الذين يقولون إن الصحافة سلطة رابعة في الجزائر، تصل القمة كما تصل إلى القاعدة، ربما مخطئون، على الأقل في حكاية عائلة عناب بولاية أم البواقي التي كتبنا منذ خمس سنوات عن حكاية الأبناء الأربعة المرضى، الذين أصيبوا بعاهات عقلية، وتحوّل الموضوع إلى حدث اجتماعي كبير، وهبّت حينها عاصفة من النقد على المسؤولين، وظننا أن كشف المأساة قد ينهيها، خاصة أنها واقعة في قلب الأوراس، وفي بلد يزدحم بالآلاف من المليارديرات، هذا إذا لم تقم الدولة بوزارتي الصحة والتضامن الاجتماعي بدورهما، سألنا أول أمس الأربعاء الفاتح من أفريل، والد الأبناء الأربعة عن حاله، فتزامن وقت سؤالنا بسمكة أفريل، عندما صدمنا بكون كل الوعود التي وصلته، لم تكن أكثر من كذبات، ظل يلتهمها على مدار السنوات، فمازال أبناؤه مقيدين داخل بيت (كوخ)، وعندما يطلق سراحهم لبعض الوقت يهيمون في الخلاء، يأكلون الحشيش اليانع في هذا الربيع، مع الأغنام ويسرحون في المزابل مع الكلاب المتشردة، ويشربون من المجاري الكثيرة في قرية بئر الهنشير، الواقعة في ولاية أم البواقي. عمي السعيد قال ل''الشروق اليومي'' وهو يذرف الدموع: يستفيد كل ابن من أبنائي المرضى من مبلغ 0004 دج.. لا تكفي حتى لشراء الحفاظات، أما عن الأدوية والمسكنات فالأب مجبر على مدّ يده، خاصة أنه بلغ من العمر عتيا (36 سنة). زواج الأقارب الخطر المسكوت عنه مازال الآلاف من الجزائريين يتزوّجون من دم واحد، بعيدا عن الفحص الطبي الواجب القيام به، لتفادي الكوارث الخِلقية التي أتعست الآلاف من العائلات، والسيد السعيد عناب هو ضحية المجتمع وربما جهله، وأيضا عدم صرامة القوانين التي من المفروض أن تحمي الأفراد المخطئين، ففي عام 8791 ارتبط السعيد عناب بابنة عمه، التي تصغره بتسع سنوات، حيث بلغ حينها السادسة والعشرين ربيعا، وكان أول العنقود عام 1891 الطفلة لمياء التي ولدت مريضة عقليا، وعندما علم عمي السعيد بأن ثاني العنقود ذكرا، سارع لمنحه اسم محمد، وهذا في عام 6891 ولكن الأيام بيّنت بأن حال محمد العقلي مثل لمياء، وتواصل الجهل والإنجاب أيضا، بحثا عن السليم الأول في العائلة، فأنجب عام 8891 مولودا ثالثا اختار له اسم حسين، فكان ثالث المرضى نفسيا، وعندما بلغت لمياء العاشرة، وحتى آخر الأبناء وهو الطفل عبد الرشيد المولود عام 1991 كان متخلّف ذهنيا ''مونغولي''، ليجد عمي السعيد نفسه ربّ أسرة كما حلم دائما، ولكنها لا تختلف عن مستشفيات الأمراض العقلية. كان عمي السعيد يقسم بالله وهو يقول للشروق اليومي: أقسم بالله أن ابني الأكبر محمد الذي قارب سنه الثلاثين لم يخرج من البيت منذ أفريل من عام 4102، وهو مربوط مثل الحيوانات بالسلاسل، منذ سنة كاملة، لم ير النور بسبب عنفه، لقد طرقت مرة أخرى باب مستشفى الأمراض العقلية بوادي العثمانية بولاية ميلة، ولكنهم رفضوا استقبال أبنائي، لأنهم كبروا وكبر عنفهم وضياعهم، وصارت حالتهم العقلية ميؤوس منها، الوالد يسرح يومه بحثا عن لقمة العيش، والأبناء يكبرون ومشاكلهم تكبر وتذمّر الجيران وأهل الدوار تكبر. عمي السعيد لا يسكن بيتا ولا يمكنه أن يسكن بيتا ككل الناس، فالأبناء يكسّرون حتى المصابيح التي تضيء لهم المكان، أو المدافئ التي تقيهم قرّ الشتاء، أما الوالدة التي مازالت في الخمسينات من العمر، فتبدو مثل العجائز المعاقات، وهي تتحدث: ''لمياء بلغت الآن من العمر 43 عاما، لا تعرف النطق، تمنيت دائما أن تكون لي ابنة تلعب بدمية، وعندما بلغت السادسة من عمرها، تمنيت لو أدخلتها مثل كل الأطفال المدرسة، وهاهي الآن في عمر الزواج، وعمر إنجاب أحفادي ولكني لا أراها إلا تصيح وتبكي أو تجري في العراء، وترى ابنها محمد البالغ من العمر 92 سنة، مثل أي حيوان مفترس حرمه الله من العقل وأعطاه من قوة البدن يضرب الناس ويقذفهم بالحجر، وعندما تبلغ الوالدة حالة حسين 72 عاما، وعبد الرشيد 42 عاما، يشتد بكاؤها وتدرك بأنها عاشت للعذاب فقط، الأم المسكينة لا تحلم ككل النساء بزواج أبنائها، بأن تصبح جدة، بأن تزور البقاع المقدسة ولكم أن تتصوروا حالة امرأة من دون حاضر ولا مستقبل؟. أهل القرية هم من أجبروه على ربط أبنائه بالسلاسل لم يكن الزمن وحده من عذّب عمي السعيد، ولا الدولة فقط، وإنما المحيطين من حوله، لا أحد حنّ قلبه على حالته، وهو القاطن في شبه إسطبل، بل راحوا يجبرونه على أن يشتري سلاسل حديدية ويربط أبناءه في البيت، كان مطلب أهل الدوّار أن لا يشاهدوا هؤلاء الأبناء، كانوا يرونهم مثل الكلاب المفترسة، وأصعب ما قاله عمي السعيد''ما يحزنني أن الناس يشترون الخرفان ويتركوها هائمة في الخلاء، وأنا أقيّد أبنائي بالحديد، ليس خوفا عليهم وإنما خوفا على الناس منهم''.. فمنذ أفريل 4102 والابن محمد مربوط بالسلاسل في عمود بالكوخ، لأن مرضه عنيف، فقد خرج مرة ولم يعد، ظل يمشي ويجري لمدة أسبوع حتى وجده والده في مكان بعيد عن القرية، بأكثر من مئة كيلومتر في بلدية شلغوم العيد التابعة لولاية ميلة، ويتحوّل بكاء عمي السعيد إلى عويل، وهو يذكرنا بالقول بأنه يستعمل شاحنة عندما ينقل أبناءه للعلاج، مربوطين مثل البقر، البعض يطلبون مني مغادرة الدوار وآخرون يعتبرونني ضائعا مثل أبنائي، سألناه ثم ماذا، فقال: حلم حياتي الآن هو الموت. والذي يرى حالة هذا الأب الذي عاش ربع قرن في الضياع، قد لا يلومه حتى لا نقول يوافقه في أن الموت هو فعلا راحة، لهذه العائلة التي ابتعدت عن الدنيا وقد لا تعود. عمي السعيد تشبث بأمل الخلاص، في الأيام الماضية، راسل السيد عبد المالك سلال، وكانت فرحته لا توصف عندما وصلته رسالة من ديوان الوزير الأول، ولكن الرسالة وجهته مباشرة لوزارة التضامن، فأسرع في خط رسالة إلى الوزارة المعنية، متضمنة لشهادات طبية وصور للأبناء المربوطين بالسلاسل، ولكن رسالته بقيت من دون ردّ، وهو ما جعله يقول باكيا: ''لا تكتبوا عن معاناتي لقد نقلت الشروق مأساتي في جريدتها وقناتها التلفزيونية ولكن لا حياة لمن تنادي''. الصحراوي .. ربع قرن مقيّد القدمين غير بعيد عن ولاية أم البواقي، مسرح المأساة الأولى، تنقلنا إلى ولاية باتنة، لنقل مأساة ''رجل السلاسل''....الذي يعيش مأساة عمرها أكثر من 53 سنة. وصلنا بلدية لازروا في الجهة الغربية لولاية باتنة، والتي تبعد عن عاصمة الولاية ب05 كلم، أين يتواجد المنزل العائلي للشقي الصحراوي بوعزة البالغ من العمر16 سنة، والمعروف في المنطقة برجل السلاسل نسبة للسلاسل والقيود التي لم تغادر رجليه منذ سنوات، وجعلته سجين غرفة، شاءت إرادة الله أن تحمل بين جدرانها العديد من الذكريات المريرة، خاصة وأن الصحراوي لم ير نور الشمس منذ سنوات مرضه، وكان في استقبالنا أمّه العجوز وأبوه، وقد قارب سنهما التسعين، تقربنا منهما واستفسرنا عن الصحراوي فكان لهما حديث طويل امتزج بالدموع تارة وبحمد الله أخرى، وبتنهيدات في غالب الأحيان. الصحراوي.. حلم تحوّل إلى كابوس تحكي لنا الحاجة يامنة عن قصة ابنها منذ ولادته، حيث أكدت أنه خرج للدنيا وهو يحمل آمال والدته عام أربعة وخمسين، خاصة وأن حلمها تحقق بأن رزقها الله بطفل ولد، كان بهجة العائلة وفرحها، حيث كان الأب لا يغادر المنزل من دونه، فيصطحبه معه لرعي الأغنام، فكبر الصحراوي وأصبح مسؤولا على قطيع الغنم، وبقي الصحراوي يمتهن الرعي طيلة عشر سنوات، فأعان العائلة كلها وساعد والده في تحصيل المصروف، فكان على قدر الواجب الذي كلف به، إلى أن أصيب بمرض مفاجىء في رأسه، جعله لا يفرق بين الأخ والأب والأم، مرض مفاجئ حطم قلوب كل أفراد العائلة، الذين لم يبخلوا على الصحراوي بمالهم المدخّر والذي أنفق بالكامل، في رحلة علاج لم تكتمل، بسبب الوضع المزري والفقر المدقع الذي تعيشه العائلة، خالتي اليامنة قالت للشروق اليومي: كنت وزوجي عاجزين عن تقديم أي شيء لفلذة كبدي، والدموع التي خرجت حزنا على الصحراوي، لا يعلم حرقتها إلا الله، وأنا أغرق في بحر عميق من الحيرة والتشاؤم، حتى أنني أصبحت لا أنتظر أي شيء يفرحني، بل تفكيري وخوفي كله هو وضعه بعد موتي''. عندما تصبح السلاسل الحل الوحيد تعقدت الأمور على الصحراوي خاصة بعد فشل رحلة العلاج، حيث أصبح لا يعرف المنزل، وكان إذا خرج لا يرجع إلا بعد أسابيع، وعن هذا الوضع يحكي ابن عمه حمزة بوعزة عن حادثة تعرضه لإطلاق نار من قبل أعوان الحرس البلدي، عن طريق الخطأ، حيث اشتبه في الصحراوي بأنه إرهابي، حاول اقتحام مدرج مطار مصطفى بن بولعيد بباتنة، ليتراجع أعوان الحرس بعد اكتشافهم بأنه مريض، وأعادوه إلى المنزل سليما معافى، لتمر الأيام ويخرج الصحراوي من المنزل شتاء، أين جرفته السيول ولم يعرف عنه الناس أي خبر فاعتقدوه ميتا، خاصة وأن فترة غيابه فاقت الشهرين، ليعود الصحراوي إلى المنزل بقدرة الخالق، وتبدأ حكاية القيود والسلاسل التي رأى فيها أفراد العائلة الحل الوحيد لمنعه من الخروج، خوفا عليه وخوفا منه على الناس، حيث تم تقييد الصحراوي بسلاسل لم تغادر قدميه منذ ربع قرن. بيت من مترين ومرحاضه إناء هذا الوضع أجبر صحراوي أو كما يسميه البعض''رجل السلاسل'' حبيس غرفة لا تتعدى مساحتها المترين، يفترش فيها التراب، لتستمر المعاناة في غرفة سجن موحشة، ارتفعت بها نسبة الرطوبة وغابت عنها الإنارة ودورة المياه التي عوّضتها الأم بإناء يقضي فيه الصحراوي حاجته، حفاظا على نظافة المكان، والملفت للانتباه أن غرفة الصحراوي ليس بها باب وسقفها مصنوع من صفائح خشبية، وجدرانها متشققة مهدّدة بالانهيار في أية لحظة، إلى هنا سنعتبر الأمر عاديا، حتى وإن كانت مأساة رجل لم يعش مثل باقي الرجال. إلا أن الأمر المحيّر هو عدم زيارته للطبيب منذ سنوات، ولم يعان من مشاكل مرضية وأزمات مزمنة في ظل الظروف المناخية القاسية، وطبيعة المنزل المتميز بالبرودة القاسية شتاء، والحرارة المرتفعة صيفا، وضع مأساوي قال عنه بعض الجيران الذين التقت بهم الشروق اليومي بأنه خارج اهتمامات المسؤولين الذين يأتون لتسوّل أصواتهم في الحملات الانتخابية فقط، وحتى الجمعيات الخيرية التي يهمها التقرب من المسؤولين وليس النزول إلى الجزائر العميقة، أما أكل الصحراوي ووجبات إطعامه، فأمه البالغة من العمر 68 سنة رفقة والده البالغ من العمر 78 سنة، هما من يتكفلان بتحضيرها وسط ظروف بدائية تنعدم فيها أدنى شروط النظافة، يحكي ابن عمه لزهر وعلامات الحزن والأسى بادية على وجهه: إنه يعيش مع أسرته الفقيرة، ظروفا معيشية قاسية، خاصة وأنه يفتقد لأي مدخول شهري، ليصبح عالة على أمه التي تعاني أصلا من أمراض مزمنة أخرى وخاصة الشيخوخة لأن اللائي في عمرها قد ارتاحوا من تعب الحياة، ربما الإعاقة سرقت منه حريته وقيّدت حركته، ولكنها لم تسرق منه قوة الإرادة والإيمان بقضاء الله وقدره. ويضيف والده عمي حسين عن حكاية سجنه: القيود هي التي أعادت الحياة للصحراوي، ولنا جميعا، خاصة بعد أن اطمأن قلبي وأصبح قريبا مني، ويؤكد أنه خلال فترة تواجده بالغرفة التي لا توجد بها نافذة، إذ أن الصحراوي لم يخرج إلى الشارع، ولم ير نور الشمس منذ سنوات، كما أن الصحراوي لا يعرف مصطلح النوم، لأنه لا ينام ليلا ولا نهارا، فوقته كله حديث لا ينقطع مع ظلام المنزل الكئيب، ومن المفارقات أيضا فإن الصحراوي لا يعرف من الحديث سوى ''ربي...ربي'' ليضرب مثلا في الصبر والإيمان بقدرة الله، خاصة وأنه كان ينوي الزواج وتكوين أسرة قبل أن يضربه الداء. مأساة لمياء ومحمد وحسين وعبد الرشيد والصحراوي، لا يتحملها أولياءهم، ولكن المجتمع الذي يضم الآلاف من الأثرياء الذين ينفق بعضهم على كلابه وقططه وخليلاته الملايين، والدولة التي قارب احتياطها من العملة الصعبة المئتي مليار دولار قبل أن تطير منه عشرين مليارا بعد انهيار أسعار النفط، هم مسؤولون وسيبقون أمام هؤلاء الضحايا، الذين ولدتهم أمهاتهم ليكونوا أحرارا، فوجدوا أنفسهم مقيّدين بالحديد ولا ذنب لهم سوى مرض عابر..لم يرتكبوه.