لم يعد يفصلنا عن آخر الامتحانات المحترمة في الجزائر، أي شهادة البكالوريا، إلا أسبوع من القلق والحيرة، على أمل أن لا تبقى شهادة البكالوريا عندنا شهادة للفاشلين يفوق فيها عدد الباكين عدد المبتهجين ويصاب فيها أزيد عن ربع مليون طالب أو لنقل تصاب فيها أزيد عن ربع مليون عائلة بالحسرة، لأن البكالوريا مازالت كما كانت دائما آخر الأفراح الجزائرية التي تفتخر بها الأسر وتقيم لأجلها الولائم. وكانت بكالوريا 2006 الأخيرة قد حطمت رقما قياسيا هو الأهم منذ 1971 عندما بلغت نسبة النجاح 51.15% ، كما بلغت أرقام المتحصلين على علامة جيد جدا 224 وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الجزائر. وتكمن أهمية البكالوريا في عدد المترشحين لها والذي يبلغ نصف مليون مترشح، أي أزيد عن سكان مئة دولة في العالم وحتى عدد الناجحين الذي سيتجاوز مئتي ألف طالب هو رقم سكان بعض الدول، كما أن الميزانية العامة تقارب المئة مليار سنتيم التي توازي ميزانيات بعض الدول. وإذا كانت بقية الشهادات التعليمية السفلى والعليا وحتى الاستحقاقات الانتخابية قد فقدت طعمها، فإن البكالوريا حافظت على هيبتها وسوسبانسها بعيدا عن المستوى المنحط والتزوير، فأبقت على حلاوتها خاصة بالنسبة للناجحين. فهل يمكن اعتبار شهادة البكالوريا أيضا غنيمة حرب تماما مثل اللغة الفرنسية التي ورثناها؟ سؤال له جوابان متناقضان، فالامتحان حافظ شكلا على ما ورثناه من العهد الاستعماري بنفس الروتين وبنفس التقليد، ولكنه فقد روحه أمام التدني الأخلاقي والعلمي للطلبة إلى درجة تسجيل بعض حالات الغش واللامبالاة لدى بعض الطلبة والأساتذة وحتى الأولياء. من نابليون إلى ساركوزي معروف أن البكالوريا هي صناعة فرنسية خالصة منذ عهد نابليون بونابارت، ولكنها إلى غاية عهد نيكولا ساركوزي عرفت الكثير من الغربلة، حيث بلغت الآن مرحلة اقتراح الامتحان المستمر الذي يتم خلاله احتساب نقاط الطلبة منذ دخولهم إلى الثانوية حتى يكون عطاء الطالب مستمرا ومن دون تكاسل، ولا يقتصر الجهد على امتحان واحد قد يكرم فيه الطالب وفي غالب الأحيان يهان... والتاريخ يشهد على مفاجآت غير سارة عصفت بطلبة في منتهى الذكاء والاجتهاد، إذ مروا في اليوم الموعود بنكسة كنست سنوات كدهم، كما يشهد على مفاجآت مفرحة لطلبة أمضوا سنوات خمول وفشل ولكن الحظ منحهم ما لم يحلموا به فنجحوا في اليوم الموعود، مع العلم أن هذه الطريقة التي يسير نحوها الفرنسيون ينتهجها الأمريكان واليابانيون منذ سنوات عديدة... ولكن المشهود به أيضا أن فرنسا من الدول العظمى الذي تهتم بالبكالوريا، خاصة في شعبها التقنية، حيث تصرف عليها الملايير، والبكالوريا هي كلمة لاتينية Baccalaurea وتعني تتويج الفائز، وأول امتحان لهذه الشهادة "التاريخ" جرى بهذه الطريقة كان في عام 1807 بأمر من نابليون الذي اقترح خمس شعب هي الأدب والعلوم والطب والحقوق والعلوم النظرية، أي أن البكالوريا سبقت جوائز نوبل بحوالي قرن من الزمان، وكانت البكالوريا ممنوعة على من تقل أعمارهم عن 16 سنة ولم ينجح في دورة 1809 في فرنسا إلا 31 مترشحا، وفي عام 1820 أدخلت فرنسا شعب الفلسفة والتاريخ. وعندما دخلت فرنسا أرض الجزائر عام 1830 أدخلت معها شهادة البكالوريا وأقحمت في عام 1853 لغات أخرى غير الفرنسية هي الإنجليزية والإسبانية والألمانية ويقارب النجاح في فرنسا الآن نسبة 80% وكل المترشحين لرئاسيات فرنسا الأخيرة حصلوا على هذه الشهادة المقدسة في فرنسا، لأنها مفتاح الجامعة. كما أن ما يميز هذه الشهادة في فرنسا هو أن عدد المتفوقين بعلامة "جيد جدا" يقارب في الغالب الخمسة آلاف طالب ويفوق عدد الحاصلين على علامة "جيد" العشرين ألف طالب. وعكس ما يحدث عندنا فإن كبار فرنسا كلهم من الحاصلين على شهادة البكالوريا ولا توجد إلا استثناءات نادرة يذكرها الفرنسيون كنوادر، كما هو الحال بالنسبة لرئيس حكومة فرنسا عامي 1992 و1993 بييار بيرغوفوا والممثل الشهير آلان ديلان والمطربة شيلا واللاعب زين الدين زيدان. إقحام البكالوريا في السياسة إذا كان المطلوب من السلطة هو دائما عدم إقحام الدين في السياسة، فإن البكالوريا بأبعادها الثقافية والاجتماعية تم إقحامها في مختلف الصراعات السياسية، وحتى عندما عرف الامتحان إجراء دورتين "صيفية وخريفية" في عامي 1980 و2001 فإن ذلك تم لأسباب سياسية بسبب ثورتي منطقة القبائل في عهدتي الشاذلي بن جديد وعبد العزيز بوتفليقة. لكن أسوأ نقطة في تاريخ البكالوريا حدثت في دورة 1992 بعد حادثة تسريب الأسئلة التي عصفت بالحقيبة الوزارية التي كان يحملها وزير التربية الأسبق علي بن محمد وأدت هذه "الفضيحة" أو "المؤامرة" إلى إلغاء الامتحان وبقيت البكالوريا تتأثر بالأحداث السياسية والهزات الطبيعية. ففي زلزال 1980 بالأصنام، قامت وزارة التربية بتوزيع طلبة المستوى النهائي على مختلف ولايات الشرق الجزائري، وفي زلزال 2003 الذي ضرب ولايتي بومرداس والعاصمة تم تأخير الشهادة في الولايتين المنكوبتين إلى غاية خريف 2003. ويحافظ رؤساء الجزائر على عادة ورثوها من الراحل هواري بومدين وهي حفلات تكريم المتفوقين في شهادة البكالوريا والحاصلين على علامة جيد جدا، لأجل كل هذا نرى أن حقيبة وزير التربية هي عادة مليئة بأوراق شهادة البكالوريا التي تعتبر أهم المأموريات على الإطلاق لوزارة التربية والتي تحدث عنها مؤخرا السيد بن بوزيد وتكهن بأن ترتفع نسبة النجاح هذا العام حتى ينجح للعام الثاني على التوالي أزيد عن 50% من المترشحين تماما كما نجح السيد أبو بكر بن بوزيد في امتحان انتخابات البرلمان عندما ترشح بولاية أم البواقي التي تحتل عادة ذيل ترتيب الناجحين كثيرون اقترحوا وزارة خاصة بشهادة البكالوريا، وهم لم يخطئوا، إذا علمنا عدد المترشحين وقيمة الميزانية المخصصة لهذه الشهادة. غرائب البكالوريا إذا كان عدد المترشحين للبكالوريا قد بلغ أزيد عن نصف مليون منذ بداية القرن الحالي وهو في تصاعد مستمر، فإن عدد الجزائريين الذين احترقوا بنار الخوف وتذوقوا من مرّ الامتحان، منذ الاستقلال، قد قارب أو فاق العشرة ملايين نسمة، وهو ما يجعل هذه الشهادة عالما قائما بذاته، فيه من كل شيء بما في ذلك الغرائب التي مكنت سجينا بحبس لعلاليق بعنابة في دورة 2004 من الحصول على البكالوريا داخل سجنه بعلامة جيد جدا، بالرغم من أنه محكوم عليه بالإعدام لاقترافه جريمة قتل بشعة، ويوجد حاليا هذا السجين "الداهية" في سجن لامبيز بعد ترحيله إلى هناك قبل تنفيذ حكم الإعدام. ويقدم "لامبيز" السجن القابع في ولاية باتنة دائما نسب نجاح تفوق أحسن الثانويات بمعدل لا ينزل عن 70%.. وفي الدورة السابقة 2006 مثلا احتلت ولاية معسكر المركز الأول في نسبة الناجحين ومازالت منذ بداية الألفية الجديدة ولايات الغرب هي المسيطرة على المراكز الأولى، ومن أرقام عام 2001 أحصينا 98 ناجحا من فاقدي البصر، كما شارك في ذات الدورة 728 مترشحا أجنبيا من 26 جنسية من بينهم مترشح من جنسية أمريكية فشل في اجتياز الشهادة التي سلبت العقول. وكان رئيس الجمهورية قد قام في صائفة 2004 بتكريم طفلة دون سن ال13 حصلت على البكالوريا بالإمارات العربية المتحدة، وشدت الانتباه عجوز في سن ال63 بالعاصمة عام 1998 حاولت تجريب حظها ولكنها سقطت وهي التي شاركت في أول بكالوريا تشهدها الجزائر عام 1962 وكان عمرها حينها 27 عاما، مع العلم أنه في عام 1962 بلغ عدد الناجحين 1630 فقط على المستوى الوطني، وهو ما يوازي عدد طلبة سنة واحدة من شعبة واحدة في جامعة جزائرية واحدة في الوقت الحالي، ليرتفع عدد الناجحين في آخر دورة إلى 173 ألف ناجح، وقد بلغ عدد الحاصلين على علامة "جيد" في العام الماضي 3795 أي أكثر من ضعف الناجحين بكل العلامات في دورة 1962... ولم يحدث أبدا وأن اجتاز عدد الناجحين بعلامة "جيد جدا" رقم المئة، إلا مرة واحدة في الدورة الأخيرة إذ بلغ 224 ولم يكن إلا 7 فقط في دورة 1994 في زمن اليمين زروال الذي أخذ صورة مع سبعة طلبة فقط عكس ما حدث مع بوتفليقة في الدورة السابقة حيث عجز عن استقبال جيش العباقرة الذين تم تكريمهم برحلة سياحية إلى اسطنبول التركية وجاء العام الماضي في المركز الأول طالب يدرس في ثانوية حامة بوزيان بقسنطينة يدعى "باقة" ويدرس حاليا بجامعة منتوري... وإذا كانت العلامة هي تقدير شرفي فقط سابقا، فإنها مهمة الآن حيث بفضلها يتم اختيار الطالب للشعبة التي يحلم بها، وصاحب العلامات المتقدمة هو الذي بإمكانه اختيار ما شاء. وكل المؤشرات توحي أن رقم الناجحين هذا العام سيفوق مئتي ألف طالب ليتم تحطيم رقم قياسي لكل الدورات ولكن تحطيم رقم أحسن نسبة، المسجلة في عهد بومدين عام 1969 تبقى ضئيلة حيث بلغت نسبة النجاح 59.13% إثر مشاركة 7492 طالب فقط وكان بومدين في أعوام 69 - 70 - 71 قد نصح برفع نسبة النجاح فتتم في هذه السنوات تجاوز ال50% بسبب ظهور جامعات جديدة على مستوى الوطن، إضافة إلى البعثات للدراسة في أوربا الشرقية والاتحاد السوفياتي بالخصوص. ناصر