إذا كان الجزائريون يستعيدون كل عام ذكرى استشهاد البطل مصطفى بن بولعيد، وهو الذي ساهم بشكل فعّال في إشعال فتيل الثورة التحريرية من عمق الأوراس، ثورة مهدت لاستعادة حرية الجزائر واستقلالها، بفضل تضحيات خيرة أبناء هذا الوطن الذين أعطوا دروسا في الصمود والكفاح بالسلاح والقلم، إلا أن حادثة استشهاد بن بولعيد لا تزال لغزا محيرا لدى الكثير. يجمع الكثير بأن الشهيد البطل مصطفى بن بولعيد أعطى دروسا حقيقية في التضحية بشبابه وماله وأملاكه، إلا أن ظروف استشهاده لا تزال تثير الكثير من ردود الفعل، ويصفها الكثير باللغز المحير، خصوصا أن مجمل شهادات رفقائه في السلاح تؤكد أنه ذهب ضحية انفجار مذياع تم العثور عليه، وفق سيناريو لجأت إليه المخابرات الفرنسية، ما تسبب في فقدان مفجر الثورة، الأمر الذي خلف فيما بعد أزمة قيادة كبيرة في منطقة الأوراس، بدليل الصراعات التي حدثت فيما بعد بين عاجل عجول وشيحاني بشير، وهو ما أدى إلى تخوين الأول، وتصفية الثاني في ظروف غامضة، وهو نفس المصير الذي عرفه فيما بعد البطل عباس لغرور. ميلاد بطل خطط لمواجهة فرنسا من أعماق الأوراس يعد مصطفى بن بولعيد من مواليد 5 فيفري 1917 بقرية "اينركب" بآريس ولاية باتنة، وتنتمي عائلته إلى عرش "التوابة". حيث تلقى تكوينا تقليديا في حفظ القرآن على أيدي مشايخ منطقته، بعدها التحق بمدرسة الأهالي الابتدائية بباتنة لمواصلة دراسته، ثم انتقل إلى الطور الإعدادي، لكن طموح الفتى وإرادته في تحصيل المزيد من العلوم دفعه إلى الالتحاق بمدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في آريس، وكان يشرف عليها آنذاك مسعود بلعقون والشيخ عمر دردور، وفي بداية 1939 استدعي بن بولعيد لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية وتم تسريحه في 1942 نتيجة الجروح التي أصيب بها ثم تم تجنيده ثانية ما بين 1943 –1944 بخنشلة. وفي هذه الأثناء انخرط بن بولعيد في صفوف حزب الشعب وحركة انتصار الحريات الديمقراطية بآريس تحت قيادة مسعود بلعقون، وقد عرف بالقدرة الكبيرة على التنظيم والنشاط، ويعتبر بن بولعيد من الطلائع الأولى التي انضمت إلى المنظمة السرية بمنطقة الأوراس كما كان من الرواد الأوائل الذين كلفوا بمهمة تكوين نواة هذه المنظمة في الأوراس التي ضمت آنذاك خمس خلايا نشيطة، تقوم بدوريات استطلاعية للتعرف على تضاريس المنطقة لتدبر إمكانية إدخال الأسلحة عن طريق الصحراء. ترتيبات تنظيمية فعّالة لتفجير الثورة وقد كلف بن بولعيد في أكتوبر 1953 بالاتصال بزعيم الحزب مصالي الحاج، وذلك في محاولة لإيجاد حلّ وسط يرضي المركزيين والمصاليين، لكن تعنت مصالي وتمسكه بموقفه أفشل هذا المسعى. وعمل بن بولعيد مجددا على إيجاد مخرج للأزمة التي يتخبط فيها الحزب، من خلال الاتصال بمصالي الحاج في الفترة من 23 إلى 26 فيفري 1954 غير أن جواب هذا الأخير كان بإعلان ميلاد "لجنة الإنقاذ العام" في الشهر الموالي. وفي ظل رفض مصالي الحاج مختلف المقترحات المقدمة له، فقد تم عقد لقاء لجنة 22، في المدنية بالعاصمة. وكان مصطفى بن بولعيد من الذين بادروا إلى هذا الاجتماع رفقة بوضياف وبيطاط وديدوش مراد والعربي بن مهيدي، ونتج عنه تعيين قيادات إدارية في الداخل والخارج، كما تقرّر اسم "جبهة التحرير الوطني" لتضم كل من أراد الدخول للثورة والجهاد لتحرير الوطن، وهو الجناح السياسي للثورة، أما الجناح العسكري فكان جيش التحرير الوطني، وبعد هذه القرارات التي خرج بها اجتماع 22 في المدنية، كان لمصطفى بن بولعيد اجتماع في قرية لقرين (أولاد فاضل بباتنة)، حيث تم سحب بيان أول نوفمبر، وتم تعيين الأفواج وبرمجت العمليات الواجب القيام بها ضد العدو، وقبل ذلك أمر بن بولعيد بإخراج السلاح من المخابئ لتنظيفه. وفي أكتوبر 1954 شرع في توزيع السلاح، حيث سلمت 30 بندقية إلى زيغود يوسف وبن طوبال باسمندو (المنطقة الثانية)، و60 بندقية سلمت لعمر أوعمران ببرج منايل (المنطقة الثالثة)، وقطع أيضا من السلاح أرسلت إلى الخروب وبريكة، كما سلم السلاح لفوج بسكرة وفوج خنشلة الذي ترأسه عباس لغرور. فرّ من سجن الكدية وتعهد بصمود الأوراس وفي يوم 29 أكتوبر 1954، بدأ تجمع المجاهدين، من خلال تنظيم الأفواج، وأسندت للقيادات المهام المطلوب القيام بها ضد العدو في كامل الأوراس (المنطقة الأولى)، وفي ليلة الفاتح نوفمبر 1954 كانت الشرارة الأولى وهوجمت عدة مواقع للعدو تحت قيادة مصطفى بن بولعيد، وجند العدو كل إمكاناته العسكرية والبشرية والمادية لإخماد الثورة في الأوراس، مؤكدا أن ذلك سيكون النهاية الحتمية لكل أعمال "الشغب" كما يصفها العدو، في الوقت الذي تعهد مصطفى بن بولعيد بتحمل منطقة الأوراس لعبء الثورة خاصة في عامها الأول، على أن تواصل انتشارها بشكل واسع نحو كل مناطق الوطن حتى يحدث التوازن وتفعيل عمليات استهداف منشآت ومواقع الاستعمار الفرنسي، وفي 24 جانفي 1955 قرر مصطفى بن بولعيد الذهاب إلى الشرق، في إطار المساعي الرامية لجلب مزيد من السلاح لتدعيم المجاهدين، لكن ألقي عليه القبض في الحدود التونسية الليبية في 12 فيفري 1955، حيث سجن وحوكم بتونس، ثم نقل إلى سجن الكدية بقسنطينة، وحوكم مرة ثانية، وكان قرار المحكمة الحكم بالإعدام. وفي 3 مارس 1955 قدم إلى المحكمة العسكرية بتونس، وحكم عليه بالأعمال الشاقة مدى الحياة يوم 28 مارس من نفس السنة، وبعد 3 أشهر من ذلك حكم عليه بالإعدام بتهمة الإخلال بالنظام العام والتآمر مع جهات أجنبية على أمن فرنسا، ورغم هذه الأحكام، إلا أن مصطفى بن بولعيد تمكن من الفرار بعد شهر من العمل المستمر في الحفر رفقة 10 من رفاقه المجاهدين المحكوم عليهم بالإعدام. وقد تمكن من الفرار يوم 14 نوفمبر 1955 واتجه نحو منطقة الأوراس مرورا بجبل وستيلي بمعية رفيقه المجاهد محمد العيفة، وفي منتصف شهر مارس 1956 أشرف على عقد اجتماع لقادة الناحية الشرقية للأوراس بواد عطاف جنوب غابة بني ملول (الناحية الرابعة كيمل)، وتمت دراسة الحالة النظامية والعسكرية، وخطط الحرب المستقبلية في مواجهة العدو وبطشه. الحاج لخضر حذّر بن بولعيد من مخاطر جهاز الراديو وفي 22 مارس 1956، كان اللقاء مع إطارات الناحية الغربية من الأوراس بالجبل الأزرق، لكن تشاء الأقدار أن يكون آخر لقاء بين القائد ورفاقه في الجهاد، حين غدر به الاستعمار الفرنسي في عملية الجهاز اللاسلكي، وهي العملية التي تصب الكثير من المعطيات أنها دربت من المخابرات الفرنسية، إلا أنها خلفت موجة من الاتهامات استهدفت بالدرجة الأولى القيادي عاجل عجول. وحسب شهادة الرائد مصطفى مراردة، فإن الحاج لخضر قد التقى مصطفى بن بولعيد قبل استشهاده وأخبره هذا الأخير بقصة جهاز الراديو الذي غنموه بعد أن أسقطته طائرة فرنسية في المكان الخاطئ، ففزع الحاج لخضر للأمر وقال له "حذار هذه مكيدة من فرنسا"، فرد بن بولعيد "ونحن سنستعمله في التجسس على فرنسا". وحسب شهادة المجاهدين مصطفى بوستة وعلي بن شايبة، فإن مصطفى بن بولعيد كان ليلة 22 مارس 1956 متمركزا بالجبل الأزرق، حيث دعا لاجتماع خاص ببعض النواحي الغربية والجنوبية في مكان يدعى "تافرنت"، وكان بعض المسبلين قد عثروا قبل ذلك بأيام على جهاز إشارة طويل المدى، وسلموه إلى مسؤول المنطقة المدنية بقرية "نارة" المدعو علي بن باشا الذي سلمه بدوره لجيش التحرير بالناحية التي ستستضيف الاجتماع وهو بلقاسم محمد بن مسعود، وجيء بالجهاز إلى سي مصطفى ففحصه جيدا، وبعد أن عرف خصائصه أمر الجنود بحفظه في مكان آمن، ويغطي هذا الجهاز نحو 200 كلم، ويشغل بالبطاريات، وكان سي مصطفى ينوي تكوين شبكة اتصال لا سلكي تمتد إلى الحدود التونسية. بن شايبة: هكذا انفجر المذياع على بن بولعيد ويروي بن شايبة اللحظات الأخيرة قبل استشهاد مصطفى بن بولعيد وإخوانه قائلا: "كان الوقت بين المغرب والعشاء، وكان الطعام قد نضج، وإذا بعلي بعزي يدخل وبيده البطارية، وكانت من النوع الكبير المعروف في ذلك الوقت، وكانوا أربعة رجال هم عبد الحميد عمراني، علي بعزي، محمود بن عكشة والمساعد الذي هرب من الجيش الفرنسي، وقاموا بوضع رزمتين من المنشور الذي رمته الطائرة الفرنسية ثم وضعوا الجهاز على الرزمتين، وكان سي مصطفى متكئا على جنبه الأيمن ونحن دائرون من حوله ننتظر ما سينطق به الجهاز، بدأ سي علي بعزي بتركيب البطارية ورأيته يربط خيوط الجهاز بها.. ثم بدأ يدير الأزرار واحدا فواحد، حتى إذا وصل إلى الزرين الكبيرين سمعت من الأول منهما عند إدارته "طق"، ثم أدار الثاني وكان هو مفتاح التشغيل وهنا انفجر الجهاز". وقد كان الانفجار رهيبا هز المقر حسب بن شايبة في حدود الساعة السابعة والنصف مساء، واستشهد كل من مصطفى بن بولعيد وعلي بعزي ومحمود بن عكشة وعبد الحميد عمراني وفضيل الجيلاني المدعو أحمد القبايلي، كما جرح ثمانية مجاهدين من بينهم مصطفى بوستة وعلي بن شايبة ورابحي الشريف، وفقد بن شايبة إحدى عينيه. عجول يدافع عن نفسه ويتبرأ من دم بن بولعيد وفي شهادة سجلت له من قبل بعض أعضاء منظمة المجاهدين في خريف العام 1985، فقد أكد بأنه لم يعلم بالخبر إلا بعد شهر من استشهاد بن بولعيد ويقول "نقل الجرحى إلى جبل بني فرح فمكثوا شهرا تحت العلاج ونقلوا مرة أخرى قبل انتهاء العلاج إلى منطقة كيمل (مركز الولاية) وهناك علمت باستشهاد بن بولعيد". في المقابل، فإن الشاهدين على الانفجار مصطفى بوستة وعلي بن شايبة لم يذكرا بتاتا وجود عجول في الجبل الأزرق ساعة الانفجار، وبدا الرائد مصطفى مراردة رحمه الله في مذكراته واثقا من براءة عجول من دم بن بولعيد ونادما لأنه كان مقتنعا في يوم من الأيام بأن عجول هو الذي خطط لاغتيال بن بولعيد، ويقول في هذا الشأن "كنا نعتقد حينئذ بصحة التهمة ونؤمن بها، وذلك بسبب ظروف تلك المرحلة". ويشير الرائد مراردة أن عزوي وعمر بن بولعيد ومسعود عيسى وهم من قادة عروش المنطقة الذين كانوا على خلاف مع عجول، ولفقوا له تهمة اغتيال بن بولعيد، خاصة وأنه رفض إعادة قيادته للأوراس بعد فراره من السجن. كما نفى المجاهد محمد الصغير هلايلي هذه التهمة في مذكراته التي نشرت مؤخرا تحت عنوان "شاهد على الثورة في الأوراس" خصوصا أنه يعد الكاتب الخاص لعاجل عجول. زبيري يبرئه وبيوش يؤكد تأثر عجول باستشهاد بن بولعيد في المقابل، يؤكد العقيد الطاهر زبيري، بأن ظروف استشهاد البطل مصطفى بن بولعيد لم تكن طبيعية، ويجد صعوبة في تصديق رواية المخابرات الفرنسية، ورفض في الوقت نفسه اتهام عجول بالوقوف وراء اغتيال بن بولعيد. وقال زبيري في مذكراته إن عجول شكّك في صحة فرار بن بولعيد من سجن الكُدية بقسنطينة، بناء على الحديث الذي جمعه بالحاج لخضر عام 1960، مضيفا أنه لا يمكنه اتهام عجول باغتيال مصطفى بن بولعيد بحجة عدم وجود الدليل، ولكن ما يمكن التأكيد عليه في نظر زبيري هو أن العلاقة بين الرجلين قبيل استشهاد سي مصطفى لم تكن على ما يرام. مشيرا في مذكراته بأن عجول لم يؤذ الثورة رغم أنه كان يحمل من طرف قوى الاستعمار في طائرات هيلكوبتر لتحديد مراكز المجاهدين، إلا أنهم كانوا يغيرون مواقعهم كلما اعتقل أحد أفرادهم خاصة إذا كان قائدا كبيرا مثل عجول. أما المجاهد محمد بيوش فقد نفى فرضية ضلوع عجول وراء اغتيال بن بولعيد قائلا "عاجل عجول إنسان مثقف ومناضل يحب وطنه، وأحب كثيرا مصطفى بن بولعيد، أتذكر بأنني كنت مع القائد عاجل عجول لوحدنا لما تلقينا خبر استشهاد القائد مصطفى بن بولعيد، وقد نزل عليه الخبر كالصاعقة، لدرجة أن عجول لم يصدق بأن "سي مصطفى" قد استشهد، وقد ظل باهتا وهو يعظ بأصبعه لشدة التأثر حتى سال الدم من أصبعه"، علما أن عجول في تسجيلات تم تداولها مؤخرا، فقد أكد أنه علم بالخبر بعد مرور نحو شهر من استشهاد بن بولعيد. استشهاد بن بولعيد خلف صراعات وأزمة قيادة وباستشهاد مصطفى بن بولعيد تعرضت منطقة الأوراس إلى هزة قوية أفقدتها توازنها، حيث رفض عدد من قادة الأوراس الاعتراف بقيادة عجول للمنطقة، وحمّلوه مسؤوليّة استشهاد البطل مصطفى بن بولعيد، على غرار عمر بن بولعيد شقيق سي مصطفى الذي انفرد بقيادة الجهة الغربية للولاية الأولى في نواحي آريس، كما تمرد النمامشة على سلطته في الجهة الشرقية للولاية، وبقي عجول مسيطرا على المنطقة الوسطى للأوراس التي يوجد فيها مركز الولاية. وفي قراءة للكاتب عبد الله لالي على ضوء ما توصل إليه المجاهد محمد زروال في قضّية الصراع على القيادة بالولاية الأولى التاريخيّة (الأوراس)، فإن السبب الجوهري للصراع يعود إلى الأمزجة النفسيّة وغياب الثقة واختلاف التفكير، إضافة إلى عدم وجود شخصيّة (جامعة) منذ إلقاء القبض على مصطفى بن بولعيد في الحدود التونسيّة، حين كان في مهمّة لجلب السلاح من تونس. وأكد الكاتب محمد زروال في كتاباته أن مصطفى بن بولعيد كان رجلا محبوبا بين النّاس، بفضل وطنيته ونضاله السّياسي الطويل، كما أنه من أسرة غنيّة لها مكانتها الاجتماعيّة المرموقة. ولذلك حسب الكاتب، سكنت الخلافات بمجرّد هروبه من السجن وعودته إلى الأوراس، وسرعان ما تأجّجت بعد استشهاده، لتعرف منطقة الأوراس حلقة أخرى من الصراع والتأزم عقب مؤتمر الصومام، وبعد زيارة عميروش للأوراس.