تحتضن كلية اللغات والآداب بجامعة الدكتور يحيى فارس لحاضرة المديةالجزائرية، يومي 25 و26 فيفري المقبل، الملتقى الوطني الأول حول "تجليات القراءة الصوفية"، في موعد سيشهد مشاركة نوعية لكوكبة من الباحثين، والمهتمين بالتراث الصوفي الذي لا يزال قائما في الجزائر خاصة والمنطقة المغاربية عموما، وأصبحت الطرق الصوفية مدرسة راسخة. استنادا إلى الوثيقة التمهيدية للملتقى المذكور، سيطرح الأخير حزمة من التساؤلات، يتقدمها استفهام رئيس: هل طبيعة الخطاب الصوفي هي التي تستقطب القراءة الصوفية، أم أنّ النزعة الفلسفية اللاهوتية هي التي تحرك مضمار القراءة؟، وإذا كان الخطاب الصوفي هو الذي يستقطب القراءة الصوفية، فما الذي يجعل هذه القراءة متميزة عن أي قراءة أخرى، ثم ما الأسئلة التي تطرحها القراءة الصوفية للخطاب الصوفي؟ كما ستعنى التظاهرة بمساءلة النزعة الفلسفية، وعما إذا كانت هي التي تحرك مضمار القراءة الصوفية، وماهية الأسس اللغوية والعقلية التي تنبني عليها هذه النزعة؟، وكيف يمكن تقديم الفضاء الذي يشتغل فيه المؤول؟ وتركّز ديباجة الملتقى، على كون باب الممارسة العرفانية في الثقافة الإنسانية عموما والثقافة العربية والإسلامية على وجه الخصوص، يحتل ميدانا واسعا يتسع بحجم المنجزات المقدمة في الموضوع، والتي تحتلّ حيزا لا بأس به في المكتبتين العربية والعالمية على وجه الخصوص . وذهب عرّابو الموعد إلى أنّ الكشف عن الممارسة العرفانية، وتسليط الضوء على محوريتها في مدونة التأليف الإنساني، يشكل الحاجة الأكثر إلحاحا والأشد اهتماما بين الباحثين في الوقت الحالي، بعدما انتهت التيارات العلمية التي كانت إلى وقت قريب تشكل خيارا مقدسا لدى أغلب الأوساط المعرفية إلى نتائج مخيّبة للآمال. ظلال إعادة صياغة الخطاب وتحت الرئاسة الشرفية للدكتور "أحمد زغدار" رئيس جامعة المدية، ورئاسة الدكتور "محمد بن حجر" وكذا الأستاذ "مفتاح بخوش" كنائب للرئيس، تلفت وثيقة ملتقى "تجليات القراءة الصوفية" إلى ظهور أصوات تتعالى يوما بعد يوم، وتشدد بصورة تزداد انتشارا بشكل تصاعدي مثير على ضرورة إعادة صياغة قناعات الإنسان الفكرية بالعمل على صياغة الخطاب التربوي والتوجيهي في التعليم وفي المساجد وفي مختلف القطاعات، إضافة إلى القطاع الرسمي، بالشكل الذي يكون أكثر وظيفية، وأكثر فاعلية في صياغة وصناعة مشاريع المحبة والسلام، وإثر ذلك كان الحديث عن التصوف والممارسة الصوفية أحد أوليات هذه الأصوات، إذا لم يكن كل الأولية ... والذي شجع على ذلك – بالاتكاء على فحوى الوثيقة - هو تحول النخب العربية، والنخب في العالم إلى تبني هذا الخيار والدفاع عنه، بل الأبلغ من ذلك أن تحول إلى مشروع نخبوي كل واحد ينهل منه بطريقة ما، على غرار ما فعله "أدونيس"، وقبله الأمير عبد القادر الجزائري، وكذا العلاّمة الشهير "بديع الزمان النورسي" وروائعه "كليات النور". بيد أنّ طبيعة التنميط النصي لدى المتصوفة، أرهقت متتبعيها، تبعا لما تنطوي عليه الممارسة النصية الصوفية من منطق خاص، والذي زاد من تعقيدات القراءة هو تساؤل آخر متعلق بجدية النص اللغوي في الإبانة عن الرؤية الصوفية، وهو مشروعية الكتابة عند الصوفية، وقاد البحث إلى إنتاج سياق معرفي كبير برز إلى مسرح الممارسة العلمية، لا لتأويل النص الديني فقط، بل لمعرفة بعض الأشياء الخفية، تتعلق بالوجود الانساني، ومفهوم الله، فهل نحن موجودون بأنفسنا، أم موجودون بالله، أم نحن كما يذهب الصوفية موجودون بالله معدومون بأنفسنا، فالعالم ليس هو الله، بل هو تجل من تجلياته، وذلك بخلاف وحدة الوجود في الفكر الفلسفي والديني القديم، التي انتهت تداعياتها مع الفيلسوف سبينوزا في عبارته أن الله هو العالم والعالم هو الله والطبيعة المطبوعة هي تجسيد لله. فرصة لتثمين إرث غزير يشكّل محفل المدية، فرصة لتثمين إرث غزير، على منوال ذاك الذي تركه المفكر وعالم السيمياء الجزائري الكبير ''أبو العباس أحمد بن علي البوني'' (520/622 هجرية)، أحد رواد فلسفة التصوف في شمال إفريقيا وأشهر المؤلفين في العلوم الخفية وعلوم التنجيم، الذي اشتهر بكونه عميد علم الحروف الذي مهّد لقيام منظومة السمياء الحديثة. ويعدّ أبو العباس البوني أصيل مدينة "بونة" القديمة وكنيتها "هيبون الجميلة" ذاكرة ولاية عنابة حاليا، وهي منطقة أنجبت الفيلسوف أوغستين (354-430 م) أبو الفكر العصري، أبو الليث البوني، وسيدي إبراهيم بن تومي وهي وجوه تركت بصماتها على المسيرة الثقافية الجزائرية والدولية. ويبرز "سعيد جاب الخير" الباحث الجزائري في التصوف والطرق الصوفية، المرجعيات العريقة للبوني وغزارة مؤلفاته، حيث يحصي ما لا يقلّ عن مائة كتاب نفيس أبرزها "شمس المعارف الكبرى" و"منبر الحكمة"، كما يُحيل جاب الخير إلى أنّه فضلا عن مرجعيات البوني المغربية التي يرفعها لأبي مدين شعيب التلمساني والمشرقية التي تربطه بشيخه المباشر أبي عبد الله شمس الدين الأصفهاني الذي تتصل سلسلته بجابر بن حيان وأبي بكر الرازي الذين اتصلا كلاهما بالتعليم الباطني للإمام جعفر الصادق. ولم يغفل البوني عن ذكر أفلاطون، أرسطو، فيثاغور، أبوقراط، هرمس مثلث العظمة، ذو القرنين فضلا عن المنجمين الكلدانيين، الصابئة والبابليين، ويصرح البوني في كتاباته أنه عثر على مخبأ تحت أهرامات أخميم بأعالي النيل، مليء بالمخطوطات التي تعود لحقبة ما قبل الطوفان والتي يمكن مقايستها مع بردي Rhind المحفوظ بالمتحف البريطاني، وبردي Golenischev المعروف ببردي موسكو والأسطوانة الجلدية وألواح أخميم المرتبطة بكسور عين حورس والمعادلات الخوارزمية المرتبطة بالأشكال الدينية والرموز الغريبة المثيرة للصورة الأكثر عجائبية للرياضيات. البوني المتوفى في تونس (يُتردد أيضا أنّه قضى في مصر)، بجانب ريادته للعلوم الباطنية التي تنتمي إلى الحقائق الصوفية (ما يقابل علوم الظاهر/الشريعة)، انفرد كذلك بكونه أشهر المصنفين العرب في صناعة الكيمياء والعلوم الخفية في ذخيرته الباطنية الذائعة الصيت الموسومة ب"شمس المعارف الكبرى"، هذه الأخيرة كرّست الارتباطات القائمة بين الحروف والعناصر الأربعة للطبيعة، السماوات السبع، الكواكب، البروج الإثني عشر والشخوصات الملائكية. وأشار كل من "سليمان حاشي" مدير مركز البحث في ما قبل التاريخ والأنثروبولوجيا، وكذا "سميح جيهان" الأستاذ بجامعة اسطنبول (تركيا)، إلى أنّ البوني لطالما أبرز تأثير ماهية الإنسان الكامل في التصوف التطبيقي، ما جعله رمزا للسخاء العلمي والإشعاع الفكري التصوفي. ويضاهي كتاب "شمس المعارف" للبوني مصنّف "غاية الحكيم" المؤلف أواسط القرن الحادي عشر والذي ترجم إلى اللاتينية بأمر ملك قشتالة ألفونس العاشر المدعو بالملك العالم نهاية الخمسينيات من المائة الثانية بعد الألف للميلاد والمنسوب للعالم العربي في الرياضيات والكيمياء والفلك المجريطي (950-1008م)، ولا يزال "شمس المعارف" يعد أهم مرجع في العلوم الباطنية والممارسات الكيميائية فضلا عن تركيب الحروف والأعداد والنظر في مفعولها ليس فقط في العالم الإسلامي بل وحتى في أوروبا وأمريكا، أين يحتمل – بحسب جاب الخير - أن يكون الكاتب أ.ب. لوفكرافت H.P. Lovecraft (1890-1937م) المعروف بكتاباته المرعبة والخيايلية قد استلهم من "شمس المعارف" في كتابة مؤلفه الشهير Necronomicon تماما كما فعل قبله الصيدلي الفرنسي ميشال نوسترودام Michel de Nostredame (1503 – 1566 م) المعروف بNostradamus) والمشهور بنبوءاته لمسار العالم. ويعتبر علم الحروف والألفاظ الذي تنبني على أساسه السيمياء علما كونيا لطالما استطرد ابن خلدون في ذكره عبر مقدمته الشهيرة، بيد أنّ جاب الخير يقدّر باحتمالية انحراف هذه التسمية لغويا، بحيث تشير في معناها الشائع إلى علم الجفر الشرعي من المصدر العربي كيمياء. والحال أن الحروفية لا تزال تسعى مشرقا ومغربا لتطوير معايير جمالية وأدبية وشعرية وعلمية ولاهوتية جديدة ولا تأل جهدا في سبيل توسعة نطاق بحثها إلى سائر فروع المعرفة ومجالات الكون كالعمران، علم النفس، الفيزياء، الكيمياء، وغيرها. وبرز علم الحروفية في القوقاز في حدود القرن الرابع عشر أين عرفت رواجا كبيرا بفضل الهمة الخارقة للصوفي الكبير فضل الله نعيمي أسترابادي أحد ورثة تعاليم الحلاج، ابن عربي وجلال الدين الرومي عبر أهم مؤلفاته "جاودان نامه" أو كتاب الخلود قبل أن يعدم من طرف ميران شاه نجل أمير تيمور عام 1394 بالقرب من قلعة آلنجه بمقاطعة نخجوان بآذربيجان. بيد أن التصوف الحروفي الذي انتقل بفضل الشاعر عماد الدين نسيمي تلميذ أسترابادي، واصل مسيرته في الأنضول وبلاد البلقان أين احتفظ بإرثه الروحي في نطاق الطريقة البكتاشية وهي طريقة فتوة منحدرة من الفنون القتالية للرماة المرابطين في بغداد انخرطت في قيدها العساكر الانكشارية، وامتد إشعاع الطريقة شرقا حتى وصل بلاد ما وراء النهر بآسيا الوسطى انطلاقا من أفغانستان بفضل المساعي الحثيثة للشاعر الصوفي الشهير قاسم الأنوار. بينما وصل التصوف الحروفي إلى أوروبا الغربية في خمسينيات القرن الماضي، في شكل اختراقات خطية أو تهليلات كتابية قائمة على تنظيم خاص للحروف والأشكال من إبداع الكاتب السينمائي والشاعر الفرنسي Jean-Isidore Goldstein، بتخليه عن استعمال الكلمات ارتبطت هذه المدرسة التي خلفت المدرسة الدادائية وعاصرت الفلسفة الوجودية بشاعرية الأصوات وحركة وموسيقى الأبجديات. وثمة الكثير من الأسماء الصوفية الجزائرية الكبيرة التي ما تزال خفية وتحتاج إلى التعريف بها عبر العالم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر "سيدي محمد بن عبد الرحمن القشطولي الأزهري الشريف الحسني" الولي الصالح الكبير صاحب البراهين الساطعة ومؤسس الطريقة الرحمانية الخلوتية، الذي ترك تراثا صوفيا لا يقدر بثمن، وهو الآن محل دراسات وبحث عميق في مخابر الدراسات الروحانية والباراسيكولوجية ومخابر الطاقة البشرية عبر العالم. ومن هؤلاء أيضا "سيدي أحمد بن مصطفى العلاوي الدرقاوي" مؤسس الطريقة العلاوية، التي تضم أتباعا في أماكن كثيرة من العالم وبخاصة أوروبا حيث كانت سببا في إسلام عدد كبير من الأوروبيين الذين قاموا بترجمة تراث الشيخ العلاوي حول مفهوم الصوفية للإنسان الكامل بشأن ماهية الإنسان الكامل في التصوف التطبيقي.