يحتوي التراث الشعبي الجزائري على عدة ظواهر مسرحية :مثل شكل القوال والحلقة، ومثل خيال الظل والقراقوز، وغيرها من الأشكال الاحتفالية في مختلف المناسبات الدينية والاجتماعية. غير أن هذه الأشكال وإن كانت غنية بالفرجة والمتعة، إلا أنها لم تتطور لتصبح شكلا مسرحيا له أصوله وقواعده على غرار المسرح الأوروبي الذي كان موجودا في الجزائر تحت إشراف الإدارة الاستعمارية الفرنسية، ولكن هذا المسرح أيضا لم يؤثر في الثقافة الجزائرية لأنه كان مسرحا ميتروبوليا خادما للسياسة الاستعمارية في أرض الجزائر. فكان لزاما انتظار ولادة المسرح الجزائري حتى العشرينات من القرن الماضي، حتى يتأسس تحت ظلال الحركة الوطنية، وبفضل تلك الزيارات التي قامت بها بعض الفرق المسرحية العربية للجزائر مثل فرقة جورج أبيض سنة 1921. الأمر الذي شجع الجزائريين على تأسيس جمعيات وفرق مسرحية استطاعت بعد جهود متواصلة استنبات فن المسرح بشكله الأوروبي في التربة الجزائرية، وذلك بداية من عام 1926 حيث يعد سلالي علي المدعو علالو ومحي الدين باش تارزي ورشيد قسنطيني من أبرز رواد المسرح الجزائري الأوائل. و قد تميز المسرح الجزائري منذ تأسيسه بالطابع الشعبي، وتأثره الواضح بالتراث،كما تميز في مضامينه وأهدافه بإصلاح المجتمع ومقاومة الاستعمار الفرنسي، حتى أن قادة الثورة قاموا بإنشاء ما عرف بالفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني عام 1958 بتونس أوكلت لها مهمة التعريف بالقضية الوطنية الجزائرية للرأي العام العالمي وهي الفرقة التي أنتجت 04 أربعة مسرحيات ثورية قدمتها في عدة بلدان صديقة داعمة لقضية الشعب الجزائري في مكافحته للاستعمار الفرنسي. و بعد استقلال الجزائر عام 1962، كان الحدث التاريخي البارز في الساحة المسرحية إنما يتمثل في صدور المرسوم رقم 63-12 المؤرخ في 08 جانفي 1963 المتعلق بتنظيم المسرح الوطني الجزائري بوصفه المشرف على جميع النشاطات الثقافية والفنية عبر كامل التراب الوطني. حيث تم إثراء الحركة المسرحية المحترفة بعشرات العروض على يد أعلام مسرحيين كبار من أمثال مصطفى كاتب وعبد القادر ولد عبد الرحمان كاكي وعبد الحليم رايس، كما أثريت الحركة المسرحية الهاوية بفضل مسيرة مهرجان مسرح الهواة بمستغانم منذ عام 1967. و مع تطبيق مبدأ اللامركزية صدر الأمر رقم 70-38 المؤرخ في 12 جوان 1970، وبموجبه تم إعادة تنظيم المسرح الوطني الجزائري ليقدم عروضه داخل الجزائر وخارجها، حيث أصبح سفير الجزائر في الميدان الثقافي. وقد انتعش المسرح الجزائري في هذه المرحلة خاصة بعد سنة 1973 حيث صدرت أربعة مراسيم تم بموجبها توسيع مجال الحركة المسرحية المحترفة لتشمل أكبر المدن الجزائرية، وذلك من خلال إنشاء أربعة مسارح جهوية في كل من وهران وعنابة وسيدي بلعباس وقسنطينة، وهي المسارح التي استفادت كثيرا من الكفاءات المسرحية المتخرجة من المعهد الوطني للفنون الدرامية ببرج الكيفان الذي أصبح يسمى اليوم المعهد العالي لحرف فنون العرض والسمعي البصري. و لقد نهض المسرح الجزائري بمهامه الفنية والثقافية حيث انخرط في الحياة العامة للمجتمع مشخصا همومه ومعاناته ومعبرا عن طموحاته وأحلامه، ويعد كاتب ياسين وعبد القادر علولة من أهم أعلام المسرح الجزائري التي شرفت تلك المسارح الجهوية، وصنعت الفترة الذهبية للحركة المسرحية الجزائرية المحترفة. وهذا قبل أن تتأثر تلك الحركة بالمأساة الوطنية التي شهدتها الجزائر في التسعينات من القرن الماضي حيث اختطف الموت أبرز رجالاته،كما اغتال الإرهاب الهمجي بعض أعلامه من أمثال المرحومين عبد القادر علولة وعزالدين مجوبي الذي قتل غدرا على عتبة المسرح الوطني وهو يشغل منصب مديره العام، مما أدى إلى إغلاقه وإعادة ترميمه قبل فتحه من جديد سنة 2000، حيث عادت الحياة الثقافية إلى عطائها فعاد المسرح إلى جمهوره بتنظيم الشهر المسرحي وتحضير سنة الجزائر في فرنسا العام 2002،كما تأسست مسارح جهوية أخرى في أهم المدن الجزائرية بلغت اليوم 15 خمسة عشرة مسرحا ينتج كل واحد منها سنويا على الأقل عرضا واحدا للأطفال وما لا يقل عن 02 مسرحيتين للكبار صارت تتنافس سنويا على جوائز المهرجان الوطني للمسرح المحترف المنظم على مستوى المسرح الوطني الجزائري الذي يعد أهم واجهة مسرحية جزائرية وأكثرها نشاطا بإنتاج حوالي 150 مسرحية وتقديم ما يزيد عن 3000 ثلاثة آلاف عرض مسرحي منذ تأسيسه إلى اليوم. و الحقيقة فإن النشاط المسرحي الجزائري الموزع ما بين محترف وهاو يستقطب جمهورا يزداد ويتناقص بحسب الفترات وحسب جودة العروض المقدمة في مختلف الفضاءات منها : – قاعات العروض المسارح المحترفة وهي في العموم مسارح كبيرة وجميلة موروثة عن الاستعمار الفرنسي تم بناؤها على النمط الإيطالي على شكل أوبرا. – قاعات قصور ودور الثقافة المنتشرة في مختلف المدن الجزائرية الكبرى التي تفوق 50 الخمسين مدينة. – قاعات المراكز الثقافية ودور الشباب المنتشرة بالمئات في مختلف المدن والقرى والأحياء السكنية والمناطق العمرانية. و تعد تلك العروض المسرحية واجهة وطنية ودولية لما يجري في أرض الجزائر من حراك ثقافي خلاق، حيث إن العروض المتوجة في مختلف المهرجانات الوطنية على غرار مهرجان المسرح المحترف ومهرجان مسرح الهواة عادة ما يتم اختيارها للمشاركة في مختلف المهرجانات المسرحية العربية والأجنبية، وما أكثر ما توجت تلك العروض بجوائز دولية، على غرار تلك التتويجات التي حققها المسرح الوطني الجزائري على يد مسرحيين كبارا من أمثال المخرج زياني الشريف عياد الذي توج بعدد من الجوائز منها الجائزة الكبرى لمهرجان قرطاج الدولي / تونس بمسرحية : " الشهداء يعودون هذا الأسبوع " والفنان القدير امحمد بن قطاف، كما نذكر المسرحي الكبير عبد القادر علولة الذي صنع مجد المسرح الجزائري بتوظيفه شكل القوال والحلقة المستلهم من التراث الشعبي الجزائري خاصة في ثلاثيته الشهيرة : " الأقوال " و" الأجواد " و" اللثام " وهي التجربة المسرحية التي نالت شهرة عالمية. و مما يميز المسرح الجزائري أنه نشأ وتطور على يد مواهب شعبية بعيدا عن النخب الأكاديمية، مما جعله بعيدا عن اهتمامات المعاهد والأقسام الجامعية المتخصصة حتى السنوات الأخيرة حيث أصبحت الجامعة الجزائرية تولي اهتماما للمسرح، وتؤسس كليات للفنون وأقسام لدراسة الفنون الدرامية بالإضافة إلى تخصيص عدة شعب وتخصصات ومسارات في مجال المسرح، وكذا تشجيع الفرق الجامعية ودعمها للمشاركة فيما يعرف بمهرجان المسرح الجامعي، كما قدمت عدة أطروحات ورسائل بحث في قضايا المسرح، ونشرت عدة بحوث ومؤلفات تتناول الظاهرة المسرحية، وهي كلها نشاطات عززت من مكانة فن المسرح في المشهد الثقافي الجزائري الذي تعزز أكثر بتأسيس بعض المهرجانات المسرحية الأخرى في العشرية الأخيرة كمهرجان المسرح الفكاهي في المدية ومهرجان المسرح الأمازيغي في باتنة ومهرجان المسرح النسوي بعنابة والمهرجان الدولي للمسرح في بجاية إضافة إلى عدد من الأيام المسرحية المقامة هنا وهناك والمخصصة لمسرح الكبار ولمسرح الطفل أثناء العطل المدرسية ومنها مهرجان مسرح الطفل في مدينة خنشلة،بل إن المسرح قد اقتحم مدن الجنوب الجزائري حيث الصحاري والعطش للفعل الثقافي وللفرجة المسرحية. و تجذر الإشارة في هذا المقام إلى أن المسرح الجزائري الذي نشأ مقاوما للاستعمار متشبعا بمبادئ الثورة التحريرية قد ظل خلال مسيرته بمنأى عن أي رقابة سياسية،و قد استفاد المسرح الجزائري من هذه الحرية فانتهج لنفسه خطا إبداعيا متحررا جعله مجالا خصبا لتقديم تجارب متعددة فيها ما هو متأثر بالتيارات المسرحية العالمية كمسرح الطريقة الإيطالية،أو المسرح الملحمي لبرتولد بريخت، وفيها ما هو مستلهم من التراث الشعبي مثل تجربة مسرح القوال والحلقة، وقد تفاعلت تلك التيارات كلها ضمن تجارب مسرحية متنوعة توجه لمختلف الفئات العمرية كبارا وصغارا ضمن طبوع ميلودرامية تحقق المتعة والفائدة بعيدا عن أي طابع تجاري استهلاكي لأن المسرح الجزائري في عمومه هادف ملتزم بقضايا المجتمع يتناول مختلف المواضيع السياسية والاجتماعية والتاريخية مراهنا على خلق الوعي لدى الملتقي وتحريضه على تغيير واقعه المعيش. و قد تأثر المسرح الجزائري في السنوات الأخيرة كغيره من مسارح العالم بظاهرة مسرح ما بعد الدراما حيث تراجع حضور النص المكتمل، ليفسح المجال لطغيان السينوغرافيا والاستخدام المفرط للوسائط السمعية البصرية فسيطر الشكل على المضمون وحضرت الفرجة الممتعة على حساب الرسالة الهادفة، وذلك ما نجده في عديد التجارب المسرحية الشبابية الداعية لأولوية الجمال الفني وصناعة الفرجة. إن المسرح الجزائري اليوم في حاجة إلى استعادة ملامحه وبصماته ممثلة في معالمه وأعلامه، إنه في مواجهة هذا الارتباك يحتاج إلى استلهام مصادر قوته وثروته، يمكنه أن يغرف من التجارب التي شكلت منابعه الكبرى وصنعت مسيرته الحافلة بالمكاسب والتتويجات وتحيات الاعتراف أيضا. تجربة مصطفى كاتب – رحمه الله – مثلا في تأسيس مسرح نضالي شعبي يستجيب لتطلعات البسطاء ويعبر عن مختلف القضايا المعيشة بواقعية وصدق، فالمسرح الجزائري في أصل ولادته كان شعبيا بمعنى أن الكوادر التي أطرت فعالياته لم تكن من النخب الجامعية، بل كانت من رحم الشعب البسيط المحدود التعلم على غرار جيل الرواد :- رشيد قسنطيني – علالو – داهمون – باشتارزي – محمد توري – رويشد… وغيرهم من رجال المسرح الموهوبين، أسلاف هذه المواهب الشابة اليوم التي نجدها خاصة في المسرح الهاوي طامحة إلى النهوض بالمسرح بواسطة إمكانيات مادية بسيطة جدا. فوحدها الموهبة هي الرصيد. – يمكن للمسرح الجزائري وهو يواجه إشكالية النصوص، أن يستأنس بتجربة عبد القادر ولد عبد الرحمان كاكي في الاقتباس من المسرح العالمي وتطعيمها بحكايات من التراث الجزائري كما فعل في مسرحيات » القراب والصالحين « و» ديوان القراقوز« و» كل واحد وحكمه « وغيرها من المسرحيات التي امتزج فيها الضحك والقراقوز والمهرجون والنقد والمزاح بأسلوب جعل كثيرا من النقاد ينعتون ولد عبد الرحمان كاكي بكونه برتولد بريخت العرب. – بإمكان المسرح الجزائري أيضا أن يسترشد بتجربة المرحوم: عبد القادر علولة في استلهام وتوظيف فعاليات وأشكال التعبير المسرحي في التراث الشعبي الجزائري، وهو الاتجاه الذي وضع المسرح الجزائري في طليعة المسرح العربي، بعد تتويج كل من: » الأجواد « و» اللثام « بجائزتي مهرجان قرطاج الدولي في الثمانينيات، ومن دون شك فإن تجربة استلهام وتوظيف أشكال التراث في حاجة اليوم إلى من يحييها ويطورها بعد استشهاد أكبر مطبق لها المرحوم علولة، رائد مسرح المونولوج أيضا عندما أدى ببراعة مونولوج: » حمق سليم « والملاحظ أن تجربته تلك قد ألقت اليوم بظلالها على الكثير من التجارب المسرحية التي تمثلت وتبنت مسرح الوان مان شو، مثل: دليلة حليلو – المرحوم عز الدين مجوبي – صونيا – فلاق – دكار – كعوان – وحتى أحميدة العياشي في وقت من الأوقات. – تجربة أخرى تشكل معلما هاما ما يمكن للمسرح الجزائري اليوم أن يشرب من نبعها وهي تجربة الأديب الكبير والمسرحي القدير: كاتب ياسين – رحمه الله – الذي عرف بمسرحية السياسي، ملتزما في ذلك بقضايا المضطهدين، مبرزا كفاح المستضعفين على غرار مسرحياته: » محمد خذ حقيبتك « و» الجثة المطوقة « و» فلسطين المخدوعة « و» الرجل ذو النعل المطاطي « وغيرها من المسرحيات التي جنحت للتوثيق وتميزت باستخدام الفكاهة الشعبية وإباحة الإرتجال للممثلين محطما بذلك فكرة قدسية النص، فالمسرحية تعد مشروعا يجري تطويره واستكماله على الركح. ومن وحي هذه التجربة ولمواجهة أزمة النصوص اتجهت الكثير من الفرق الهاوية وحتى المسارح المحترفة مثل مسرح قسنطينة الجهوي إلى فكرة التأليف الجماعي للنص وقدمت عروضا ناجحة رغم أن النقد المعياري لبعض الدارسين لم يستحسن هذه الفكرة. لقد أثرت تجربة " كاتب ياسين " على توجهات الكثير من المسرحيين مثل فرقة " الدبزة " ومسرحيات " سليمان بن عيسى " مثل " بابور غرق " وغيرها. وما أحوجنا اليوم إلى من يبعث الحياة في مسرح كاتب ياسين ويطور خصوصياته. – المعلم الآخر الذي يمكن الإشارة إليه في هذه العجالة، هو ذلك المسرح الأدبي المكتوب باللغة العربية الفصحى، والذي يستقي مرجعيته من مسرح الأديب الشهيد: أحمد رضا حوحو ونكتشف تأثيراته في نصوص أحمد بودشيشة وعز الدين جلاوجي وهو في العموم مسرح كثيرا ما يرتبط بفضاء المدرسة. ولسنا في حاجة إلى التذكير هنا بما للمسرح المدرسي من أهمية باعتباره رافدا أساسيا في تطوير الحركة المسرحية حتى أن المسرح في دولة البحرين مثلا نشأ وظل إلى اليوم مدرسيا. واعتقد أن واحدة من آليات النهوض بالمسرح الجزائري تتمثل في اعتماد النشاط المسرحي كمادة: في المنظومة التربوية. فالفضاء الطبيعي لنهضة مسرح الطفل مثلا هو فضاء المدرسة قبل فضاءات دور الشباب والمراكز الثقافية والمسارح عامة. – التجربة الأخيرة التي يمكن أن تكون رافدا هاما هي تجربة مسرح الهواة باعتباره مصدرا لتخريج الطاقات والمواهب وباعتباره أيضا أحسن فضاء للتجريب. ولأن المسرح فن إبداعي فهو يحتاج إلى مغامرات التجريب إذ لا شيء ثابت في الإبداع الثابت الوحيد هو المتغير، وما أكثر ما قدم المسرح الهاوي الجزائري من تجارب جديدة أكد بها حضوره وتجدده وأغنى بها الحركة المسرحية المحترفة. إن تشكيل ريبرتوار المسرح الجزائري من شأنه رسم خريطة الطريق لتطوير الحركة المسرحية اليوم والنهوض بها، وإن المعالم والأعلام هما الضفتان في هذه الطريق.