تُطِل علينا ذكرى 18 فيفري بعد نصف قرن من الاستقلال ، استقلال الجزائر شعبًا و تاريخًا و حضارة وجغرافية عن أعتى قوة إستدمارية في القرن التاسع عشر و العشرين، و لم يكن ذلك إلاّ بعد تقديم قوافل من الشهداء سقوا بدمائهم الزّكية كل شبر في أرضنا الطّاهرة , لتكون الأرض مروية بالدّماء إيمانًا بأنّ للحرية باب بكل يد مضرّجة يدّق. قوافل الشّهداء... تروي الأرض
و تستمر مسيرة جهاد الشعب بمجرد أن وطأت قدم أول مستعمر فرنسي في سنة 1830 أرض الجزائر الطاهرة، ليدرك المحتل الفرنسي أن الجزائر عصيّة على الاحتلال، ولتبدأ حلقة جديدة من المقاومة في سلسلة تاريخية طويلة امتدت عبر عصور من التضحيات، و سالت فيها دماء كثيرة فكانت الأرض في الجزائر موّشحة بلون شقائق النعمان، و القافلة تلو القافلة حتى عام 1954 لتكون الثورة التّحريرية الكبرى بلسمًا شافيًا لكل جراحات الجزائر، فالأرض تحترق تحت أرجل المستعمر الفرنسي المستكبر، و الدّم يروى عطش الأرض سبع سنوات و يزيد ليكون الشّهداء بعدد المليون و نصف المليون من أبناء هذا الوطن الغالي، و الذين قدموا أنفسهم رخيصة لله ثم للوطن فكانوا أحياءً عند ربهم يرزقون، و كانوا في منظور البشر شهداء, فكانوا قافلة جديدة تستشهد بأرض الجزائر ليكون الاستقلال فجر الحرية و الانعتاق.
ترك الشّهيد أمانة لكل جزائري مؤمن بوحدة الشعب و الوطن، و هذه الأمانة تأبى إلاّ النفوس الأبيّة الحفاظ عليها، فلقد رأينا بعد الاستقلال أنّ الثورة بدأت تأكل أبناءَها، و ضاعت زوجة الشهيد و ابن الشهيد في حسابات سياسوية و حزبية و فئوية ضّيقة، فزوجة الشهيد صارت خادمة في بيوت" الكولون" و "الحركى الجدد"، و ضاع حق ابن الشهيد في غمرة نسيان بعض جيل الثورة لتركة الشهيد، فوجدنا و نحن على مشارف الاحتفال بذكرى الاستقلال الخمسين أنّ ابن الشهيد لم يستفد من جزائر الاستقلال سوى منحة لا تسمن و لا تغني من جوع... أو أنه ضمن هيكلة في منظمة قد لا يُسمع لها، أو رخصة مركبة أو محل تجاري... بل إنّ بعض أبناء الشهداء مازالوا لا يملكون سكنًا أو عملاً في جزائر العزّة و الكرامة حتى الآن.
نداء عاجل... في يوم الشهيد
هذه الزوجة التي ترمّلت في عزّ شبابها لتحتفل بالاستقلال و هي تشتغل على أبواب العمارات، و في فيلات الكولون الجدد – كما قلت سابقا - مسؤولية من؟ و هؤلاء الأبناء تيتّموا و البنات اللائي تيتّمنّ فترة الاستقلال مسؤولية من؟ و إني أرى- كما يرى الكثير من العقلاء - أنّ زوجات و أبناء الشهداء لهم الأولوية في تركة الشهيد شاء من شاء و أبى من أبى ، حتى لا يتفضّل عليهم أحد أيًا كان مركزُه، حتى لا يعطي من لا يملك لمن لا يستحق، و لقد رأينا الظُلم كل الظلم سُلّط على هذه الفئة التي هي من خيرة أمتنا الجزائرية طيلة الخمسين السنة الماضية، و يرى العقلاء - أيضا- أنّ على السّلطة أن تتدارك تقصيرها في حق هؤلاء عوائل الشهداء و ترحم شيبتهم زوجات و أبناء (الكل تجاوز الخمسين اليوم) فإن هؤلاء أمانة لا يمكن التقصير في حقها من الشعب و الدولة على حد سواء، فلا بد من تمكينهم من حقوقهم المادية و المعنوية كاملة , و هذا أقّل واجب تقدّمه جزائر الاستقلال و سلطاتها وشعبها في مثل هذه المناسبات.
18 فيفري... يوم الشّهيد و الحقوق
إذا كنا نحتفل اليوم بيوم الشهيد و قد مضى خمسون عامًا على رحلة الشهيد لربّه و هو الذي باع نفسه لله ثمّ للوطن من أجل أن تعيش أجيالنا في حرية و استقلال و كرامة، فإنّه من أبسط أدبيات التعامل مع الشهيد في يومه هذا أن نقوم له احترامًا و تقديرًا لتضحياته الجسّام في حقنا و حق الوطن، كما ندعو لرد حقوق الشهيد و عائلته و هي اليوم مسؤولية الجميع حكومة و شعبًا، و إذا كان اليوم الوطني للشهيد حافزًا للعودة بالذاكرة إلى أيام الثورة و تضحية هذه الفئة فإنّه من المعقول أن تبقى هذه الفئة في طليعة المجتمع و لها الفضل الأول و الأخير في جزائر الاستقلال، و يدعو اليوم كل مواطن غيور على جزائر تنعم بالاستقلال إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى هذه الفئة و تمكينها من حقوقها عرفانًا لها بالجميل على جيل الاستقلال، و إنّ حق استفادة أبناء الشهداء و الأرامل من حقوقهم كاملة هو الصّورة الحقيقة للاحتفال بيوم الشهيد، و حتى تكّفر الحكومة اليوم عن أخطاء الحكومات المتعاقبة، كما يدعو كل عاقل أيضا إلى رفع منحة أرامل الشهداء و تثمين حقوق أبناء الشّهداء، و لا يزايد عليها أحد فهي اليوم أقل بكثير من حقوقهم المشروعة المستّحقة. رحم الله الشّهداء و تحيا جزائر العزّة و الكرامة.