نشرت المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات والذي مقره الدوحة، الإثنين، بحثا حول الإنتخابات الرئاسية الجزائرية الأخيرة، جاء فيه أن نسبة المشاركة لن تؤثر على شرعية الرئيس الجديد عبد المجيد تبون قياسا بنسب مماثلة سجلت في عدة دول بالجوار. أعلنت السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات في الجزائر فوز المرشح المستقل عبد المجيد تبون، في الانتخابات الرئاسية، التي أجريت يوم 12 ديسمبر 2019. وقد فاز تبون بنسبة تزيد على 58 في المئة من الأصوات؛ ما ألغى الحاجة إلى دورة ثانية. والجدير ذكره أن هذه الانتخابات الرئاسية قد تمت، رغم معارضة الحراك الشعبي لها، وخروج تظاهرات حاشدة في الجزائر العاصمة، ومدن أخرى عديدة، خلال يوم الاقتراع. العملية الانتخابية بالأرقام بحسب السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، بلغ عدد الناخبين المسجلين في القوائم الانتخابية 24474161 ناخبًا، منهم 914308 مسجلون في قوائم الجالية الجزائرية في الخارج. وبلغت نسبة المشاركة داخل الجزائر 41.13 في المئة (9747804 ناخبين)، أما في الخارج فقد بلغت نسبة التصويت 8.69 في المئة، فتكون نسبة المشاركة الإجمالية بذلك 39.83 في المئة. وبلغ عدد الأصوات الصحيحة 8504346 صوتًا، وبلغ عدد الأصوات الملغاة 1243458 صوتًا، بينما بلغ عدد الأصوات المتنازع عليها 11588 صوتًا[1]. وأسفرت النتائج عن حصول عبد المجيد تبون على 58.15 في المئة (4945116 صوتًا)، وعبد القادر بن قرينة على نسبة 17.38 في المئة (1477735 صوتًا)، وعلي بن فليس على نسبة 10.55 في المئة (896934 صوتًا)، وعز الدين ميهوبي على نسبة 7.26 في المئة (617753 صوتًا)، وعبد العزيز بلعيد على نسبة 6.66 في المئة (566808 أصوات) (يُنظر الشكل). وقد تباينت نسب المشاركة بحسب الولايات. وباستثناء ولايتي بجاية وتيزي وزو اللتين سجلتا نسبًا تقارب 0 في المئة، سجلت بقية الولايات نسبًا راوحت بين 57 في المئة و30 في المئة، بينما سجلت الجزائر العاصمة 19 في المئة. دلالات نسب المشاركة خلاف ما كان متوقعًا، حققت الانتخابات نسبة مشاركة “مقبولة”، على الرغم من رفض الحراك الشعبي لها؛ وهي نسبة قريبة من نِسب المشاركة التي عرفتها عمليات انتخابية حديثة العهد، على الأقل، في جوار الجزائر الإقليمي. فقد شهدت الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2016 في المغرب نسبة مشاركة قدرت ب 43 في المئة[2]؛ بينما عرف الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية التونسية الأخيرة نسبة مشاركة في حدود 57.8 في المئة[3]. وبناء عليه، من غير المحتمل أن تسبب نسب المشاركة مشكلة بالنسبة إلى شرعية الرئيس المنتخب، وإن كانت الصدامات التي حصلت خلال يوم الاقتراع سوف تترك أثرًا. ويبدو واضحًا أن قطاعًا من الجزائريين يرى أن الأزمة السياسية طالت، وأن الانتخابات الرئاسية يمكن أن تكون خطوة في اتجاه حلها؛ وخصوصًا أن الانتخابات أُلغيت مرتين متتاليتين منذ استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بداية نيسان/ أبريل 2019. لذلك، بدا أن خطاب السلطة القائل بأن الوضع الدقيق الذي تعرفه البلاد، داخليًا وخارجيًا، لا يحتمل إلغاء الانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة في مدة تقل من تسعة أشهر، قد أقنع جزءًا من الجزائريين بالمشاركة. ويبدو أن رفض الحراك الشعبي لأن يتم تمثيله أو الترشح باسمه دفع قطاعات أخرى من الجزائريين إلى المشاركة؛ لاعتقادهم أن الحراك يفتقر إلى رؤية يمكن التعويل عليها لحل الأزمة، وأن أوساطًا قليلة فاعلة فيه تدهورت إلى توجه عدمي. كما أن الظهور المتزايد للأصوات المعتدلة، التي تقول إن المشاركة في الانتخابات لا تتعارض مع استمرار الضغط من أجل مكاسب إضافية، أدى إلى تحويل قناعات بعض المترددين. نتائج من دون طعون من المقرر أن يعلن المجلس الدستوري عن النتائج النهائية للانتخابات في الفترة 16-25 كانون الأول/ ديسمبر 2019[4]، وذلك بعد دراسة الطعون المحتملة في النتائج التي يمكن أن يقدمها المترشحون المنافسون. غير أنه من المستبعد أن يتم الطعن في نتائج الانتخابات؛ إذ سبق أن أعلن كلٌّ من بن فليس وميهوبي قبولهما بالنتائج، ودعا بن فليس إلى الحفاظ على استقرار البلاد[5]، بينما أكّد ميهوبي احترامه للإرادة الشعبية[6]. ومن غير المحتمل أن يتقدم بلعيد، بدوره، بطعن في النتائج نظرًا إلى النسبة الضئيلة التي حصل عليها (6.66 في المئة)، أما بن قرينة فمن المرجح أن يستثمر في النتيجة التي حققها (الترتيب الثاني)، ليفاوض من أجل حقائب وزارية مهمة في الحكومة الجديدة[7]. ويأتي غياب الطعون في سياق غياب أي تنافسٍ أيديولوجي و/ أو برامجي بين المترشحين خلال الحملة الانتخابية، والتي بدت تجري من أجل الترويج للانتخابات نفسِها بدلًا من الترويج للبرامج الانتخابية للمترشحين[8]. سقوط مرشح قطبَي التحالف الرئاسي سابقًا مُني قطبا التحالف الرئاسي الداعمان لحكم الرئيس بوتفليقة، خلال العشرين سنة الماضية – التجمع الوطني الديمقراطي وجبهة التحرير الوطني – والمعروفان بتيار المولاة[9]، بهزيمة كبرى. فقد حل مرشح التجمع الوطني الديمقراطي، ميهوبي، الذي حظي أيضًا بدعم جبهة التحرير الوطني، في الترتيب الرابع بنسبة 7.26 في المئة. وقد ظل حزب جبهة التحرير الوطني مترددًا حيال دعم أيٍّ من المرشحين حتى الأسبوع الأخير؛ حيث أصدر الأمين العام للحزب بالنيابة، علي صديقي، تعليمات إلى أمناء محافظات الحزب تدعوهم إلى تعبئة “مناضلي” الحزب للمشاركة المكثفة وضمان فوز “مرشح القطب الوطني”، ميهوبي. وقد سبق إعلانَ الدعم هذا حالةٌ من الترقب؛ إذ كان متوقعًا أن يدعم الحزب تبون بصفته عضوًا في لجنته المركزية[10]. لكن قرار دعم ميهوبي أعطى انطباعًا بأن تبون على خلافٍ مع المكتب السياسي للحزب. وشاع أن تبون تحفظ على عرض الحزب دعمه، وطلب بدلًا من ذلك الحصول على دعم “المناضلين” وليس المكتب السياسي للحزب. وهو ما اعتبرته قيادة الحزب “إهانة” غير مقبولة من أحد الأعضاء. أبعد من ذلك، برز خلاف حول مستقبل المجلس الشعبي الوطني، الغرفة الثانية للبرلمان الجزائري؛ حيث ترى قيادة الحزب ضرورة استمراره بتشكيلته الحالية إلى نهاية العهدة البرلمانية، بينما كان تبون يدعو إلى حله والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة[11]. وعلاوة على ذلك، أعطى ظهور نجل تبون قبل أسبوع من الانتخابات في قفص الاتهام مع موقوفين في قضايا فساد، وتركيز وسائل الإعلام القريبة من السلطة على ذلك[12]، انطباعًا بأن أجهزة الدولة تسعى لإسقاطه[13] في مقابل دعم ميهوبي. وقد خلق هذا الأمر نوعًا من التعاطف مع تبون، الذي قدم نفسه على أنه رجل الدولة التكنوقراطي الذي يقف على تخوم الخارطة الحزبية التي همّشها الحراك الشعبي. وبغض النظر عما بدا محاولات للتأثير في حظوظ تبون، فقد دفعت هذه الإجراءات جزءًا من الناخبين نحو المشاركة في التصويت، ولصالح تبون تحديدًا. فقد اقترن اسم ميهوبي أيضًا بتقارير مفادها أنه سيتجه حال فوزه نحو إصدار عفو رئاسي عن كبار الفاسدين في النظام وعلى رأسهم أحمد أويحيى، الأمين العام السابق لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، وهو الحزب الذي يخوض ميهوبي الانتخابات باسمه. لقد ظهر تبون، في نظر قطاع معتبر من المصوتين، مرشحًا مستقلًا لا يحظى بدعم حزبي جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، مثلما جرت عليه العادة في الانتخابات الجزائرية السابقة، رغم قربه من دوائر السلطة وخدمته في النظام لسنوات طويلة. فوق ذلك، استخدم تبون خلال حملته الانتخابية لغة دارجة وبسيطة تخاطب المشاعر الوطنية، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بمكافحة الفساد، وعلاقة الجزائر بفرنسا، وسيادة الدولة الجزائرية ورفض التدخل الأجنبي في شأنها الداخلي، ودور الجزائر الإقليمي مغاربيًا وأفريقيًا ومتوسطيًا وعالمثالثيًا. كما استفاد من الانطباع السائد بأنه ضحية للفاسدين في عهد بوتفليقة؛ ذلك أنه أُقيل من رئاسة الوزراء في أقل من ثلاثة أشهر من تعيينه، بسبب دعوته إلى مكافحة الفساد وفك الارتباط بين السياسة والمال من جهة، كما قدم نفسه على أنه ضحية للسلطة التي تسعى لتشويه صورته منذ بداية الحملة الانتخابية من جهة أخرى. وقد استفاد تبون أيضًا من الانطباع السائد بأنه يتمتع بالقدرة على مواجهة بقايا نظام بوتفليقة، بفضل خبرته الطويلة وتمرسه بدوائر الحكم، وقد ركز في حملته الانتخابية على مسألة استرجاع الأموال المنهوبة؛ وهي مسألة حساسة بالنسبة إلى الشعب الجزائري الذي يرى جزء منه أن المحاكمات والأحكام الصادرة عنها وحدها إجراءٌ رمزي لا يكفي[14]. دلالات حسم الانتخابات في الدورة الأولى مع أن تبون لم يكن خيار السلطة السياسية الأول على ما يبدو، فإن حسم نتائج الانتخابات من دورتها الأولى جاء مريحًا بالنسبة إليها. وبغض النظر عن الجدل حول ما إذا كان ثمة تدخّل، أيضًا، أيًا كان شكله، في نتائج الانتخابات – وهو افتراضٌ لا تدعمه أسانيد كافية – فقد مثّل الذهاب إلى دورة ثانية هاجسًا لدى السلطة وذلك بالنظر إلى تكاليفه الباهظة المحتملة، والمتمثلة في: أولًا، إطالة أمد الأزمة وعدم وجود ضمانات لنجاح تنظيم دورة ثانية في ظل استمرار رفض الحراك الشعبي لها. ثانيًا، احتمال حدوث انفلات أمني قد تعجز السلطة عن احتوائه؛ لأنه قد يتطور إلى صدام عنيف بين مؤيدي الانتخابات ورافضيها. ثالثًا، وهو الأهم، أثبتت نتائج الدورة الأولى، وكما كان متوقعًا، أن الدورة الثانية كانت ستؤول إلى احتمال إعادة استنساخ حالة الاستقطاب التقليدي، وذلك بوصول تبون، عضو اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني (وإن كان لم يترشح باسمها)، ممثلًا للتيار الوطني من جهة، وبن قرينة، من جهة أخرى، ممثًلا للتيار الإسلامي (وإن كان لا يُعرّف نفسَه كذلك). وكان من شأن ذلك استنساخ مواجهة قد تكون مكلفة بين التيارين الوطني والإسلامي. لذلك، فالأرجح أن السلطة تنفست الصعداء بحسم الانتخابات من دورتها الأولى، حتى وإن لم يكن رجلها المفضل هو الفائز. يتمثل امتحان تبون الرئيس في المرحلة القادمة بالقدرة على كسب ثقة الجزائريين عمومًا، والحراك خصوصًا، عبر اتخاذ جملة من الإجراءات مثل إطلاق سراح المعتقلين وإطلاق حوار وطني جاد يتطلب إطلاق الحريات، بما في ذلك الإعلام الحر، تتلوه مرحلة انتقالية يقودها الرئيس نفسه بمشاركة المعارضة. في هذه الحالة، يمكن أن تكون الانتخابات الأخيرة حدثًا مفصليًا في تاريخ الجزائر. المصدر: موقع المركز