ميّز مختلف المراحل التاريخية التي عاشتها الجزائر نوع من الحدّية، صبغت النفسية الفردية والوعي الجماعي الجزائري، وانعكس ذلك بالتالي على رؤيتها للأحداث التي عايشتها ولا زالت تعايشها. وهو ما يميّزها عن باقي الدول التي تقاسمها التاريخ والهوية(تونس، موريتانيا، مصر). وإنّ الفضل في نشأة النسخة الأخيرة من الدولة الجزائرية سنة 1962، على اعتبار أنّها عرفت نسخاً عديدة لها منذ أن استوطن الإنسان أرضها، يرجع إلى نهاية صراعٍ دامٍ امتدّت الحلقة الأخيرة منه –الثورة التحريرية- ما يقارب الثماني سنوات، وتجاوزت سنوات بلائه مائة واثنين وثلاثين سنة. لقد اقترن في هذه اللحظة عظم الهدف بغلاء الثمن. وكثيراً ما يفخر الجزائريون، وحُقّ لهم أن يفخروا، بأنّ دولتهم الناشئة وأرضها سُقِيت بدماء الشهداء، وتغنّت أمام العالم بوصفها بلد المليون ونصف المليون شهيد. لقد رسّخ هذا التاريخ القريب في الفرد والجماعة قيمة جوهرية، هي أنّ الإنجاز لا بدّ له لكي يتحقّق أن يُسقى بدم التضحية. وما ينتج عن هذا التصوّر هو أنّ الإنجاز المحقّق –الإستقلال- ذا قيمة عالية، وأنّ مسؤولية الحفاظ عليه مهمّة جليلة وخطيرة. لكنّ انعكاسات هذه القيمة النبيلة لم تخلُ من اختلالات في التصوّر والممارسة، بدأت مع بدايات الدولة الفتية وكبُرت معها بمرور السنين. اختلالات التصوّر والممارسة خلّف الإعتقاد بوجوب التضحية بالدم معنًى عميقاً في وعي المجتمع ولاوعيه، مفاده أنّ كلّ هدف مراد يحمل قيمة مركزية لا بد أن يقابله ثمن من الدم لا بدّ من دفعه، سواءً بإراقته فعلياً أو بمجرّد الإشارة إليه، أو بما يماثله. فكان ثمن الإستقلال دم الشهداء المسفوك بداية من سنة 1954(إذا أردنا أن نتوقف عند هذا التاريخ فقط)، لأنّ سياسة الأحزاب قبيل الثورة لم تكن تملك "الثمن الكافي من الدم" لنيل الإستقلال، ولأنّ فرنسا الإستعمارية آنذاك لم تكن لترضى بالتخلّي عن أحلامها في الجزائر قبل أن ترتوي من "قربان" دم الإنسان الجزائري. وفي صيف 1962، تمّت مقايضة الإستقرار السياسي والحفاظ على إنجاز الثورة ببعض "الدم" من المعارضين، الذين كانوا يرون أنّ إنجاز الدولة المستقلّة يمكن أن يُحفظ بهامش من سياسات تلمّ الشمل، على اعتبار أنّهم -والشعب جميعاً- كانوا شركاء في "الدم". وتوالت المحطّات بعد ذلك، وفي سنة 1965 تمّ التلويح بسفك الدم دون تحقّقه. وفي سنة 1988، "اضطرّ" الجيش الوطني الشعبي إلى الحفاظ على الوطن ببعض "الدم" من الشباب الذي لم يعد يعرف قيمة "الدم" الذي سفك من أجل الوطن. وفي سنوات التسعينيات من القرن الماضي، التي لا يختلف الجزائريون في تسميتها بالعشرية الحمراء(إنّه مجدّدا الدم، فالأحمر "لون الدم"). لقد اسْتشرس كلّ طرف إلى درجة لم يعُد أحد يدري لِم أزْهِقت كلّ تلك الدماء، وما هو الإنجاز الذي أريد تحقيقه أو المحافظة عليه من كلّ جانب. لقد ظنّ من حمل السلاح أنّه يريد الجزائر الإسلامية، ولم يعلم أنّه بفعله ذاك قد اغتال الإسلام والمسلمين في الجزائر. وظنّ من قابله أنّه يحمي الوطن، ولم يعلم أنّ الوطن بلا مواطن ليس مكسباً. لقد كان كلاهما واهماً، لكنّ أوهامهما لم تكن مكلِّفة فحسب بل كانت "دموية". وتعدّدت بمرور الأيام مظاهر الإختلال، فالمشاجرة في الشارع تنتهي بالدم، ومشاهدة مباراة في الملعب تنتهي بالدم. وأصبح الفرد منّا لا يقتنع بتحقيق الهدف إلاّ بدفع الثمن الغالي، وصرنا نصِف بعضنا بالإنتهازية والأنانية، وظهر منّا من يطلب ومن يسدّد أيّ ثمن مالاً كان أو موقفاً أو حتى عِرضاً لتحقيق مأربه، فلا شيء بلا ثمن! وأصبح الممهّل أو المعبر في مفترق الطرق عند منطقة سكنية لا يُنجز إلاّ بعد أن يُدفع ثمنه ببعض "الدم" ممّن كان في المكان السيّئ. ولم يعد للمواطن حلّ لاستجلاب الإهتمام إلاّ ب "قطع الطريق"(رقبة الطريق و"دمها" مجازاً)، لأنّ ذلك الإهتمام أصبح إنجازاً في حدّ ذاته! ولكن ما الحلّ؟ وبعد كلّ هذه "الدموية" التي آلمتنا ولا زالت، هل إلى خروج من سبيل؟ وهل نعجز عن الإهتداء إلى ما يخرجنا من هذه الدوّامة التي تبدو أبدية؟ أعتقد أنّه من الممكن أن نجد المخرج من هاته الحتميّة، ولعلّ ذلك يبدأ بنوع من الهدوء عبر مسار علاجي طويل متكامل، يمرّ من خلال البحث عن بدائل -سلمية وسليمة- للوصول إلى تحقيق الإنجاز والحفاظ عليه، لا تكون بالضرورة بغلاء "الدم"، إنّه "العرق"، حين يعتقد كلّ منّا بأنّ من يريد شيئاً فعليه دفع ثمنه بالجدّ والإجتهاد وقطرات من "العرق" فقط، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.