادية وخدمية، سبقت تطبيق العقوبات الأمريكية في الشهر المقبل، بيد موسكو، القادرة على إخراج النظام الإيراني من مأزقه الخطير، أو إغراقه إذا ما ارتأت المصلحة الأمريكية – الروسية في التعاطي مع أوضاع منطقة الشرق الأوسط . ما بعد قمة هلسنكي.. قد نرى شرق أوسط جديد، في ضوء متغيرات محتملة في سوريا والعراق وإيران، تلوح بوادرها في الواقع الراهن.