“المرجفون في المدينة” الذين ذمهم القرآن الكريم في قوله تعالى: “لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا” عادوا للظهور في عصر الإعلام الرقمي في صورة ما يصطلح على تسميته “الذباب الإلكتروني” الذي ينتشر في شبكات التواصل الاجتماعي ويؤدي دورا خطيرا في التأثير النفسي في الآخر بما يشبه إلى حد بعيد الدور الذي يؤديه الجواسيس الذين يزرعهم كيانٌ معين داخل الجبهة المعادية لاختراقها وإضعافها كأسلوب من أساليب الحرب النفسية. ظهر الذباب الإلكتروني بشكل حاد ولافت للنظر في عز الحرب الإلكترونية بين الأقطاب السياسية والاقتصادية المتصارعة التي يحاول فيها كل قطب كسب رهان المعركة وحسمها بالطريقة التي يريدها أو إطالة عمرها طالما أنها تضمن ديمومة السيطرة وديمومة الثروة. قد يستهين بعضنا بالدور الدعائي والتدميري الذي يقوم به الذباب الإلكتروني، وقد يظنون أن دائرة تأثيره في الدولة والمجتمع والجماعة ضيقة وهذا ظنُّ قصيري النظر ممن لا يعرفون أساليب الحرب الإلكترونية، ولكن العالمين بخباياها والضالعين في شؤونها يعلمون أن الحرب الإلكترونية التي يديرها الذباب الإلكتروني بالأصالة أو بالنيابة أشد وقعا وفتكا من كل أشكال الحروب التقليدية، وقد فقهت الدولُ الكبرى هذه الحقيقة فجعلت من الذباب الإلكتروني جيوشا خفية تنشر أفكارها وتقاتل باسمها من وراء الستار. قد يقول بعض القراء إن خطر الذباب الإلكتروني حقيقة لا نختلف حولها، ولكن ما مبرر الحديث عنها في ظل الحراك الشعبي؟ والجواب عن ذلك أن الحراك الشعبي ليس مجرد كتلة بشرية زاحفة ومتحركة في الشارع منغلقة على العالم بل هي إن صح التعبير “بانوراما” بشرية تثير اهتمام السياسيين والمتابعين والفضوليين كما تثير اهتمام القنوات والمنصات الإعلامية التي يستهويها تشويهُ صورة الحراك الشعبي بالاعتماد على الذباب الإلكتروني الذي يصطلي حول الحواسيب الإلكترونية متخفيا ومتسترا على طريقة الخفافيش وراء حسابات مزيفة ووهمية والشروع في مهاجمة الآخر من أجل تسفيه أفكاره وإفشال خططه وتزهيد الناس فيه حتى ينفضُّوا من حوله. إن المعركة الخفية التي يديرها الذباب الإلكتروني حقيقة لا جدال فيها، فقد تعرضت تركيا وماليزيا ودولٌ أخرى في عز الحراك الشعبي لهجوم محموم وغير مسبوق من الذباب الإلكتروني الذي حاول إرباك الحراك بتسويق الأراجيف التي تصف الحراك بأنه مغامرة غير محسوبة العواقب لا ينطوي على شيء في الحال ولا في المآل. تعرَّض الحراك الشعبي في الجزائر منذ الوهلة الأولى لهجوم كاسح من الذباب الإلكتروني الذي لم تعجبه سلمية وحضارية هذا الحراك فطفق يكيد له في السر ما عجز عنه في العلانية من أجل غاية مبتذلة وهي محاولة نشر “ثقافة الكراهية” بين مكونات المجتمع الجزائري، فقد أوحى هذا الذباب الإلكتروني إلى جنوده بنشر الأخبار الكاذبة التي تتحدث عن عمليات قمع أمنية وهمية للمتظاهرين من أجل تأجيجهم وهدم جسور الثقة بينهم وبين المؤسسة الأمنية. يمكن للمستخدمين لشبكات التواصل الاجتماعي أن يتأكدوا من المهمة القذرة التي يقوم بها الذباب الإلكتروني تزامنا مع الحراك الشعبي؛ فقد عج الفايسبوك وتويتر والإنستغرام بسيل عارم من المنشورات والفيديوهات التي تخوِّن هذا أو تفرِّق بين الشعب والجيش أو بين الجيش ومؤسسات الدولة الأخرى أو تعيد استنساخ فكرة الظهير البربري أو الحميَّة العربية من أجل نشر الطائفية والمناطقية والجهوية المقيتة، ولكن يقظة الحراك الشعبي استطاعت أن تُفسد كل هذه المخططات وأن تحافظ على تماسك اللحمة الوطنية مما شكل ردا مفحِما للذباب الإلكتروني الذي أفقدته وحدة الحراك الشعبي تماسكه وتوازنه حتى أصبح كالجندي التائه المنعزل الذي لا يفرِّق بين النيران المعادية والنيران الصديقة. من المهمات القذرة التي يقوم بها الذباب الإلكتروني من أجل تمييع الحراك الشعبي إنزالُ بعض المنشورات على شبكات التواصل الاجتماعي، تحمل اتهامات خطيرة إلى بعض الشخصيات بالخيانة والعمالة من غير بيِّنة، وهنا تلتقي مهمة الذباب الإلكتروني في قذارتها مع مهمة “المرجفين في المدينة” الذين تحدَّث عنهم القرآن الكريم برغم طول العهد وتباين الزمان والمكان حيث يجمعهم فسادُ النية وخبث الطوية واستمراءُ الفتنة، ولهذه الأوصاف جمع القرآن الكريم بين المرجفين في المدينة والمنافقين والذين في قلوبهم مرض، تشابهت قلوبهم فتشابهت أفعالهم وسار على هذا المنوال في هذا العصر أشياعُهم من الذباب الإلكتروني. إن المهمة القذرة التي يقوم بها الذباب الإلكتروني المتمثلة أساسا في محاولة التأثير في الحراك الشعبي في الجزائر بإحدى طريقتين: الاختراق أو الاختلاق قد بدأت تنكشف وبدأت تنكشف معها وجوه المرجفين الذين تستهويهم المعلومة المضللة والأخبار الكاذبة، وفي هذا السياق أثمِّن قرار السلطات الجزائرية بناءً على ما أوردته بعض القنوات ووكالات الأنباء– والعهدة على الراوي- بترحيل المواطن التونسي مراسل “رويترز” إلى بلده بعد ثبوت نقله لخبر كاذب يتعلق بقمع مصالح الأمن لمتظاهرين. أود في نهاية هذا المقال بدافع الغيرة الوطنية أن أوجِّه رسالة خاصة إلى الإعلاميين أدعوهم فيها إلى القيام بواجب الكفاية في التصدي للمخطط التدميري الذي يقوم به الذباب الإلكتروني طعنا في الحراك وطعنا في الشخصيات النزيهة وتفريقا للصف الوطني وطعنا في مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة الأمنية وذلك بتكثيف حضورهم ووجودهم في شبكات التواصل الاجتماعي لأن انسحابهم وعدم اهتمامهم سيصبُّ في مصلحة خصومهم وخصومنا جميعا، فيجب على الإعلاميين أن يعلموا أنه قد آن الأوان أن ينتقلوا من العمل الإعلامي إلى النضال الإعلامي لأن الفترة التي نمر بها فترة حرجة وسراب الذباب الإلكتروني ينتشر في الفضاءات الإعلامية بشكل يثير مخاوفنا ويهدد كياننا، وليس هناك في اعتقادي من هم أقدر وأجدر بوقف هذا الانتشار من الإعلاميين فإنه لا يفلّ الحديد إلا الحديد.