في ساعات هذا اليوم المشهود يقف حجّاج بيت الله الحرام ووفود الرحمن على جبل عرفات. جاؤوا من كلّ حدب وصوب؛ من شرق الأرض وغربها، من شمالها وجنوبها، ليلتقوا في تلك البقاع الطاهرة. لباسهم واحد ودعاؤهم واحد وهدف أكثرهم واحد، رضا الله الواحد الأحد. إنّه لو لم يكن في الحجّ إلا ركن الوقوف بعرفات في هذا اليوم العظيم من أيام الله، لكان حريا بالنّفوس أن تتقطّع حسرة لذلك الموقف المهيب الذي يباهي به الله ملائكته الكرام، في يوم ما رئي الشّيطان أغيظ ولا أذلّ ولا أحقر منه في ساعاته، من كثرة ما يعتق الله من عباده. يومٌ تعود فيه الأرواح إلى فطرتها وتتذكّر العهد الذي أخذ منها في مثل هذا اليوم وهي في عالم الذرّ قبل أن تخلق الخلائق ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين)). يومٌ تتعلّق فيه القلوب بالله الواحد الأحد، وتنسى علائق الدّنيا وعوائقها؛ أيد ترتفع إلى السّماء، وألسن تلهج بالدّعاء، وأعين لا تعرف إلا البكاء. يوم يقرع القلوب ويذكّرها بيوم القيامة مشهد عرفة يذكّر العبد المؤمن بيوم القيامة، يوم العرض على الله، والوقوف بين يديه للحساب. مئات الملايير من البشر يقفون على صعيد واحد ينتظرون فصل القضاء، انتظار ليس لساعة أو ساعتين أو ثلاث وإنّما هو ليوم يكون مقداره 50 ألف سنة. تُكسى الشمس يومها حرّ 10 سنين وتدنو من الرّؤوس قدر ميل (أقلّ من 2 كم). لا ظلّ ولا ماء إلا من أظلّه الله وسقاه. يجتمع على أهل الموقف حرّ الشمس ووهج الأنفاس، فيسيل العرق من الخلائق ويبلغ منهم بقدر أعمالهم؛ فهذا يكون العرق منه إلى كعبيه وذاك إلى ركبتيه وذاك إلى حقويه وآخر إلى رقبته وآخر يلجمه العرق إلجاما. تجفّ الحناجر من شدّة العطش ثمّ تتشقّق، ومع العطش يكون الجوع أيضا، وأكثر النّاس جوعا يومها أكثرهم شبعا في هذه الدنيا. في تلك الأثناء يكون عباد الله المؤمنون الصالحون المتقون في النّعيم تحت ظلّ عرش الرّحمن يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه. يوم التذلّل والخشوع لله موقف عرفة.. لحظات يحسّ فيها المرء وهو ينظر إلى تلك الجموع بحقارة هذه الحياة الدنيا، وربّما يحسّ بحقارة نفسه التي منعته أن يكون في هذا اليوم بين أولئك القائمين على جبل الرّحمات. وحُقّ لكلّ عبد مؤمن أن يسأل نفسه وهو ينظر إلى ذلك المشهد المهيب: لماذا أنا الآن هنا ولست هناك مع وفود الرحمن بلباس الإحرام جاث على ركبتي رافعا يدي ودمعاتي تسيل على الخدين وتمتزج بذلك التراب الطاهر؟ لعلّها هموم هذه الدنيا الدنية التي أخّرتني عن بلوغ ذلك المقام. إنّ العبد ليحسّ حقيقة بحقارة هذه الدنيا وهو يتأمّل موقف عرفات، وهو يرى فقر الخلائق إلى الله، وهو يرى تضرّعهم وبكاءهم بين يدي الله. بين يدي أرحم الرّاحمين وأكرم الأكرمين. أكفّ ترتفع إلى السّماء ودموع تسيل على الخدود. فما أعزّ الإنسان يوم يبكي بين يدي مولاه. يوم يتذلّل لخالقه يدعوه ويخشاه، حين يفوّض أمره إلى الله. لا يرجو ولا يدعو ولا يتوكّل على أحد سواه. حين يقطع العلائق بينه وبين خلق الله. حين لا يكون بينه وبين الله واسطة في دعائه من نبيّ ولا إمام ولا صالح ولا وليّ. يقول الفضيل بن عياض عليه رحمة الله: "والله لو يئستَ من الخلق حتى لا تريد منهم شيئا لأعطاك مولاك كلّ ما تريد". يوم مغفرة الذّنوب وعتق الرّقاب وإجابة الدّعاء يوم عرفة يوم من أعظم الأيام عند الله لأنّه يوم يتجلّى فيه إخلاص الدعاء لله. يحسّ فيه العبد بقربه من الله. تتنزّل فيه رحمات الإله وتهبّ فيه نفحاته؛ فالمحروم من حرمته نفسه التعرّض لهذه النّفحات. يقول نبيّنا عليه الصلاة والسّلام: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ اشهدوا يا ملائكتي أنّي قد غفرت لهم). يدنو الجبّار جلّ جلاله فيباهي الملائكة بعباده المؤمنين ويقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرا يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني, فكيف لو رأوني؟. فهنيئا هنيئا لمن أخلص قيامه ودعاءه لله في ذلك المقام، وهنيئا هنيئا لمن أسبل دمعاته في قرب الرحمن. ثمّ هنيئا هنيئا لمن صام هذا اليوم إيمانا واحتسابا يرجو الأجر والمثوبة من الله، يقول نبيّ الهدى صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفّر السّنة التي قبله والسّنة التي بعده)، مغفرة ذنوب سنة ماضية وسنة آتية. فما أعظم فضل الله على عباده المؤمنين. فإياك أخي المؤمن أن يلهيك الشيطان عن فضل هذا اليوم الذي ستنقضي ساعاته سريعا؛ لا تنس قول النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: (أفضل الدّعاء دعاء يوم عرفة). لعلّك ترفع يديك وأنت صائم وقلبك خاشع وعينك دامعة، فتدعو الله بإخلاص فيرضى عنك ويشهد ملائكته على رضاه، ويكتبك في سجلّ السّعداء، ويضع لك القبول في الأرض. دعاء يوم عرفة ' روى الترمذي بإسناد حسن عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنّه قال: (خير الدّعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"). ' وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: أكثر ما دعا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشية عرفة في الموقف: (اللهمّ لك الحمد كالذي نقول وخيرا ممّا نقول، اللهمّ لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك مآبي ولك ربّ تراثي، اللهم إنّي أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر، اللهمّ إنّي أعوذ بك من شرّ ما تجيء به الريح). الترمذي. أحوال الصّالحين في يوم عرفة ' قال الإمام ابن المبارك عليه رحمة الله: جئت سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلت: من أسوء هذا الجمع حالا؟ قال: الذي يظنّ أنّ الله لا يغفر. ' نظر الفضيل بن عياض -عليه رحمة الله- إلى تسبيح النّاس وبكائهم يوم عرفة فقال: أرأيتم لو أنّ هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقا (سدس درهم) أ كان يردّهم؟ قالوا: لا. قال: واللهِ لَلْمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق. ' خطب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- بعرفة، فقال: "إنّكم قد جئتم من القريب والبعيد، وأضنيتم الظّهر (أتعبتم رواحلكم)، وأخلقتم الثياب (أبليتموها)، وليس السّابق اليوم من سبقت دابّته وراحلته، وإنّما السّابق اليوم من غُفر له". خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في مثل هذا اليوم يومِ عرفة، الذي كان موافقا ليوم الجمعة، صلى النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- صلاة الصبح بمنى، ثمّ مكث حتى طلعت الشّمس، فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي، ثمّ قام خطيبا في النّاس خطبة الوداع يلخّص فيها شرائع الإسلام وأحكامه. اجتمع حوله 144 ألف مسلم، آذانهم ترنو وأفئدتهم تهفو لسماع ما يقوله خاتم الأنبياء في هذا الجمع العظيم. قال: ( أيّها الناس.. اسمعوا قولي، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.. إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كلّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدميّ موضوع، ودماء الجاهليّة موضوعة، وإنّ أوّل دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وكان مسترضعا في بني سلمة فقتلته هذيل، وربا الجاهليّة موضوع، وأوّل ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطّلب، فإنّه موضوع كلّه.. اتّقوا الله في النّساء فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، ولكم عليهنّ ألاّ يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربا غير مبرح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف.. وقد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به فلن تضلّوا بعدي أبدا كتاب الله وسنّتي.. أيّها النّاس إنّه لا نبيّ بعدي، ولا أمّة بعدكم، ألا فاعبدوا ربّكم، وصلّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدّوا زكاة أموالكم طيّبة بها أنفسكم، وحجّوا بيت ربّكم، وأطيعوا ولاة أمركم تدخلوا جنّة ربّكم.. وأنتم تسألون عنّي فما أنتم قائلون؟)، قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت، فرفع أصبعه السّبّابة إلى السّماء وقال: ( اللّهمّ اشهد.. اللّهمّ اشهد.. اللّهمّ اشهد ). فضائل يوم عرفة 1. اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان- يعني عرفة- وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلمهم قِبَلا، قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ - أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)) رواه أحمد. 2. يوم إكمال الدّين وإتمام النّعمة في الصحيحين عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنّ رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال أي آية؟ قال: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)). قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم الجمعة. 3. يوم إجابة الدّعاء يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) رواه الترمذي. 4. يوم العتق من النّار يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنّه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟) رواه مسلم. 5. صيامه يكفّر ذنوب سنتين عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: (يكفّر السّنة الماضية والسّنة القابلة) رواه مسلم.