في إطار مبادرتها الحضاريّة التي أطلقتها قبل سنوات، لتخليد رموز الإصلاح في الجزائر وأعلامها الأمجاد، حتّى تبقى سيرتهم العطرة نبراسًا ينير درب الأجيال، حطّت مؤسسة “الشروق” للنشر والإعلام، رحالها في مهد الثورة التحريريّة المباركة بالأوراس الأشمّ، حيث احتفت بمسيرة الشيخ المجاهد عمر دردور، رحمه الله، بمدينة باتنة، رافعةً إلى روحه الطاهرة “درع العلماء”، إكرامًا لنضاله الوطني وأعماله الدعوية والتربوية، وإجلالاً لجهوده الإصلاحية في تنشئة الأجيال وتهذيب المجتمع، وتقديرا لآثاره الجليلة في نشر العلوم الشرعية، على مدار عقود من التدريس والإرشاد والتأليف. وقد أجمع كل من حضر حفل تكريم الشيخ المجاهد عمر دردور على مكانة هذا الرجل الكبير، ومساهمته الفعالة في محاربة الجهل والمظاهر السلبية التي خلفها الاستدمار الفرنسي في منطقة الأوراس، وهذا من خلال عديد المحاور التي تضمنتها مداخلات باحثين وأكاديميين، مكنت الحضور من الوقوف على الوجه الآخر من سيرة ومسيرة ابن باديس الأوراس، كما يلقّب من العارفين بمقامه العلمي والدعوي. الندوة التكريميّة التي أقيمت، في المركز الثقافي الإسلامي بباتنة، مناصفة بين مجمع الشروق الإعلامي ومديرية الشؤون الدينية، كانت مع فرصة مواتية للوقوف على مناقب الشيخ الجليل المجاهد عمر دردور رحمه الله، خاصة في ظل المسار الحافل الذي قضاه في التدريس والدعوة والتوعية، ما جعله يكون طرفا فاعلا في معادلة محاربة الجهل في منطقة الأوراس، إلى جانب أعلام آخرين في صورة محمد يكن الغسيري وسي لمين صالحي وغيرهم. وأعقبت الندوة مناقشات ثريّة وعميقة من طرف تلامذة الشيخ العلامة عمر دردور، وبعض من عايشوه عن قرب، مبرزين بذلك مآثره وسيرته وأعماله، على غرار ما تفضل به الأستاذ عكسة مخلوف والدكاترة إسماعيل زقادة ومعاش ومولود سعادة وغيرهم. وقد حرصت الجهات المنظمة لهذه الندوة على تكريم عائلة الشيخ عمر دردور، كما تفضلت بلدية تازولت بلفتة تكريمية لممثل العائلة السيد دردور محمد مصدق، بحكم أن عائلة دردور تقطن في تازولت، مصحوبة بتكريمات أخرى لعائلة دردور، بشكل يعكس مكانة وقيمة ابن باديس الأوراس الذي سخّر حياته في نشر العلم والوعي ومحاربة الجهل ومختلف المظاهر السلبية التي تسبب فيها الاحتلال الفرنسي. مدير الشؤون الدينية مدني بوستة: مبادرات “الشروق” تستحق الإشادة والاستمرار قال مدني بوستة مدير الشؤون الدينية لولاية باتنة في حفل التكريم إن مبادرة “الشروق” بتكريم العلماء بالتنسيق مع مديرية الشؤون الدينية، تستحق الإشادة والتوقف عندها والاستمرار والاعتراف، لما توفره للوعي الجماعي للأمة من ذخيرة فكرية وثقافية بعيدة المدى، فهي تجسد قيمة الرمز والقدوة التي ينبغي اتباعها، في سبيل بناء مرجعية حضارية دينية وطنية، ثم دراسة أثرها الذي تركوه في العالمين العربي والإسلامي، مؤكدا أنّ الشيخ دردور مثال فارق جمع بين خصائل قلّما تتوفر في فرد واحد، فهو مناضل وطني ومجاهد وعالم علامة استحق بحق كنية ابن باديس الأوراس. الدكتور مسعود فلوسي: الشيخ دردور دفع بومدين إلى اعتماد معهد التعليم الأصلي أكد الدكتور مسعود فلوسي أن خير ما يلخص الخصائص النفسية والفكرية للشيخ عمر دردور هو ما كتبه المؤرخ أبو القاسم سعد الله عنه قائلاً “كل من يرى الشيخ عمر بهيئته وهندامه وصرامته يدرك أنه من جيل آخر، جيل تطمئنّ له النفس وتثق في كلامه وصدقه”. وأضاف “امتاز الشيخ منذ نعومة أظافره بسمات شخصية فذة، منها العمل الدائب والجهاد المستمر طيلة حياة امتدت عبر سبعين سنة من العلم والجهاد والعمل والتأسيس، وتميز بالشجاعة والإقدام فهو لم يتردد في الانضمام للثورة، كما قام بمبادرة تأسيس المعهد الإسلامي بعد الاستقلال رغم ما كان أحاط الأمر من عواقب جمة، بل إنه فتح التسجيلات وطلب المعونات، كما أنه تميز بالحكمة وحسن التصرف حيث أقنع هواري بومدين بحيلة بديعة دفعت الرئيس لإعلان الترسيم خلال زيارته لمدينة باتنة سنة 1966، ونقلاً عن شهادة الطالب عياش حمادي فإن الشيخ عمر طلب من تلامذته كتابة مطلب ترسيم المعهد في لافتة، طالبا منهم إخفاءها ملفوفة حتى لا يراها أحد، مع ضرورة فتحها ورفعها حينما يكون الرئيس بصدد إلقاء خطابه، وبالفعل التفت هواري بومدين نحو تلك اللافتة وقرأها مبتسما، وقرر بعد انتهاء اللقاء إصدار قرار الترسيم وسط فرحة عارمة للتلاميذ والأساتذة. وأوضح المتحدّث في حفل “الشروق” أنّ الشيخ اشتهر بسمة الورع والأمانة وتجلى ذلك من خلال شهادات أكدت حرصه على أموال جبهة التحرير الوطني بالخارج، فكان مُقترًا في حق نفسه، لا يتناول سوى ما قلّ من الطعام، بل كان يقسم ألا يسلّم أحدا معلوما من المال قلّ أو كثر لغير مستحقه، رغم ما يكابده من تهديدات ومن محاولة بعض السياسيين الاستئثار بأجزاء منه، ورغم ما كان يمكن لهذا الرجل تحصيله من مزايا وأموال، خاصة وأنه زامل قيادات عليا خلال الثورة، لكنه فضل أن يعود لمسقط رأسه بباتنة مُعرضًا عن مباهج العاصمة والمراكز، مُعتنيا بمهمته الأساسية في التدريس والتعليم وتأسيس المدارس، وفاء منه لخطه التربوي والإصلاحي الذي بدأه في أول مسار حياته خلال تعرفه على رائد الإصلاح الشيخ عبد الحميد بن باديس. الأستاذ أحمد بن السائح: الطالب عمر دردور أبهر الإمام ابن باديس بتفوّقه وبدوره، أكد الأستاذ أحمد بن السائح من بسكرة، أن الشيخ العلامة عمر دردور جمع في مساره الطويل بين البعد الوطني والإصلاحي، ما جعله يوفق بين الجانبين بفضل تضحياته وإخلاصه للوطن، مشيرا أن آثار الشيخ دردور شاهدة على جهوده في نشر الوعي والعلم، وفي مقدمة ذلك مساهمته الفعالة في تشييد المعاهد الإسلامية في مختلف مناطق الأوراس وصولا إلى الزيبان. وقال الأستاذ أحمد بن السائح في مداخلته إن الأستاذ الإمام ابن باديس توسّم في الطالب الوافد من الأوراس خيرًا؛ وكانت فراسته وتوسمه في محلهما، فلا الطالب عمر خيَّبَ توَسُّمَ شيخه فيه، ولا هذا الأخير عارض طموح هذا الوافد الجديد الذي قطع الفيافي والقفار وطوى المسافات الطوال، وصبر وصابر من أجل تحقيق الرغبة في التحصيل والاستيعاب. وحسب الأستاذ بن السائح فقد كانت موافقة ابن باديس على انتساب الطالب الجديد للجامع الأخضر هي الخطوة الأولى التي تحققت وجعلت الشاب عمر يتنفس الصعداء، أما الخطوة الثانية فكانت الامتحان الذي كان بمثابة مفتاح الدخول الذي يخضع له كل الطلبة الراغبين في الالتحاق بهذا المعهد العلمي. وقال الأستاذ بن السائح في هذا الجانب: “جاء موعد الامتحان الذي وصفه لنا صديقنا الأستاذ محمد الشريف بغامي أحد تلامذة الشيخ دردور ومريديه قائلاً: أجرى له الشيخ عبد الحميد بن باديس امتحانا في استظهار القرآن الكريم وفي بعض المسائل الفقهية واللغوية، وكان ممّا امتحن فيه إعراب الجملة: (يا رحمة الله حُلِّى بأرضنا) وهو ما ذكره لي فضيلة الشيخ رحمه الله، وكانت جميع إجاباته موفقة.. ولذلك لما شرع في التلقي من الشيخ عبد الحميد أبدى نباهةً وذكاءً وسرعةً في الفهم والتحصيل ما جعل شيخه يعتمده مع مجموعة من إخوانه، منهم الشيخ الزموشي والشيخ حيرش والشيخ فضيل الورتلاني والشيخ حمزة بوكوشة وغيرهم لمساعدته في مهمة التعليم الابتدائي بالجامع الأخضر والتدريس بمسجدي سيدي قموش وسيدي بومعزة..”. من جانب آخر، أشار الأستاذ أحمد بن السائح بأن الشيخ دردور أمضى سبع سنوات كاملة بين الدراسة والتدريس بقسنطينة، وكلما تذكّر تلك المرحلة إلا وأبدى إعجابه وحبه الكبير وتقديره لشيخه عبد الحميد بن باديس… وبعد عودته من قسنطينة سنة 1936 سارع إلى تأسيس “الشّعبة الأوراسية” لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بمعية مجموعة من طلبة الأوراس ومثقّفيه، وبذلك أدخل الشيخ عمر دردور الإصلاح الديني والثقافي والعلمي إلى مدن وقرى ومداشر الأوراس، وبدأ في التّدريس ونشر التّوعية وفتح النوادي؛ وبمواظبته على هذا العمل أيقظ الضمائر، وصحّح الكثير من المفاهيم السّلبية السائدة، وحرّر بدعوته وخطابه الإصلاحي العقول الخاملة والنفوس المتردّدة؛ وتجاوب مع دعوته الجديدة كافة مواطني الأوراس الأشم، الذي رحّب سكانه بالدعوة التجديدية التي أيقظت الناس من سباتهم، وفي تلك المرحلة الحاسمة استطاع الشيخ دردور أن يضع يده على جرح الوطن السليب، ويستعرض راهنه ومستقبله والحلول المجدية لتخليصه من قبضة الآسر المحتل. كما أشار الأستاذ أحمد بن السائح إلى دور الشيخ عمر دردور في تفعيل الكتاتيب، قبل أن يواصل غمار جهوده الإصلاحية بعد الاستقلال بتشييد المعاهد الإسلامية التي مكنت عددا كبيرا من الطلبة من مواصلة الدراسة رغم الظروف الصعبة التي عرفتها البلاد مطلع الستينيات. الدكتور عبد الباسط دردور: الشيخ دردور حرص على تعليم المرأة في معهد ابن باديس فضّل الدكتور عبد الباسط دردور من كلية الشريعة بجامعة باتنة (1) أن تكون مداخلته في حقّ الشيخ عمر دردور عبارة عن شهادات حية، من ذلك قصّة إحدى تلميذات الشيخ دردور، وهي السيدة بن فيفي عيشة، في العقد الثامن من عمرها، كان الشيخ دردور قد اقترح على والدها أن يحوّلها إلى قسنطينة لمواصلة الدراسة، بناء على ما وقف عليه من ذكاء ونبوغ، إلا أن والدها رفض المقترح من أساسه، كما أثرى الدكتور سلسلة الشهادات الحية بمقابلة مع الشيخ محمد لموشي الذي عاش مع الشيخ دردور لمدة 37 سنة، حيث قال عنه “إن شخصية الشيخ دردور تجمع بين التميز والسخاء والشجاعة، فقد ساهم بشكل فعّال في توسيع دائرة التعليم لمحاربة الجهل، فقد كان له حسب قوله دورا فعالا في منطقة الأوراس، سواء في محاربة فرنسا أو محاربة الجهل ومخلفاته، كما حرص الدكتور عبد الباسط على بث صور وفيديوهات للشيخ عمر دردور في آخر حياته، بشكل سمح للحضور بمشاهدة ابن باديس الأوراس بالصوت والصورة، وهو الذي وافته المنية منذ 10 سنوات”. العجوز عيشة بن فيفي… آخر تلميذات الشيخ عمر دردور لا تزال عيشة بن فيفي رغم تجاوزها سن الثمانين ممتنة لمعلمها الشيخ دردور الذي تتلمذت على يديه قبل عقود من الزمن، وهي محافظة على ذاكرة غضة تقرأ سور القرآن والأشعار والمنظومات التربوية بطلاقة وفصاحة رغم تقدّمها في السن، كما أنها آخر تلميذة من أصل عشرين امرأة كن يتلقين الدروس التربوية على يد الشيخ دردور في مسقط رأسه بقرية أحيدوس. وأثارت تدخلات العجوز إعجاب الحضور في احتفاليّة “الشروق” وهي تتذكر شيخها بتأثر كبير، خاصة وأن الشيخ عمر كان أصر على والدها في أن يصحبها للتعلم بمعهد قسنطينة لما اكتشفه فيها من فطنة ونباهة وذكاء، غير أن والدها رفض الطلب وقد ظل ذلك مؤثرا في نفسيتها ليومنا هذا. وتؤكد شهادة العجوز عيشة بن فيفي أن الشيخ عمر دردور كان إصلاحيا لا يفرق بين الرجال والنساء في الأخذ بأسباب العلم والتعلم ولا يرى غضاضة في الترحال بحثا عنه ولو كان في الصين. الدكتور مولود سعادة: هكذا أسّس الشيخ دردور المعهد الإسلامي على نفقة الشعب من جهته، اعتبر الدكتور مولود سعادة نفسه ثمرة من ثمار المجاهد دردور، حيث قال في تدخله “الشيخ معجزة كما وصفه أحد الأقطاب روايةً عن المجاهد والوزير السابق العربي دماغ العتروس، حتّى أن أحد أعلام مصر قال إن فيه صفة من صفات الأنبياء”. وأضاف المتحدث “كنت في سيارة مع الشيخ عمر دردور في معهد صلاح الدين الأيوبي مع الأستاذ مخلوف عكسة، لاحظت أنه كل ما مرّ على عمود كهربائي يحرك رأسه، سألت الأستاذ مخلوف عكسة، فقال لي: إن الرجل من شدة تواضعه ومعرفة الناس له في هذه المدينة كل ما مرّ بخيال ظنّ أنّه مرّ عليه الناس، ومخافة ألا يرد عليهم فكان يحرك رأسه، وقمت بتأويلها أنا فقلت: كأن الله سخر له الجماد ليقوم بتحيته ويرد عليه السلام، هذه الصفات أكرمه الله سبحانه وتعالى بها، مضيفًا أنّ الشيخ عمر دردور عرف المنهج والطريق فعرف العلم واجتهد واستقام عليه وأخلص فيه ولم يرد شيئا غيره، تلك هي رسالة الأنبياء”. وقال الدكتور مولود سعادة إن الشيخ عمر دردور كان وفيا لشيخه ابن باديس، جاهد واتصف بخلق القرآن في جميع المراحل والمستويات حين كان شابا، وعندما قامت الثورة هانت نفسه في سبيل الأمة، وعندما انتقل إلى القاهرة بقي على نفس المنهج، وحين استقلت البلاد كان يمكن أن يحكسب كل ما يتمناه الناس في هذه الحياة الدنيا، لو أراد أن يكون عالما لخلّف من الكتب وصار عالما، لو أراد أن يكون سياسيا محنكا ورئيس حزب فلا أحد يقف في طريقه، ولو أراد منصبا من مناصب الحكومة أو أن يكون ثريا من الأثرياء لكان له ذلك، مضيفا بالقول: “لم يلتفت إلى كل هذه الأطماع إطلاقا، بل قام بجهود كبيرة لتشييد المعاهد الإسلامية، واتصل بجميع الأطراف، منهم أحمد توفيق المدني وقياديين في الجيش هما عمار ملاح والشيخ محمود الواعي، وهذا من أجل تأسيس المعهد الإسلامي بباتنة، ليوسعه نحو دوائر ومناطق أخرى، وهكذا فتح على بركة الله وباسم الله وأخرج رجالا هم حماة هذه البلاد التي نعيش فيها، وهي تجربة فريدة احتضنها الشعب، فكان الشعب هو الذي ينفق على هذه المعاهد، حيث كانت رائدة من حيث المحتوى والوطنية والعمق”. الدكتور إسماعيل معاش: “من الواجب إطلاق مؤسسة أكاديميّة باسم الشيخ دردور” دعا الدكتور إسماعيل معاش في تدخله خلال ندوة “الشروق” إلى ضرورة تأسيس ناد أو مؤسسة أكاديمية تحمل اسم الشيخ دردور، لتكون مجالا لجمع ولمّ شمل تلامذته وأبنائه العلميين والروحيين، مشيرا بأن جهود وتضحيات الشيخ دردور يجب أن تبقى آثارها، خاصة وأنه وظف جميع مساعيه لنشر العلم والتقليل من دائرة الجهل في منطقة الأوراس، مضيفا أنه فخور لأنه من طلبة المعهد الإسلامي بباتنة، ما سمح له بمواصلة دراسته والحصول على شهادة الدكتوراه في الرياضيات من جامعة باريس، مؤكدا في الوقت نفسه أن توجيهه إلى الرياضيات كان خطأ كبيرا، معتبرا أن الأمة تبنى بعلماء الاجتماع والتربية والنفس، لأنه حسب قوله يمكن أن يتكفل طبيب كوبي بعلاج عين جزائري، لكن لا يمكن لإمام صيني وروسي أو إندونيسي أن يداوي أمراض أمتنا ومشاكل مجتمعنا، وجدّد التنويه بدور المعهد الإسلامي في فسح المجال لطلب العلم في فترة صعبة وحساسة، حيث أعطاهم الشيخ عمر دردور الفرصة فبرهنوا وتفوّقوا ونجحوا، حسب قوله. الأستاذ مخلوف عكسة من سيدي بلعبّاس: طلبة المعهد الإسلامي تفوّقوا في الرياضة على ثانويات باتنة! كما أكد الأستاذ مخلوف عكسة، القادم من ولاية سيدي بلعباس، أنه بقي مع الشيخ دردور لمدة 7 سنوات كطالب، و4 سنوات أخرى كمراقب في المعهد الإسلامي، مشيدا بأخلاقه وتواضعه وكفاءته، وحسب قوله فقد خاطبه بالشعر في عدة مناسبات، وهذا اعترافا بمكانته وجهوده وتضحياته، كما تطرق إلى بعض مواقف الشيخ دردور، من ذلك تعامله مع طلبة المعهد الإسلامي حين أرادوا أن يشنوا إضرابا عن الأكل، ومقاطعة مطعم المعهد الإسلامي، فقال لهم كلمة بسيطة “أنا أطلب الأمل من الوالي عبد العزيز بولقرون ومن مقلاتي وعبد الصمد والبقية”، ففهم الجميع الرسالة، خصوصًا أنه كان يبذل جهودا كبيرة من أجل تمويل المعهد الإسلامي بفضل مساعيه الخاصة، بحكم أن المعهد لم تتكفل به الدولة، كما أكد الأستاذ عكسة أن طلبة المعهد كانوا ناجحين في العلم مثلما كانوا أيضا ناجحين في الرياضة، وكثيرا ما يكون التنافس حادا مع ثانويتي عباس لغرور ومصطفى بن بولعيد في مجالات علمية وثقافية ورياضية عديدة، وبذلك كان الرد صريحا حسب قوله على بعض الذين قالوا “إن طلبة معهد الشيخ دردور لا يفقهون في الرياضة”. كوّن 7500 طالب وطالبة بينهم إطارات للأمة الشيخ عمر دردور…سيرة حياة حافلة بالجهاد والعلم والعمل رحلة شاقّة من الزاوية الدردورية إلى رحاب الجامع الأخضر ولد الشيخ العلامة عمر دردور في 13 أكتوبر 1913 في قرية أحيدوس الواقعة في ثنية العابد من عائلة كريمة عرفت بالعلم والأدب والدين، ذلك أن لقبه الأسري يرجع للشيخ علي الدردور الكبير مؤسس الزاوية الدردورية التي أشعت على كافة منطقة وادي عبدي والأوراس بنور العلم والعلوم، كما كان له الفضل الكبير في دعم عدة ثورات ضد المستعمر الفرنسي كثورة ابن جار الله 1879 التي ساندها أبناء الزاوية الدردورية من خلال العلامة المجاهد الهاشمي دردور فنفي رفقة أتباعه لجزيرة كورسيكا بعد صنوف من العذاب العام 1880. وفي كنف هذه الأجواء النورانية المتوهجة الجامعة بين حب العلم والكفاح من أجل الدين والوطن نشأ الفتى عمر وترعرع، ولم ييلغ سن الحادية عشرة حتى بانت عليه علامات الفهم والفطنة والذكاء والنجابة، فحفظ القرآن الكريم ثم استزاد في علوم الفقه واللغة والنحو فحفظ أغلب المتون، قبل أن ينتقل لزاوية الشيخ علي بن غمر بطولقة لإتمام دراسة الكتب والشروح المختلفة، ثم تحوّل مسار حياته بالكلية بعد سنتين حينما زار رفقة الشيخ عبد الحفيظ الهاشمي مدينة قسنطينة والتقى بالشيخ ابن باديس رائد النهضة الإصلاحية العام 1932، الذي سرعان ما قبل به تلميذا في معهده الإصلاحي لما لمسه فيه من ذكاء وحرص على العلم. وكان الشيخ عبد الحميد وافق على الأمر مبدئيا غير أنه اشترط الاختبار الضروري لقدراته فامتحنه في شتى المجالات فأعجب به وقبل انضمامه لهيئة تلاميذ الجامع الأخضر. ابن باديس يفوّضه لإلقاء الدروس وشرح المتون للتلاميذ لم تمض أشهر على بدء الدروس حتى اقتنع الإمام ابن باديس بنباهة ابن الأوراس وفطنته الكبيرة وإلمامه بالعلوم المختلفة، فقرّر أن يكلفه بالإنابة عنه في إلقاء بعض الدروس وشرح المتون خلال أوقات الفراغ، بل أمره إلقاء عدد من الدروس على التلاميذ بكل من مسجدي سيدي قموش وسيدي بومعزة، ولشدة تأثره بالرسالة الباديسية في التربية والإصلاح كان الطالب عمر يستغل فترة عطلته في إلقاء الدروس على سكان قريته ويحثهم على التعلم، ليؤسس سنة 1936 رفقة عدد من زملائه الأوراسيين الشعبة الأوراسية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ثم أسس سنة بعد ذلك، أي في العام 1937، مدرسة التربية والتعليم لنشر الفكر الإصلاحي والوطني ومكافحة الخرافات والعادات السيئة، وأبان عن حرص كبير في التوجه للشبان والشابات خاصة لتغيير نمط المجتمع ودفعه للحاق بركب الوعي التربوي الصحيح والسليم، ولفت نشاطه المتعاظم دوائر الصراع الفكري التابعة لسلطات الاستعمار الحريصة على منع النهضة والإبقاء على سياسات الجهل والتجهيل، فقامت بمضايقته ولفقت له تهما باطلة انتهت إيداعه سجن مدينة باتنة مدة أربعة أشهر. مفوّض جبهة التحرير بمهام سياسية في فرنسا والمشرق العربي لم تهن عزيمة الشاب عمر ولم تخر بعد خروجه من الحبس، فواصل نشاطه العلمي والتربوي في كنف شعبة الجمعية، ورغم منع وتجميد كافة النشاطات جراء اندلاع الحرب العالمية الثانية، فقد فضل مزاولة نشاطه في إطار المسجد، حتى لا تنطفئ شعلة التدريس والإصلاح في أتون التقلبات الكبرى التي طرأت بسبب الحرب. بمجرد انطلاق ثورة نوفمبر المباركة كان الشيخ يسارع لنصرتها بالموازاة مع مضاعفة نشاطه التعليمي والتربوي، وخشية اعتقاله نصحه قادة الثورة بالابتعاد عن الأوراس والسفر للعاصمة، وهناك أصدر له الدكتور التيجاني هدام وثيقة طبية تجيز له السفر نحو الخارج لتلقي العلاج فشد الرحال لفرنسا وتحديدا لمنطقة فيشي التي استقر بها، مواصلا نشاطه السري في صفوف جبهة التحرير الوطني، وتكفل بشرح أهداف ومبادئ الثورة بليون وباريس ومدن الشمال الفرنسي في الفترة الممتدة بين جويلية 1955 وجانفي 1956. سافر الشاب عمر للقاهرة والتقى الشيخ البشير الإبراهيمي وعدد من قيادات الثورة بالمشرق على غرار أحمد بن بلة والحسين أيت أحمد ومحمد خيضر، فكلف بمهمة التعريف بالثورة في الدول العربية فأنجز المهمة على أكمل وجه حتى حدود العام 1960، ليوفد نحو تونس، فتكفل بتعليم وتربية الجنود الجزائريين المرابطين على الحدود. التحدّي في تشييد أول معهد للتعليم الأصلي فضل الشيخ عمر مواصلة نشاطه التعليمي عقب الاستقلال فعاد لمنطقته رافضا الاستقرار بالعاصمة رغم المغريات الكثيرة والامتيازات التي منحت له، بل وجسد سنة الاستقلال مشروع التعليم الأصلي، فأنشأ أول مدرسة بباتنة سنة 1962 دشّنها وزير الأوقاف أنذاك محمد توفيق المدني العام 1963، وقد أطلق على هذا المعلم التربوي اسم صلاح الدين الأيوبي، ثم أنشأ للمعهد عدة فروع في كل من أريس ومنعة وبريكة ونقاوس ومروانة والمعذر والشمرة وإشمول وخنشلة، وتكفل المعهد بتدريس 7500 طالب وطالبة صار قسم كبير منهم من أكبر الإطارات، موزعين على صنف النظاميين والأحرار الذين كانوا يتلقون دروسا ليلية عرفت وقتها بالجامعة الشعبية. ولم يقتصر إشعاع المعهد على ولاية باتنة فحسب، بل صارت له معاهد مماثلة انتشرت في وقت قصير على تراب عدة ولايات بمجموع 36 معهدا، ما حتم على رئيس الدولة هواري بومدين الاعتراف بها رسميا من خلال قرار الترسيم الذي اتخذه أثناء زيارته لمدينة باتنة سنة 1969. الشيخ دردور: “إذا جاءني الموت يجدني واقفا” في العام 1978 شعر الشيخ عمر بالحزن بعد صدور قرار إلغاء التعليم الأصلي من القاموس التربوي الجزائري، بيد أنه لم ييأس في مسعاه الإصلاحي بأن جسد مشروع تأسيس المعهد الإسلامي لتكوين الأئمة بسيدي عقبة ولاية بسكرة والذي رأى النور سنة 1981، وعين أول مدير له. عين بعدها مفتشا للشؤون الدينية لولاية باتنة خلفا للشيخ المتوفى محمد الأمير صالحي، مع احتفاظه بعضوية الأستاذ المدرس بمعهد سيدي عقبة، لتتم ترقيته سنة 1986 مفتشا جهويا للشؤون الدينية لولايات باتنة وخنشلة وأم البواقي، وهي المهمة التي شغلها على أكمل وجه، بالموازاة على مشاركاته المشهودة في أعمال البر وإصلاح ذات البين، حتى قعوده ببيته لتقدّم سنه ومرضه إلى أن وافاه الأجل بمنزله بمدينة تازولت -لامبيز- يوم 19 مارس 2009 الموافق لعيد النصر الوطني، وكأن التاريخ هيأ له أجمل الخواتيم، هو الذي كان يقول لأصدقائه ومعارفه “إذا جاءني الموت يجدني واقفا”.