يرى الأستاذ الدكتور أحسن تليلاني أن الاحتفال باليوم العالمي للمسرح الموافق لتاريخ 27 مارس من كل سنة، عيدا مسرحيا تضاء فيه المسارح اعترافا بشعرية الفرجة وقدرتها على مسايرة خطوات الإنسان نحو السعادة، معتبرًا إياه فرصة لمسرحنا للتأمل والمساءلة في المنجز المسرحي الوطني الذي سيحتفل العام القادم بمرور مئة سنة على بدايته، ومساءلة هذا المنجز المليء بالتجارب والتيارات المسرحية وعشرات الأعلام من صناع الفرجة المسرحية. زينة. ب وتابع تليلاني خلال تنشيطه للعدد السابع من منتدى المسرح الوطني الجزائري حول موضوع “المنجز في المسرح الجزائري: أسئلة وتأملات”، عبر صفحة المنتدى ب”فيسبوك”، أن زيارات الفرق المسرحية العربية للجزائر مثل فرقة جورج أبيض سنة 1921، شجعت الجزائريين على تأسيس جمعيات وفرق استطاعت استنبات فن المسرح بشكله الأوروبي في التربة الجزائرية، وذلك بداية من عام 1926 حيث يعد علي سلالي المدعو علالو ومحي الدين بشطارزي ورشيد قسنطيني من أبرز الرواد الأوائل. وواصل الأستاذ بأن المسرح الجزائري قد تميز منذ تأسيسه بالطابع الشعبي وتأثره بالتراث، وكان يهدف لإصلاح المجتمع ومقاومة الاستعمار، حتى أن قادة الثورة قاموا بإنشاء الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني عام 1958 بتونس مهمتها التعريف بالقضية الوطنية للرأي العام العالمي، وبعد استقلال الجزائر -يضيف- صدر المرسوم رقم 63-12 المؤرخ في 08 جانفي 1963 المتعلق بتنظيم المسرح الوطني بوصفه المشرف على جميع النشاطات الثقافية والفنية عبر التراب الوطني، حيث تم إثراء الحركة المسرحية المحترفة بعشرات العروض على يد مسرحيين كبار أمثال مصطفى كاتب وعبد القادر ولد عبد الرحمان كاكي وعبد الحليم رايس، كما أثريت الحركة المسرحية الهاوية بفضل مسيرة مهرجان مسرح الهواة بمستغانم منذ عام 1967، ومع تطبيق مبدأ اللامركزية -يشير- صدر الأمر رقم 70-38 المؤرخ في 12 جوان 1970، وبموجبه تمت إعادة تنظيم المسرح الوطني ليقدم عروضه داخل الجزائر وخارجها، حيث أصبح السفير في الميدان الثقافي، وقد انتعش مسرحنا في هذه المرحلة خاصة بعد سنة 1973 حيث صدرت أربعة مراسيم توسع بعدها مجال الحركة المسرحية المحترفة لتشمل أكبر المدن الوطنية، وذلك من خلال إنشاء أربعة مسارح جهوية في وهران وعنابة وسيدي بلعباس وقسنطينة. المسرح وليد المجتمع وأضاف تليلالي أن المسرح الجزائري قد نهض بمهامه الفنية والثقافية حيث انخرط في الحياة العامة للمجتمع مشخصا همومه ومعاناته ومعبرا عن طموحاته وأحلامه، ويعد كاتب ياسين وعبد القادر علولة من أهم الأسماء التي شرفت تلك المسارح الجهوية، وصنعت الفترة الذهبية للحركة المسرحية الجزائرية المحترفة، قبل أن تتأثر تلك الحركة بالمأساة التي شهدتها الجزائر في التسعينات حيث اغتال الإرهاب الهمجي المرحومين عبد القادر علولة وعز الدين مجوبي الذي قتل غدرا على عتبة المسرح الوطني وهو يشغل منصب مديره العام، مما أدى إلى إغلاقه وإعادة ترميمه قبل فتحه من جديد سنة 2000، فعاد المسرح إلى جمهوره بتنظيم الشهر المسرحي وتحضير سنة الجزائر في فرنسا العام 2002، كما تأسست مسارح جهوية أخرى بلغت اليوم 17 مسرحا ينتج كل واحد منها سنويا على الأقل عرضا واحدا للأطفال وما لا يقل عن 02 مسرحيتين للكبار صارت تتنافس سنويا على جوائز المهرجان الوطني للمسرح المحترف المنظم على مستوى مسرح بشطارزي الذي يعد أهم واجهة مسرحية جزائرية وأكثرها نشاطا، والحقيقة -يقول- فإن النشاط المسرحي الموزع ما بين محترف وهاو يستقطب جمهورا يزداد ويتناقص بحسب الفترات وحسب جودة العروض المقدمة في مختلف الفضاءات، مؤكدا أن تلك العروض المسرحية واجهة وطنية ودولية لما يجري في الجزائر من حراك ثقافي، فتلك المتوجة في المهرجانات الوطنية عادة ما يتم اختيارها للمشاركة في المهرجانات المسرحية العربية والأجنبية، مثل المخرج زياني الشريف عياد الذي حاز على الجائزة الكبرى لمهرجان قرطاج الدولي بتونس بمسرحية “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” وكذلك المسرحي عبد القادر علولة الذي وظف شكل القوال والحلقة المستلهم من التراث الشعبي الجزائري، ومحمد شرشال الذي توج هذا العام بجائزة المهرجان العربي للمسرح. وأشار المتحدث ذاته، أن المسرح الجزائري قد نشأ وتطور على يد مواهب شعبية بعيدا عن النخب الأكاديمية، مما جعله بعيدا عن اهتمامات المعاهد والأقسام الجامعية المتخصصة حتى السنوات الأخيرة حيث أصبحت الجامعة الجزائرية تولي اهتماما للمسرح وتؤسس كليات للفنون وأقسام لدراسة الفنون الدرامية بالإضافة إلى تخصيص عدة شعب وتخصصات ومسارات في مجال المسرح وكذا تشجيع الفرق الجامعية ودعمها للمشاركة فيما يعرف بمهرجان المسرح الجامعي، كما قدمت عدة أطروحات ورسائل بحث في قضايا المسرح ونشرت عدة بحوث ومؤلفات تتناول الظاهرة المسرحية، وهي كلها نشاطات عززت من مكانة فن المسرح في المشهد الثقافي الجزائري الذي تعزز أكثر بتأسيس بعض المهرجانات المسرحية الأخرى في العشرية الأخيرة كمهرجان المسرح الفكاهي في المدية ومهرجان المسرح الأمازيغي في باتنة ومهرجان المسرح النسوي بعنابة والمهرجان الدولي للمسرح في بجاية، إضافة إلى عدد من الأيام المسرحية المقامة هنا وهناك والمخصصة لمسرح الكبار ولمسرح الطفل أثناء العطل المدرسية ومنها مهرجان مسرح الطفل في مدينة خنشلة، بل إن المسرح قد اقتحم مدن الجنوب الجزائري حيث الصحاري والعطش للفعل الثقافي وللفرجة المسرحية. مسرحنا في خط إبداعي متحرر وأشار منشط المنتدى في عدده السابع، إلى أن المسرح الجزائري الذي نشأ مقاوما للاستعمار متشبعا بمبادئ الثورة التحريرية قد ظل خلال مسيرته بمنأى عن أي رقابة سياسية وقد استفاد من هذه الحرية فانتهج لنفسه خطا إبداعيا متحررا جعله مجالا خصبا لتقديم تجارب متعددة المتعلقة بالتيارات العالمية والتراث الشعبي، وقد تفاعلت تلك التيارات ضمن تجارب متنوعة توجه لمختلف الفئات العمرية ضمن طبوع ميلودرامية تحقق المتعة والفائدة بعيدا عن الطابع التجاري الاستهلاكي لأن مسرحنا في عمومه هادف ملتزم بقضايا المجتمع السياسية والاجتماعية والتاريخية مراهنا على خلق الوعي لدى الملتقي وتحريضه على تغيير واقعه المعاش، مشيرا من جانب آخر أنه قد تأثر في السنوات الأخيرة كغيره من مسارح العالم بظاهرة مسرح ما بعد الدراما حيث تراجع حضور النص الأدبي المكتمل ليفسح المجال لطغيان السينوغرافيا والاستخدام المفرط للوسائط السمعية البصرية فسيطر الشكل على المضمون وحضرت الفرجة الممتعة، وذلك ما نجده في التجارب الشبابية الداعية لأولوية الجمال الفني وصناعة الفرجة. بالتالي -يقول تليلالي- أن المسرح يتطور مع تطور الحياة ومسرحنا واكب كل التحولات فتأثر بها وأثر فيها، وهذا ما يبين قوة المسرح في صناعة الحياة بمواجهة التخلف والظلامية، أما في مطلع هذا القرن فالكل صار يغني على ليلاه، صحيح -يضيف- أن الرواد كانت لهم مساهمات قوية لأنهم كانوا يعملون ضمن شروط النهضة إلا أن المسرحيون اليوم يعملون في ظروف صعبة جدا ويواجهون غياب الديمقراطية وقلة الإمكانيات ومزاحمة أشكال ثقافية جديدة الإبداعات المسرحية كالتلفزيون مثلا ومع ذلك فشباب المسرح يعملون حتى وهم يواجهون وباء الكورونا مثلما نفعل نحن من خلال هذه النشاطات عبر الفضاءات الافتراضية. وحسب تصريحاته في النقاش ذاته، كشف تليلالي أنه عضو في فريق بحث أوروبي ومنذ سنوات يشتغلون على موضوع المسرح العربي المهاجر وقد تكفل شخصيا بجانب المسرح الجزائري وله في هذا المجال كتاب يضم عشر مسرحيات ترجمها من الفرنسية للعربية لكتاب مسرحيين جزائريين بعنوان “مختارات من المسرح الجزائري الجديد” وفيه الكثير من البصمات المسرحية الممتازة، مضيفا أن مسرحنا قد صنع الكثير من أمجاده خارج الوطن سواء على يد الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني التي كانت في تونس أو على يد كاتب ياسين في أوروبا أو اليوم على يد فطيمة قالير الكاتبة السكيكدية العالمية ونفس الشيء بالنسبة للعروض فمنذ سنوات مثلا قدم مسرح أم البواقي مسرحية بعنوان “أمسية في باريس” لكاتب جزائري يعيش في طوكيو باليابان إسمه مجيد بن الشيخ وهي المسرحية الوحيدة فيما أعلم التي شخصت مظاهرات 17 أكتوبر في فرنسا. من جانب آخر أكد تليلالي، أن الجماليات المسرحية لا تظهر من الفراغ، بل تخضع لكثير من المؤثرات التاريخية والوجودية وحتى الفلسفية، مثلا مسرح الثورة والنضال كان نتيجة ظروف تاريخية معينة، ومسرح ما بعد الدراما الذي ظهر في السنوات الأخيرة كان نتيجة تحولات فرضت على صناع الفرجة الاهتمام بالشكل أكثر من المضمون، إذن -يقول- المنهج التاريخي يساعدنا كثيرا في دراسة الظاهرة المسرحية وربطها بأسبابها ومسبباتها ومن ثمة تجلياتها. النخب مقطوعة الصلة بالمجتمع وفي حديثه عن النخب، أكد تليلالي أن نخبنا مقطوعة الصلة بالمجتمع هي في واد والمجتمع في واد، والوضع يتطلب منا الشجاعة في مراجعة أنفسنا والنزول إلى شعبنا لفهمه والسير به، مضيفا أن الإشكالية في نظره كبيرة جدا، والوضعية مؤلمة بالنسبة لنا جميعا، ومع ذلك هناك فنانون عرفوا كيف يتوغلون إلى أعماق الشعب وحققت عروضهم أعلى نسب المشاهدة مثل أعمال أحمد رزاق. في فكرة أخرى يرى تليلالي أن الزمن اليوم قد انتهى بالنسبة لموضوع هوية الفنون في كل البلدان، نحن اليوم في مسرح المثاقفة ومسرح تمازج ثقافات الفرجة، فالمسرح الفرنسي لم يعد فرنسيا خالصا وكذلك الانجليزي والأمريكي، نحن اليوم في عصر العولمة والفرجة صارت تتغذى من كل الثقافات في الشرق والغرب، معتقدا بقوله “العصر الحالي هو للجمال وفقط لذلك ترى طغيان مسرح ما بعد الدراما حيث السينوغرافيا وشعرية المشهد والموسيقى والإضاءة الباهرة المبهرة، إننا في عصر الكورونا، ومثلما وحدنا الخوف والموت بالتأكيد توحدنا الحياة”.