د/محمد العربي الزبيري إن تطبيق المصالحة الوطنية موكول، اليوم، إلى حكومة ترفع شعار التحالف الرئاسي الذي هو ضرورة،ما في ذلك شك ، لكنها ضرورة غير كافية لأن التحالف المذكور غير واضح المعالم ولا ينطلق من مشروع مجتمع واحد. قد يقال: إن فكرة مشروع المجتمع لم تعد ذات جدوى، لأن العالم كله أصبح قرية صغيرة. و مثل هذا القول مردود على أصحابه خاصة عندما نعيش، من بعيد، كل المساعي السياسية و الدبلوماسية الرامية إلى دعم التكتلات الجهوية خوفا من مخاطر القطب الواحد الذي لا يتردد أمام ارتكاب الجريمة إذا كان ذلك يعود بالفائدة على مصالحه الخاصة. وإذا كانت الجزائر لم تتمكن، لأسباب كثيرة ، من الالتحاق، كعضو فاعل، بواحد من تلك التكتلات، فإن باستطاعتها، اليوم، أن تجعل التحالف الرئاسي يرقى إلى تحالف وطني يضرب بجذوره في أعماق الجماهير الشعبية الواسعة ويفسح المجال واسعا أمام كل الكفاءات الصادقة التي ما زالت تشكو مضرات الإقصاء والاستئصال. يومها، ويومها فقط، فإن المصالحة الوطنية ستؤتي ثمارها المنتظر والذي لن يكون أقل من وحدة الصف ، والقضاء على روح الإقصاء وإخراج البلاد، نهائيا، من دائرة التخلف بجميع أنواعه، وتوفير شروط بناء دولة القانون التي يتحدث عنها ، اليوم ، كل الناس لكن دون أن يلمسوا واقعها وحقيقتها . إن مشروع المجتمع الذي ينبغي أن يتمحور حوله التحالف الوطني الذي نطمح إليه، والذي يمكن أن يحظى بإجماع أغلبية ساحقة من أبناء الشعب الجزائري إنما هو ذلك الذي يتعين السهر على ألا يكون متناقضا مع منظومة الأفكار التي وردت في بيان أول نوفمبر 1954، و التي عملت جبهة التحرير الوطني على تجسيد جزء كبير منها على أرض الواقع خلال الاثنين و تسعين شهرا التي سبقت وقف إطلاق النار في التاسع عشر من شهر مارس سنة 1962. إن منظومة الأفكار المشار إليها قد استطاعت، عندما توفرت الإرادات الصادقة وصدقت النوايا الحسنة، أن تخرج الشعب الجزائري من هامش التاريخ و أن تعيد إلى الإنسان عزته وكرامته، و أن تجعل الوحدة الوطنية حقيقة تمكنت، بالتدريج، من إرغام الاستعمار على الانصياع للخطة التي وضعتها جبهة التحرير الوطني عشية أول نوفمبر 1954. وفي هذا السياق، أعيد إلى أذهان القراء الكرام اعترافات الجنرال ديغول التي وردت في مذكراته والتي يعبر من خلالها على مرارة الاستسلام أمام صلابة المواقف الثورية. وبالمناسبة،فإنني أدعو " بقايا الجزائريين الأهالي " للعودة إلى تلك المذكرات ليتأكدوا من أن لجنرال لم يختر طريق التفاوض راضيا أو رغبة منه في وقف شلالات الدماء ، إذ لو كان الأمر كذلك ، لأوقف الحرب في الأشهر الأولى من عهدته ، ولما حاول المستحيل بواسطة إستراتيجيته ذات الرؤوس الثلاثة . و إذ نعود، اليوم، إلى منظومة الأفكار التي اعتمدتها ثورة التحرير لتجعل جماهير الشعب الجزائري تحقق من المكاسب ما لم يكن في الحسبان، فلأن النصوص الأساسية تقول إنها ما زالت قادرة على إيجاد دينامكية فاعلة تعيد للمجتمع حيويته و تفسح أمامه أبواب الرقي والتقدم . إن قولنا هذا مبني على كون معظم التشكيلات السياسية العاملة في البلاد، اليوم، لا تتحرج من الإعادة إلى الأذهان بأنها تنطلق، في سائر أنواع نشاطها، من " المبادئ النوفمبرية " و بأنها تعتبر نفسها امتدادا طبيعيا لثورة التحرير، وهي غير مستعدة للتنكر لا للقيم التي اعتمدتها ولا للمكاسب التي حققتها. و من ثمة، و المنطق يؤكد ذلك، فإن أدبيات فترة الكفاح المسلح تشكل إطارا مقبولا من الجميع لصياغة منظومة الأفكار الجديدة التي تكون قادرة على توحيد كل الطاقات الوطنية الحية المستعدة لبناء الدولة القوية التي كانت تشكل حلم الرواد من الشهداء ومن المناضلين الصادقين الذين ما يزالون على قيد الحياة . وليست التشكيلات السياسية وحدها هي التي تؤكد، علنا ومن دون أدنى عقدة، أنها تفخر بانتمائها إلى ثورة نوفمبر، وأنها تستمد من قيمها ومبادئها برامجها السياسية، بل إن شرائح واسعة من المجتمع الجزائري، سواء من المتحزبين السابقين أو ممن يرفضون التحزب، لا تخفي التزامها بمشروع المجتمع الذي كانت جبهة التحرير الوطني قد بشرت به ليلة أول نوفمبر 1954.ولكنها تفضل، اليوم، البقاء في الحياد أو متقوقعة في صمت رهيب هو أقرب إلى السلبية منه إلى شيء آخر، على الانضواء تحت لواء واحدة من التشكيلات السياسية المتواجدة، رسميا، على الساحة. لأجل ذلك، و حتى لا تبقى كل تلك الطاقات الحية ضائعة، فإن التحالف الرئاسي، لكي ينجح في تجسيد المصالحة الوطنية ميدانيا، مطالب بإيجاد صيغة مقبولة لاحتواء أكبر عدد ممكن من الجزائريات والجزائريين الذين يبدون استعدادهم لإعادة الربط مع عملية البناء والتشييد. و مما لا شك فيه أن التحالف الوطني هو أفضل فضاء يضمن للجميع حرية العمل الديمقراطي وحق المشاركة الفعلية في إنجاح المصالحة الوطنية التي من دونها لن يتم بناء جزائر العزة والكرامة.. جزائر الرفاهية والرخاء والأمن والاستقرار. تلكم الجزائر التي يكون فيها الإنسان عارفا بنفسه ومعتمدا عليها كل الاعتماد في إعادة القطار إلى سكته الطبيعية. قد يتساءل بعضهم: و هل الإنسان، في الجزائر، لا يعرف نفسه ولا يدرك محيطه ؟ ويكون جوابنا نعم، خاصة عندما نقرأ الصحافة المملوءة أعمدتها بالعجائب والغرائب، وعندما نستمع إلى جل الحصص التي تبثها الإذاعة والتلفزيون، وعندما ننظر إلى المحيط الذي اجتاحته حمى الفرنسة بجميع أنواعها أي بدءا من الجنسية المزدوجة وانتهاء بلافتات الإشهار والمحلات التي تكاد تجعل من عاصمتنا ومن بعض مدننا الكبرى ملحقات فرنسية ، يومها، نرى ، بسهولة، كيف أن الأغلبية الساحقة من الجزائريات والجزائريين لا يعرفون تاريخهم بجميع حقبه ولا يعلمون شيئا عن تراثهم الوطني، ولا يخطر ببالهم أن عددا كبيرا من رجال الإصلاح والثقافة والفكر في الوطنين العربي والإسلامي مدينون، في تعلمهم وفيما تحصلوا عليه من معرفة شملت عديد المجالات، إلى جهابذة من أرض الجزائر التي أخرجهم منها الاستعمار جراء مقاومتهم له ورفضهم الخضوع له والانصياع لأوامره، أو خرجوا منها، بمحض إرادتهم، جريا وراء كنوز العلم والمعرفة. وهل يمكن أن يكون عارفا بنفسية من يحتاج إلى لغة غيره للتعبير عن بعض حاجاته، ومن لا يعرف من بلده سوى مسقط رأسه ولا يهتم بما يجري في دواليب الحكم، بل لا يعرف حتى نوع نظام الحكم الذي ينتمي إليه، ولا يفرق بين هذا الأخير وبين السلطة بجميع أنواعها؟؟؟ هذه بعض المساوئ التي رسخت في نفوسنا بفعل التخطيط المحكم الذي لجأ إليه الاحتلال الاستيطاني من أجل القضاء على هويتنا وتقويض أركان شخصيتنا وإخراجنا في نسخة لا هي مسيحية فرنسية ولا هي إسلامية جزائرية، بل خليط من أسوأ ما في هذه وتلك. وكان يمكن اعتماد العلوم الاجتماعية والإنسانية لقولبة الإنسان الجزائري الجديد الذي تضرب جذوره في أعماق التاريخ الوطني وتتفاعل أفكاره مع أفضل ما وصل إليه العالم المعاصر من اكتشافات واختراعات. و لأن ذلك لم يحدث، في وقته، فإننا لا نغالي، اليوم، عندما نقول: إن البلاد تعاني أزمة ثقافة قاتلة أساسها إهمال الإنسان وعدم الاهتمام بعلاقاته مع المجتمع. وإذا كانت الرغبة صادقة في تحقيق المصالحة الوطنية، فإن السلطات المعنية مطالبة بتوفير الشروط الموضوعية اللازمة لإعادة تأهيل العلوم الاجتماعية والإنسانية باعتبارها المادة الأساسية التي تتحكم في تكوين الفرد وتمكينه من معرفة نفسه ومن استرجاع الثقة فيها بالإضافة إلى تزويده بكل ما من شأنه أن يعيد التوازن في علاقاته مع محيطه الضيق والواسع فالأوسع. صحيح أن الجزائر شيدت الجامعات بأعداد وفيرة، وصحيح، كذلك، أنها مكنت آلاف الجزائريات والجزائريين من الحصول على شهادات عليا في سائر العلوم الاجتماعية والإنسانية، لكنها، رغم كل الجهود المبذولة، قد أغفلت الاهتمام بالمصادر التي يعتمدها الأساتذة في تأدية مهامهم، ولم تنتبه إلى أنها وضعت انطلاقا من واقع غير الواقع الجزائري، وأعدت لتكوين إنسان غير الإنسان الجزائري ولمعالجة قضايا غير القضايا الجزائرية. وعلى هذا الأساس، فإن المصالحة الوطنية لن تكتمل ولن تؤتي أكلها إلا إذا ضبط مشروع المجتمع الجزائري وأعيد النظر في المصادر العلمية التي يعتمدها الأساتذة المكونون في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مع العلم بأن إعادة النظر هذه تتطلب، في آن واحد، تخلص الباحثين والدارسين من عقد النقص، وتسلحهم بالمنهجية العلمية ونبذ الإتكالية التي لا تخدم سوى أعداء التحديث والعصرنة، كما أنها تتطلب التزام الدولة بتوفير شروط البحث العلمي بعيدا عن كل أشكال التبعية.