تكاد علاقة الجيرة الطيبة في ايامنا هذه أن تكون من حكايات من الماضي، يستذكرها كبار السن ويرددون بعض تفاصيلها وقدسيتها عند سرد روايات عن تلك الصلة التي كانت تجمع بين الجيران، التي تجاوزت في بعض الحالات علاقة قرابة، لدرجة كان البعض يستودع أهله وبيته وحتى أطفاله لدى الجيران، بل وحتى ابواب البيوت كانت تترك مفتوحة، عادات قضت عليها مشاعر الخوف والقلق وحتى الأنانية والغلاء المعيشي وغيرها من المبررات التي غيرت واقع اختيار "الجار قبل الدار"، وأصبح الجميع يغلق بابه أمام جاره الا القليل. حول هذا الموضوع استطلعت "المساء" آراء عدد من المواطنين حول مدى حفاظهم على تلك العلاقة المقدسة التي كانت بين الجيران في سنوات مضت، إذ اجمع الغالبية على ان العلاقات البشرية بمفهومها العام تلاشت بشكل كبير ومست جميع انواعها، لاسيما علاقة الجار بجاره، رغم محاولة تطبيق مقولة "اختيار الجار قبل الدار"، الا أن ذلك لم يعد سهل المنال، وفق ما اكده الكثيرون. تحدث الحاج موسى من بلدية باش جراح، سبعيني، عن تلك العلاقة التي كانت تميز الاحياء الشعبية التي لم يعد، حسبه، من الممكن الحفاظ عليها اليوم بسبب العقليات السائدة، موضحا أن الجار سابقا كان كالأخ، وكان يلعب دور القريب، يعطي اهتماما خاصا لتلك العلاقة، التي كان يطبعها الاحترام، المساعدة، الحماية، الحفاظ على الامانة، وغيرها من الصفات الطيبة، لدرجة كانت الاساءة للجار بمثابة الجريمة ووصمة عار على صاحبها. من جهتها قالت سميرة من نفس الحي: "حقيقة كانت علاقة الجيرة سابقا مختلفة تماما على ما هي عليه اليوم"، وذكرت أن أمها آنذاك كانت تتفقد جارتها تقريبا كل يوم للسؤال عنها وكانت تربط نساء العمارة علاقة صداقة جميلة، يلتقون في كل مرة في بيت معين عند خروج ازواجهن للعمل، وكانت من أشهر ميزات تلك العلاقة تبادل الاطباق بين الجيران، وحتى بعض مقادير تحضير الأكل، ولم يكن هناك مشكل في طلب الملح أو الخبز او الحليب او حتى القليل من الزيت او السكر او غيرها من الاشياء، وكان للجار حقه من حلوى العيد أو حتى لحم عيد الأضحى المبارك، وكانت تلك السلوكيات تتم بكل اريحية وبدون أي وسواس او خوف او مضايقة و غير ذلك، بل كانت تتم بكل سرور. اما وسام فأوضحت أن بعض تفاصيل تلك العلاقة لا تزال راسخة لديها خلال مناسبة مولد النبوي الشريف، اين تلتقي النساء وسط البناية حيث تستعرض كل جارة صحنها المزين من "الطمينة"، ويبقين جالسات هناك الى حين ساعات متأخرة من الليل، في حين كان الازواج يجلسون في الشارع لتأخذ النسوة راحتهن. عبد الحكيم بدوره تأسف لما آلت اليه تلك العلاقة المقدسة، وتلاشيها بسبب الذهنيات السائدة اليوم وقال: "إن الجار سابقا كانت له قيمة خاصة، ولم تكن تلك العلاقة تحددها أو تصنفها الماديات، بل كان يكفي ان يكون هناك علاقة جيرة بحكم موقع السكن، كانت تتطور تلك العلاقة تلقائيا وبكل سلاسة، وكان يميزها احترام خاص، وكان الصغير يحترم الكبير والكبير يحترم الصغير، وكان دائما ما يعطى الحق لكبير السن، وإن اشتكى مثلا كبير سن من طفل بسبب سلوك معين، سوف يعطى الحق للكبير مهما كانت الوضعية، إلا أن اليوم كل ذلك التفكير تلاشى بل وطغت الانانية، وأصبح الجميع يغلق بابه امام جاره بسبب حكايات وسلوكيات بعض الجيران، اذ تجد البعض يعامل جاره بطريقة سيئة والبعض الاخر لا يحسن اليه، بل وارتفعت حالات السرقة وحتى السحر وغيرها من المشاكل التي تنغص راحة السكان. الاحسان للجار واجب حول هذا الموضوع كان ل"المساء" لقاء مع الإمام محمد لعزوني، الذي حذر من تلاشي تلك العلاقات وشدد على أن للجار حق على جاره، وواجب الاحسان اليه وكف الأذى عنه، ويكون الأذى بمختلف انواعه حتى وإن كان بسيطا كرمي القمامة أو ازعاجه بالصوت، فما بالك إن كانت الاساءة عظيمة كالسرقة، أو الضرب أو السب، أو حتى أعمال السحر او غير ذلك من السلوكيات المسيئة للجار. واضاف أن نصوص القرآن الكريم و السنة توصي بالجار، فقد أوصى الله تعالى بالإحسان الى الجار في سورة النساء لقوله تعالى: "وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، كما شدد الرسول عليه الصلاة والسلام على حق الجار، وقال: "مَن كانَ يُؤْمِنُ بالله والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ". وقال الإمام أن فتور تلك العلاقة بين الجيران تعود الى المشاكل الاجتماعية والهموم ومشاغل الحياة التي يعيشها الفرد اليوم، والتي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، واصبحت تلهي الجار عن جاره، واختفت زيارات الجار والاطمئنان عليه والسؤال عنه إن كان مريضا او محتاجا. وأشار الإمام الى أن تلك العلاقات فقدت روحها وخلت من الحيوية وضاعت قدسيتها واصبحت مقولة اختيار الجار قبل الدار ضربا من الماضي، وغابت بسبب مشاكل عديدة والتفكير الأناني والخوف والقلق من المشاكل التي قد تنشب بين الجيران لتلك الأسباب، فأصبح يتم تفاديها من الأساس، وهذا أمر خاطئ بل وبالغ الخطورة في ديننا الحنيف بل يجب مراجعة أنفسنا وتصحيح سلوكياتنا للعيش بما يمليه علينا ديننا وكذا عادات وتقاليد اجدادنا.