"البلتكة" فن إدارة الحكم عندما يكون الحكم خلوا من العلم ومن الأخلاق، كما هو شأن الحكم في العالم والإسلامي قاطبة، و"البوليتيكا"، هي فن إدارة الحكم عندما يستند فيها إلى العلم وحده من دون الأخلاق، كما هو الشأن في بلاد أوروبا والغرب عموما. أما "الخلافة" فهي السياسة في أبهى صورها وهي الحكم في أسمى معانيه؛ لأن الحكم يكون فيها مقرونا بالعلم والأخلاق على حد سواء. إنها نيابة عن الله في حفظ الدين وسياسة الدنيا به. وهذا المفهوم الشامل للسياسة محبب إلى نفوس البشر كلهم؛ لأنه يرتكز على فهم متوازن لخصوصية الإنسان وحاجاته الدائمة إلى الاستقرار والحماية من العدوان والاستغلال. ولحكمة يعلمها الله سبحانه، وتتبدى لنا معالمها اليوم ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين، استخدم البيان الإلهي مصطلح "الخلافة" للإشارة إلى إرادة الله تعالى في السياسة ومراده من السياسيين، خاصة عندما فاتح الملائكة المقربين في إرادته خلق الإنسان، فألقى عليه صفة الخليفة، التي تعني ما تعنيه من صلاح وإصلاح، وعمارة وعمران... وقد كان الباري سبحانه أكثر وضوحا معنا عندما خاطب نبيه داود ذا الأيدي والأبصار، لما قال عز وجل: (يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله). وكذلكم مضى مفهوم الحكم مثلا سائرا بين المسلمين، وإن اختلفوا بعد ذلك في التفاصيل. ولن يهمنا في هذا السياق، ونحن نقارب الفروق بين السياسة في مظاهرها كما تمثلت أخيرا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وبين مثيلتها الجزائرية كما تمثلت في الانتخابات البرلمانية، سوى الخلوص إلى قراءة- من ذلك المنظور النظري أعلاه لأنماط الحكم- في تلك "المثُل" الراكزة في وعي الطبقة السياسية هنا وهناك، وفي تلك الفراغات التي باتت تصرخ في وجوه هؤلاء وأولائك ولا من سامع، لعل ما نود قوله ينفذ إلى أحدهم فيلقي لنا السمع وهو إذا شهيد. كنت وأنا دائم التتبع لهذه المواضيع الحيوية في حياتنا الفكرية الراهنة، ألحظ على محيا الفرنسيين المقبلين على انتخاب رئيسهم حيرة الاختيار والمفاضلة فيه، حيرة كانت نتاج برامج تتصارع على الفوز بجدارة بقناعات الناس كي ينتخبوهم. ولئن كان الوصول إلى قصر الإيليزي أسمى ما يرومونه، فإن برامجهم الانتخابية جاءت محصنة مدروسة عميقة-وإن كانت تقليدية لا جديد فيها- تراعي إلجام الخصوم بالحجة قبل إقناع المتعاطفين بالفكرة. وفي قبالة ذلك لاحت على محيا أهلنا الوادعين اليائسين في الجزائر حيرة في الانتخاب من أساسه وجدواه على حياتهم الحاضرة والمستقبلية، بعدما جربوا المجرب، وأيقنوا ألا فائدة ترجى منه، فزهدوا فيه وأرخسوه بالترك، وانكفؤوا على أنفسهم يديرون أعمالهم وأموالهم تاركين الحلبة لفرسانها، الذين أبطأت بهم أعمالهم ولم تلحق بهم وعودهم التي أغدغوها بسخاء غير مسبوق إن هم وصلوا إلى قبة البرلمان، وهم يعلمون علم اليقين أن ليس بأيدهم شيء، وأن الأمر كله بيد آخرين معروفين وغير معروفين، أحالوا مؤسسات الدولة إلى دمى. وجوه منيرة كالدنانير، وألوان زاهية كورود الربيع، ولقاءات صاخبة كضجة الحياة في باريس، ونظام يأخذ بالألباب في خضم الحملة الانتخابية على الرئاسة الفرنسية، وفي خلد الجزائريين المتتبعين لوقائع الاستحقاق الرئاسي هذا حنين ما إلى ذكريات جمعتهم مع الفرنسيين في أسوأ تاريخ عرفه الشعبان، لم تمنع مجازر الاستعمار أهلنا في الجزائر من أن يكبروا أداء الزعامات السياسية في بلاد الراين، وأن يحترموا فيهم وعودهم المدروسة لشعبهم، وتنافسهم على خطب وده بالحجة والإقناع، وإن هم اختلفوا فلن يختلفوا مطلقا على الوفاء لوطنهم، والقيام على ثقافته التي تحكمه وتسود فيه. "ساركوزي" و"روايال" لن يقدّما للأجنبي سوى التهميش في أحسن الأحوال، وكل ما يستطيعون لشعبهم في أسوئها، ما رأيت أحدا استخدم كلمة غير فرنسية وهو يخاطب جماهيره، ولا زاحت كلماتهم وصورهم وحركاتهم عن مراقبين خبروا نفوس الناس يرافقونهم في حلهم وترحالهم، حتى قالت الصحف أن "روايال" كانت تعكف على دراسة قضايا فرنسا كما تحضّر تلميذة امتحانها... صورة متلألئة من وراء المتوسط حملتها إلينا الصحافة، لم تناسب مترشحي المقاعد التشريعية في العدوة الدنيا من المتوسط فأحرجتهم، ما جعل الجزائري البسيط الواعي الذكي يلعن هذا الواقع بمن فيه، ويزدري بصمت وكلام هؤلاء الأشخاص المتحاملين عليه كي يمنحهم صوتا يعلمون في قرارة أنفسهم أن صاحبه الزاهد فيه يسترخسهم فيه. صور تأنفها العين حينا، وتغضي تقززا منها أحيانا، سذاجة في الخطاب السياسي على ألسنة المترشحين، وفوضى النظام في تجمعات شعبية هزيلة أصلا. تردٍ في المستوى الثقافي للمنتخَبين، أملاه الاختيار العشوائي لهؤلاء من قبل أحزاب لم تجد من يمثلها في الدوائر، أو استدعته فراغات في التمثيل انتهزها أشخاص لا قبل لهم بالسياسة أساسا، وأشخاص فقدوا مصداقية الشعب في تمثيل سابق في البرلمان، فوجدوها فرصة قد لا تعوض فدخلوا هذا السباق. وإن تعجب فعجب من الجزائريين المستخفين بهذا الاستحقاق، والذي اعتبروا المترشحين فيه يمزحون، فبادلوهم مزاحا بمزاح، ولكنه مزاح مر مخجل؛ فأن ترى كوميديا- عرفه الناس فكاهيا ناقدا لأوضاع الناس في حصة أسبوعية مشهورة في التلفزيون الجزائري _ على قائمة انتخابية، ويحصد في الدائرة الانتخابية التي أقطن فيها مقعدا بقوة اختيار من تقدم للصناديق رغم قلتهم، أن ترى ذلك تدرك قليلا أو كثيرا مزاج من شارك في التصويت يوم الخميس 19/05/2007، علما بأن هذا الفكاهي كان يجوب مناطق الولاية ويخطب في الناس من على عربة يجرها حمار، ويعلن في الملأ أنه لا يريد أن يقدم لأهالي المنطقة شيئا، ولا يريد أن يجلب لهم السعد الذي تعدهم به الأحزاب، بل كل ما يريد نيله أن ينام في فندق الأوراسي ليلتين، وأن يضرب الموائد مع الضاربين ضربا شديدا... بهذه الصراحة المضحكة المبكية نجح هذا الرجل في الانتخابات، وأهالي المنطقة لا يفتؤون يتندرون بنكاته الناقدة ولسعاته المثيرة. ومن شارك في الاقتراع عبر التراب الجزائري لم يتعد 35٪، في إحصاءات رسمية أعلنها وزير الداخلية، بمعنى أن ثلثي المصوتين- البالغ عددهم تسعة عشر مليونا- من توجه إلى مراكز الاقتراع، مع العلم أن مليونا من هذا الثلث المشارك أوراقهم ملغاة لكونها لم تستوف الشروط القانونية. مقاطعة شاملة لم تخطئ العنوان، والعنوان معروف في الجزائر، إنه كل النظام الجزائري، الذي بدأت تضيق عباءته على جسد من يُحكم، وبدأ التبرم الشعبي يأخذ مدى جديدا في السياسة، لا ندري مآلاته في المستقبل، سوى أن نقول: إن الدعاية الإعلامية الكثيفة التي روجت للانتخابات على أساس أنها ستكون الموقف الشعبي الرافض للإرهاب، ثم يأتي إعلان وزارة الداخلية عن نسبة مشاركة كانت الأقل منذ الاستقلال، فماذا يعنيه ذاك؟ وللتذكير فإن من بين الداعين للمقاطعة من يوسم اليوم من قبل النظام الجزائري بالإرهاب! عادة ما تكون مثل هذه الرسائل في النظم التي تنتهج الديمقراطية مدعاة لاستقالات جماعية من قبل القابعين في السلطة، ولكن المتتبع لتصريحات "الفائزين" لا يدرك سوى تعنتا على البقاء واعتبار ما جرى نصرا كان متوقعا! ألم تر إلى أحدهم كيف راح يصب جام غضبه على لجنة مراقبة الانتخابات- المعينة بمرسوم رئاسي- لأنها أعلنت عن تجاوزات وخروقات يوم الاقتراع ثم سرعان ما تراجعت عن إعلانها... والحق أنه لا غضاضة في ذلك ولا ضير ما دامت اللجنة معينة من أعلى هرم السلطة، التي نظمت وخططت وروجت لهذا التصويت. وتبقى المشكلة فيمن يلقي باللائمة على غيره رغم أنه كان ولا يزال يتواطأ مع أحزاب تسمي نفسها "أحزاب التحالف"، المجتمعة على برنامج الرئيس، وهو برنامج لا يلبي حاجات الناس الحيوية، في الحرية والسيادة والقرار الحر، ثم الرفاهية. كنت أتذكر "أونتوني بلير" الذي اعتبر تراجع حزبه نتيجة حسنة لكونه كان يتوقع أسوأها، ولكن ديماغوجيته تلك ما منعته من تقديم استقالته وتسليم زمام الأمور إلى غيره. أما عندنا نحن فالتعلق بالقش خير من الغرق، وكلاهما شر لا خير فيه؛ لأنك إن كنت لا تريد العيش بعزة، ولا الموت بكرامة، فبقاؤك إذن بذل، ورحيلك يوما ما سيكون أكثر ذلا ومهانة. بقلم: عزالدين مصطفى جلولي/ أستاذ جامعي