محمد الهادي الحسني كنت أظن أن هذه الكلمة "الفشفشة" ليست من كلام العرب الفصيح، وأنها من الكلام الدارج الذي يصطلح عليه عامة الناس، ليعبروا به عن معنى من المعاني، ويعجزهم التعبير عنه بكلمة عربية فصيحة. ولم أزل على ذلك الظن حتى وقعت عيناي على هذه الكلمة في كتاب "فلسفة الكذب" للدكتور محمد مهدي علام، نائب رئيس مجمع اللغة العربية السابق في مصر. بحثت في معجم »لسان العرب« عن معنى هذه الفشفشة، فوجدت لها معاني كثيرة لا يتسع المجال لإيرادها كلها، ومنها »الحمق« و»الإفراط في الكذب« و»ضعف الرأي«. فالفَشُّ هو الأحمق، والفشفشة هي ضعف الرأي، والإفراط في الكذب، أو كما سماه الدكتور محمد مهدي علام »جنون الكذب«، الذي يصل بصاحبه إلى أن »يسمي الأبيض أسود، ويخرج عن الحقيقة نهارا جهارا« (ص 114). ويذكر الدكتور محمد مهدي علام من مييزات هؤلاء المصابين بالفشفشة أو جنون الكذب أنهم »يسرهم ما يحدثونه من المشاكل، وما يوقعون فيه الناس من الاضطراب بل إنهم ليتلذذون بإعلانهم وجود أشياء معدومة، وإنكار أمور موجودة (ص 114 - 115). إن هذا الوصف »الفشفشة« لا ينطبق على أناس كما ينطبق على أكثر السياسيين، الذين لا يستطيعون العيش من دونه كما لا يستطيع الناس العيش من دون الهواء. وأكثر السياسيين اتصافا بهذا الوصف هم أغلب حكام المسلمين، حتى قال في بعضهم الشاعر الفلسطيني سميح القاسم: »إن احتياطي الكذب عند حكامنا، أكبر من احتياطي النفط والغاز في بلداننا«. إن حكامنا يحدثوننا عن الديمقراطية، ولكنهم يقهروننا بديكتاتوريتهم، ويعدوننا بالرفاهية، ولكنهم لا يزيدوننا إلا فقرا، حتى صارت نسبة كبيرة منا تعيش تحت خط الفقر كما يقال، ويمنوننا بالوحدة الكبرى وهم يمزقون الوحدة الصغرى باعتماد سياسة الجهوية والعشائرية، ويرفعون شعار المساواة أمام القانون، ولكنهم لا يطبقون هذا القانون إلا على الضعفاء، ويتشدقون بنزاهة الانتخابات ولكنهم لا يعرفون إلا تزويرها، حتى صار الرقم 99.99٪ حكرا على الانتخابات العربية، وعلامة مسجلة لحكام العرب، ويتكلمون عن الشفافية ولكننا نعيش في ظلمات بعضها فوق بعض، ولا نعلم بعض ما يتعلق بنا إلا عن طريق وسائل الإعلام الأجنبية، بل إنهم يتدخلون لدى الدول الأجنبية لإسكات وسائل الإعلام فيها إذا كشفت فضيحة من الفضائح في بلداننا، وما صفقة »اليمامة« منا ببعيدة. لكن السنوات القليلة الماضية أنستنا كذّابينا عندما أظهرت لنا أكذب الكذّابين، وهو جورج ولكر بوش، الذي يجب أن يحتل الصدارة في كتاب »غينيس« للأرقام القياسية على أنه أكبر كذاب عرفه التاريخ لحد الآن، وما أظنه سيعرف أكذب منه. إن السياسيين - عربا وعجما- يكذبون على شعوبهم، أما هذا (ال) جورج فقد كذب على العالم كله. وبالرغم من أنه لم يصدقه إلا بعض أذياله، وبالرغم من أن الأطفال الصغار عرفوا أنه كذّاب أشر فإنه ما يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى سجل في التاريخ بأنه أكبر كذّاب. قال جورج بوش إن العراق يملك أسلحة دمار شامل، واتخذ من كذبته ذريعة لاحتلال العراق بالرغم من معارضة العالم لذلك الاحتلال. وجاست جيوشه الجرارة خلال ديار العراق، ومصانعه، وجامعاته، وسهوله، وجباله فلم تجد شيئا مما دفع كولن باول الذي بقيت فيه ذرة من الإنسانية إلى الاستقالة، تواريا من الفضيحة التي ورّطه فيها رئيسه. وقال جورج بوش إن هناك علاقة بين النظام العراقي وبين تنظيم القاعدة، فتبين للناس بعد تفتيش دهاليز الوزارات والمؤسسات في العراق أنه لا توجد أدنى علاقة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة. كيف لا يكون جورج بوش أكذب الكذّابين وهو الذي لم يكتف بالكذب على شعبه وعلى العالم كله، بل جاء بالكذبة الأكبر، التي لن يستطيع أحد أن يأتي بمثلها، حيث زعم أن غزوه لأفغانستان والعراق كان بوحي من "الرب". لا شك أن "رب" جورج بوش هو الشيطان، وإن الشيطان ليوحي إلى أوليائه، كما يوحي الرحمان إلى المصطفين من عباده. لقد صار هذا (ال ) بوش علامة مسجلة للكذب والحمق، مما أحدث بينه وبين الأكثرية الساحقة من شعبه قطيعة سمّتها مجلة »نيوزويك« الأمريكية في عددها الصادر في 12/2/2006 "فجوة الثقة"، وأفقد بفَشْفَشَته بمعنييها الكذب والحمق دولته احترام شعوب العالم، والأغلبية الساحقة من الحكومات. أقترح على جورج بوش أن يؤسس بعد انتهاء عهدته مدرسة يسميها "المدرسة العليا لتكوين الكذّابين"، لا ينتسب إليها إلا من ينوون الترشح للانتخابات في بلدانهم، فإن لم تسمح لهؤلاء المترشحين كرامتهم بالانتساب إلى هذه المدرسة، ولم يقبل عليها أحد فلينظم مهرجانا دوليا، يعقد كل سنة لانتخاب "ملك الكذب والكذّابين"، على أن يكون هو رئيس لجنة التحكيم، ويشاركه فيها الكذَبَة الصغار الذين قبضوا قبضة من كذبة، مثل توني بلير وأمثاله. إن الكذب عند جميع الأمم والشعوب وفي كل الأديان والفلسفات هو أسوأ الأخلاق وأحطها، ولا ينظر لممارسه إلا بالاحتقار والاشمئزاز من أقرب الناس إليه. وقد كان الرئيس بيل كلينتون يدفع ثمنا غاليا، ويمرغ وجهه في الوحل بسبب كذبه في قضية مونيكا لوينسكي، ولم يُنْجِه من سوء الحساب وشدة العقاب إلا اعترافه بذنبه، واستغفاره الشعب الأمريكي. أما الإسلام، دين الله القويم السليم، فإنه يعتبر الكذب إحدى الكبر، وقد جاء في كتب السنة أنه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، قيل: أفيكون بخيلا؟ قال: نعم، قيل: أفيكون كذابا؟ قال: لا، ثم قرأ قوله عز وجل: "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون". إن فشفشة بوش قد قادته إلى أضيق المسالك، وصار كما يقول المثل العربي: "أَحْيَر من بقّة في حُقَّة"، وازداد هما على هم وغما على غم بعدما أخرج له الأمريكيون تلك المرأة التي ترأس مجلس النواب، فأنشبت أظفارها في عنقه، وهي تتعامل معه كما يتعامل مصارعو الثيران الإسبان مع ثيرانهم. إنني أدعو الله العلي القدير أن تزداد نسبة الفشفشة بمعنى الحمق عند جورج بوش فيهاجم كوريا وسوريا، وإيران والسودان فتتقلم أظفاره، وتتهتّم أسنانه، وتتهشم أضلاعه، فتتخلص الإنسانية من بغيه وعدوانه. الحُقَّة: وعاء صغير