رغم أنه لم يمر سوى ثلاثة أشهر على تعيين نيكولا ساركوزي رئيسا لفرنسا، إلا أن هذه المدة القصيرة كانت كافية لإحداث تغيير كبير في السياسة الخارجية لفرنسا.. والمتتبع لشؤون هذه الدولة يلاحظ هذا التغيير وكيف حدثت القطيعة مع عهد الرئيس السابق جاك شيراك ،بالرغم من أن ساركوزي ينتمي إلى نفس التيار اليميني لسلفه وكان شريكه في الحكم أيضا .. فقد تخلت فرنسا الحالية عن الكثير من عقائدها الدبلوماسية على المستويين الأوروبي والدولي وغيرت موقعها بدرجة مئوية، حتى أن بعض حلفاؤها وشركائها السابقين في أوروبا لا يكادون يستوعبون هذا الانقلاب المفاجئ في مواقفها ، حيث تخلت الدبلوماسية الفرنسية عن دورها " المميز" داخل الاتحاد الأوروبي والتحقت بصف الدول التي تؤمن بأن مستقبل أوروبا ومصالحها يقتضي منها الانصهار ضمن المنظومة التي تفرض نفسها على الساحة الدولية ، وهي القناعة التي سبقت إليها ألمانيا في عهد المستشارة ،أنجيلا ميركل .. وفي أول خطاب له أمس الأحد حول السياسة الخارجية الفرنسية ، قال الرئيس نيكولا ساركوزي أن بناء أوروبا سيبقى "أولوية مطلقة" في سياسة بلاده ،ولكنه حرص في نفس الخطاب الذي ألقاه أمس الأحد على الدعوة إلى " الصداقة" مع الولاياتالمتحدة ، في تأكيد واضح على أن فرنسا لن تقف بعد الآن في صف المعارضين لسياسة الأمريكية وأنها ستعمل على تحقيق الانسجام في المواقف بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن .. والأمر الغريب، هو أن ساركوزي ،المعروف بإعجابه بالنموذج الأمريكي حتى قبل توليه الرئاسة داس على كل الأعراف الدبلوماسية لبلاده ، وسارع إلى تبني المواقف الأمريكية في العديد من القضايا الدولية ،وخاصة قضايا الشرق الأوسط . فقد أصبح العراق ومشاكله من أولويات السياسة الخارجية الفرنسية بعدما كانت الحكومة السابقة ترفض التدخل في هذا البلد سياسيا وعسكريا لقناعتها بأن الدولة المحتلة هي التي ورطت نفسها وهي المسؤولة عن تبعات ما يحدث هناك . ولم تكن زيارة وزير الخارجية ،برنار كوشنار منذ أيام إلى العراق ،وكانت الأولى من نوعها لوزير فرنسي منذ الغزو ، مجرد نزهة ، وإنما كانت من أجل تقديم الدعم للإدارة الأمريكية ومحاولة إنقاذها من ورطتها في هذا البلد بعدما تزايدت الضغوط الداخلية على الرئيس جورج بوش وخاصة من طرف العسكريين . ولهذا فقد تحول كوشنار من طبيب مهتم بالشؤون الإنسانية إلى خبير سياسي يعرض تعاون بلاده و والأمم المتحدة و يقدم الحلول للعراق ويدعو إلى استبدال حكومتها التي فشلت في وقف مسلسل العنف وفي تحقيق المصالحة الوطنية . ومن فرط حماسة الفرنسيين في دعم حلفائهم الجدد في البيت الأبيض ، فقد تسبب " كوشنار" القادم من صفوف الحزب الاشتراكي في إحداث التوتر بين بلاده وحكام العراق بعدما دعا صراحة في حديث لمجلة "نيوزويك" الأمريكية إلى استبدال حكومة نوري المالكي، في الوقت الذي لم يقلها بصريح العبارة جورج بوش نفسه.. وقد اضطر "كوشنار " إلى الاستجابة لطلب الحكومة العراقية وقدم اعتذارا رسميا لها ،قائلا " إذا كان رئيس الوزراء العراقي يريدني أن اعتذر لتدخلي في الشؤون العراقية بهذه الطريقة المباشرة، فإنني افعل ذلك بكل طيبة خاطر" .. ومن جهة أخرى ، تتجه الدبلوماسية الفرنسية في عهد نيكولا ساركوزي نحو التخلي عن "اعتدالها" إزاء القضية الفلسطينية ،حيث باتت تتبنى خطا متشددا مع الفلسطينيين مقابل ليونة مع الإسرائيليين ، وقد أكد الرجل الأول داخل الالزيه في خطابه أمس : " لدي سمعة بأني صديق إسرائيل وهذا صحيح لن يتنازل أبدا عن أمن إسرائيل " .. وليس من الصدفة أن يترك ساركوزي في ذات الخطاب العدوان الإسرائيلي الأخير الذي تسبب في سقوط العديد من الشهداء الفلسطينيين ويركز القول على أن " فرنسا ستبقى معارضة لإنشاء "حماستان" في قطاع غزة " .. ويبدو أن القضية الوحيدة التي ما يزال ساركوزي وفيا فيها لسلفه ، هي القضية اللبنانية التي تبقى تشكل أولوية في السياسة الخارجية الفرنسية ،حيث أوفدت الحكومة الفرنسية منذ أيام مبعوثا خاصا إلى بيروت ليتقصى الحقائق على الأرض في خضم الاستعدادات الجارية لانتخاب رئيس جديد للبنان ،وفي نفس السياق فقد أكد ساركوزي في خطابه أمس أن " فرنسا "متمسكة بشغف بحرية لبنان الكاملة واستقلاله وسيادته .." ، جاعلا علاقة بلاده مع سوريا مرهونا بمدى مسايرة الأخيرة للرؤية الفرنسية في لبنان .. ونفس الحزب أبداه ساركوزي من إيران التي قال أن "امتلاكها السلاح النووي أمر غير مقبول " ، مع تأكيد "حزم فرنسا التام في الخطوة الحالية التي تجمع بين العقوبات المشددة ولكن أيضا الانفتاح أن اختارت إيران احترام التزاماتها". ليلى/ل