في عزّ وباء كورونا الذي حصد أرواح رُبع مليون من البشر في ظرف أربعة أشهر وكان يُفترض أن يدفع العاقلَ إلى مراجعة نفسه وتصحيح سلوكه والكفّ عن الاعتزاز بالإثم.. وفي رمضان المعظّم؛ شهر الإنابة إلى الله والتوبة والانتصارات التاريخية المجيدة، أقدمت إحدى القنوات على عرض مسلسلين أثارا ضجّة كبيرة، لأنهما ببساطة يتنكّران لوجود فلسطين وقضيّتها، ويحمّلانها مسؤولية "ضياع العرب"، ويروِّجان للتطبيع مع الكيان الصهيوني بشكل سافر، حتى أنّ أحد المسلسلين يصف الإسرائيلي ب"الشقيق"! وبالموازاة، عاد الذبابُ الإلكتروني (بدول التطبيع) لشنّ حملةٍ جديدة على الفلسطينيين فوصفهم ب"الأعداء" و"ناكري الجميل"، واتهمهم ببيع أراضيهم للصهاينة، وأصدر هاشتاغ "فلسطين ليست قضيتي"، وتجنّد إعلامُ الكراهية لمناصرة المرجفين، حتى أنّ صحفيا متصهْينا بدت البغضاء من فيه، فاتّهم رئيسَ وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو بالجبن لأنه "لم يقُم بإحراق الفلسطينيين وتخليص العالم منهم مع أنّ الأسلحة مكدّسةٌ عنده"! المسلسلان اللذان أنتجتهما عدة أطراف وحظيا بحفاوةٍ صهيونية كبيرة، يُعدّان انعكاسا حقيقيا للتطور الخطير في السنوات الأخيرة؛ فلأول مرة تخرج العلاقات بين بعض الدول والكيان الصهيوني من السرّ إلى العلن، ويجري استقبال رئيس وزراء العدو وعدد من وزرائه وفرقٍ رياضية واقتصادية وطبّية وغيرها، وقد وصل الأمر إلى الحديث عن تحالف عسكري… لكن يبدو أنّ كلّ ذلك لم يكفِ، وهاهي "النخبة الفنية" تدخل مضمار الهرولة بدورها وتقدّم مسلسلين يروّجان للتطبيع مع الاحتلال قصد تسويقه للشعوب أيضاً، بدل أن يبقى مقتصرا على بعض الأنظمة.. ولأنّ بوصلة الشعوب دائما تتّجه إلى فلسطين، قضيتها الأولى، وإن تخلّت عنها الأنظمة و"النخب" الثقافية والفنية والإعلامية المستلبة؛ فقد شهدنا انتفاضة شعبية مبارَكة لدى عدد من الشعوب، وردّت الهجمة التطبيعية التي ارتدت ثوب الفنّ ب"هاشتاغين" هما "فلسطين قضيّتي" و"مليونية ضدّ التطبيع"، وهو ما يؤكّد أن الشعوب لا تزال حيّة تستعصى على الترويض وترفض تخديرَها وتزييف وعيها وتشويه تاريخها، ودفعَها إلى التخلي عن ثوابتها ومبادئها، وفي مقدِّمتها القضية الفلسطينية وقبلة المسلمين الأولى. حاولت "النخب" الإعلامية والسياسية والفنية بدورها، في عدد من البلدان، تسويق التطبيع ودفع الشعوب إلى نسيان القضية الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد في17 سبتمبر 1978، لكن بعد مرور 42 سنة كاملة، اشتدّ التعاطف مع القضية وأصبحت الجماهير تتغنى بها في مدرّجات الملاعب.. وفي رمضان الجاري، قدّم الشرفاء مسلسل "النهاية" الذي يصوِّر كيفية تحرير العرب لفلسطين وزوال الكيان الصهيوني وهروب المستوطنين وعودتهم إلى الدول التي جاؤوا منها. أليس هذا مثالا صارخا على أنّ محاولات تسويق خيانة فلسطين وبيع الأقصى ستكون نهايتها الفشل الذريع لأن ضمائر الجماهير العربية لا تزال حيّة ترفض كل محاولات كيّ الوعي وتزييف الحقائق؟ هي محاولاتٌ عبثية إذن ولا طائل منها على مستوى الشعوب العربية، لكنّ مضارَّها تكمن في تبنّيها للرواية الصهيونية للصراع، ما يمنح الكيانَ اللقيط فرصةً ثمينة لتوظيفها عالمياً على طريقة "وشهد شاهدٌ من أهلها"، وقد فعل، كما أنها تمنحه الضوءَ الأخضر لارتكاب المزيد من المجازر بحقّ الفلسطينيين وضمّ المزيد من أراضيهم تطبيقا ل"صفقة القرن" التي يروّج لها المتصهينون العرب، لذلك ينبغي التنديد بهذه الأعمال "الفنية" البغيضة التي تسوِّق الخيانة وخطاب الكراهية ضدّ الأشقاء الفلسطينيين وتحرِّض عليهم.. لقد ظهرت حقيقة هؤلاء المتصهينين جليّة بعد عقودٍ من التظاهر بعكسها "أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يُخرج الله أضغانهم".