لا يمكن أن تظهر أي عروس قسنطينية بغير الجبة أو ڤندورة القطيفة، المطرزة بخيوط الذهب والفضة، ويستحيل أن تغادر أي عروس بيت أبيها إن لم يكن في أغراضها على الأقل واحدة من تلك التحف التي أبدع الخياطون والطرازون في رسم أشكالها ونقوشها حتى صارت هذه القطعة أكبر من مجرد ثياب يلبسنها حفيدات صالح باي، للتباهي بجمالهن وعراقة أصلهن، بل أصبحت تاريخا بكامله. ترتبط الجبة "القسمطينية" بالمالوف وقعدة السلاطين والمجالس الراقية، فما إن دخلنا الزقاق المتفرع عن السوق الكبير، حتى انطلق صوت الحاج محمد الطاهر الفرڤاني من أحد المحلات المجاورة لمحل الحاج محمد الأخضر عزي، أحد أشهر وأقدم مصممي وصناع ڤندورة القطيفة. وجدنا الرجل الذي يزيد عمره عن الثمانين عاما منكبا على بعض أوراقه، رحّب بنا بحفاوة ابن البلد الأصيل، صوت الفرڤاني الذي كان ما يزال يصدح من الزقاق المجاور أعاد إلى ذهني لغز التسمية، فكان أول سؤال تبادر إلى ذهني على إيقاع صوت الفرڤاني، لماذا سميت الجبة القسنطينية بجبة الفرڤاني؟ كان هذا السؤال كافيا ليفك لسان الحاج عزي ويبدأ في سرد تاريخ أعرق وأغلى لباس تقليدي في قسنطينة، أخبرنا الحاج أن هذه التسمية لغط جرى على ألسنة الناس، لأن ڤندورة القطيفة وُجدت قبل أن يوجد الفرڤاني وقبل أن يدخل قسنطينة وهو نفسه يعلم أن هذا الادعاء غير صحيح لكنه لم يعمل على تصحيح التاريخ. ويضيف الحاج محمد عزي: "تاريخ اللباس التقليدي لا أملكه أنا ولا يملكه الفرڤاني، لكنه ملك للشعب الجزائري قاطبة ولا يحق أن نقفز عليه". محمد الطاهر "رقاني" عمل زمنا في صناعة المجبود والطرز التقليدي مثل أخيه عبد الكريم، الذي بقي فيها زمنا أطول، وقد تعلم الاثنان على أيدي حرفي يهودي يدعى "لامي"، الذي علم أيضا حرفين آخرين في هذا المجال منهم عمار باجو، أحد أشهر صناع المجبود القسنطيني. في محله العريق عراقة هذه الصناعة، كان محدثنا يواصل سرد قصة تمتد إلى آلاف السنين، قائلا إن الفرڤاني الذي ادعى يوما أن أصوله تعود إلى السعودية، سبق أن دعي إلى مهرجان طريق الحرير في إطار مسابقة في الغناء وجاء يومها في المرتبة 11 ولما عاد سألته الصحفية عن انطباعاته عن المهرجان، فقال لها إنني وجدت أصلي من فرغانة، أقول هذا الكلام ليس تهجما على الرجل فهو صديقي وأحترمه، لكن الجريدة التي كتبت هذا الكلام ما زالت بحوزتي إلى اليوم. كان الحاج الفرڤاني يلبس الفتيات في حفلاته الڤندورة القسنطينية وكان أخوه عبد الكريم حرفيا وابن أخته أيضا يملك محلا للمجبود فجرت على ألسنة الناس نسبة الڤندورة إلى الفرڤاني، وهو "لقاها خرجت عليه" ولم يعمل على تصحيحها، وهذا تزوير للتاريخ. الحاج محمد الأخضر عزي، حتى وهو في هذا السن ما زال وفيا لصناعته "أموت إذا توقفت عن العمل ليس حبا في المال، لأنني والحمد الله مرتاح، لكن لأني الصناعة تجري في دمي"، 83 سنة مشوار طويل في الحياة، قضى محدثنا أكثر من نصف المدة في صناعة التحف التي ترتديها بنات قسنطينة وهو مطالب في كل مرة بابتكار تصميم جديد أو إبداع جديد يقوم هو بتنفيذه وخياطته وطرزه تماشيا مع العصر وأذواق الأجيال الجديدة. في عائلة عزي الآن هناك أربعة أجيال من مبدعي التصميمات في هذا المجال، فالحاج محمد الأخضر الذي أخذ الصناعة عن أبيه ورثها لأبنائه الذين ينقلونها اليوم بدورهم إلى أبنائهم، حتى صار اسم عزي علامة مسجل في هذا المجال، معروفة ليس فقط في جميع ربوع الجزائر، لكن حتى في الخارج أيضا. فهذه العلامة حازت على النجمة الذهبية في 163 بلد عربي وأجنبي من الإمارات العربية إلى كوريا والصين التي أعجبت نجمات التلفزيون، فيها بإبداعات أنامل عزي حتى أغرمن "بالفيسة" المطرزة على طريقة الحاج محمد الأخضر وصرن يظهرن بها في بلاتوهات التصوير. إعجاب نجمات الصين باللباس التقليدي القسنطيني ليس استثناء، فالكثير من الأسماء الكبيرة من داخل وخارج الوطن ألبستها أنامل الحاج عزي: من زوجة القذافي إلى حرم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد والنجمة أمال بوشوشة والروائية أحلام مستغانمي، وتقريبا كل نجمات الغناء والتلفزيون في الجزائر اللواتي يظهرن بهذا اللباس هو من توقيع دار عزي للأزياء التقليدية. يبدو الحاج محمد الأخضر حتى وهو يتقدم في العمر خبيرا بأدق تفاصيل هذه الصناعة وقادرا على التفريق بين الحر والمزيف لأن الڤندورة العريقة تصنع بخيوط رقيقة بيضاء من الفضة أو بالخيط الأصفر المصنوع من الذهب وخيط الفتلة الحرة الأصلية متكون من 12 خيطا لا تلصق لا على الجلد ولا على الكارطون لكنها تصنع على "لتوال" هذا بخصوص الفتلة يقول الحاج عزي، أما خيط المجبود فهو يستخدم على الجلد وقطيفة "جنوة" المصنوعة من خيط الحرير تاريخها يعود إلى1450. سميت بها الاسم نسبة إلى منطقة جنوة الإيطالية وعندما انتشر هناك المحتالون والمجرمون هرب الصناع بصناعتهم إلى ليون الفرنسية التي كانت مركز الصناعات النسيجية في فرنسا وعاصمة، حتى قبل باريس فأطلقوا عليها اسم قاطفة جنوة نسبة للمنطقة التي انحدروا منها. هذا النوع من القطيفة عرضها 48 سنتيما ولا تصنع إلا في الشرق الجزائري، كان الحاج عزي في السابق يملك معملا لصناعة هذا النوع من القطيفة لكنه توقف بسبب غياب الدعم. عندما يعود محمد الأخضر عزي إلى تاريخ عائلته مع هذه الصناعة تتوقف ذاكرته عند تاريخ 1889 عندما دونت فرنسا، بأن مهنته صانع ألبسة، لأن فرنسا كانت تسعى لطمس معالم هوية الشعب الجزائري حتى لو كانت في اللباس ولكن حتى قبل تاريخ 1889، كانت قصة عائلة عزي قد بدأت مبكرا مع هذه الصناعة، فوالده أخذها بدوره عن والده وسعى ليورثها لابنه محمد الأخضر الذي اشتغل لفترة ثم توقف، ولكن الحنين للإبرة والخيوط عاوده فأعاد تشغيل معمله بعد الثورة، وبدأ في شق طريقه "درجة درجة" حتى صار أشهر صانع ليس في قسنطينة فقط، لكن في الجزائر كلها وامتد اسمه إلى خارج البلاد. الحاج عزي نقل الصنعة إلى ابنه الذي يسعى اليوم لنقلها لأبنائه واليوم يتجول عبر العالم في معارض لتقديم جزء من ثقافة الجزائر متمثلة في لباسها التقليدي فمن ميلانو إلى الإمارات العربية إلى كوريا والصين التي عاشت 6 أشهر على إيقاع إبداعات الحاج عزي وأبنائه. في حديثه يبدو عمي محمد الأخضر عزي متحصرا بعض الشيء على صناعة اليوم، فأغلب الحرفين خاصة الشباب منهم لا يعرفون حتى ماذا يعملون منذ ظهور التقليد في العلامات والأقمشة بل حتى المادة الأولية. أما قبل هذا فكانت الصناعة تنسب للأسماء الكبيرة التي وقعتها أمثال العربي بن مفتي، وأخوه سليم، الذي كان يشرف على تعليم الصناعة التقليدية للشباب في قسنطينة كما علم أيضا لفترة في الجزائر العاصمة، وعمر بلزناجي وعمار باجو الذي كان إلى جانب سليم رقاني أحد تلاميذ محترف يهودي يدعى لامي، حيث كان اليهود يلبسون نفس لباس المسلمين وكان يفرق بينهما في طول خيط الشاشية أو الكبوس. الحاج عزي الذي أشرف على تعليم أكثر من 300 شاب في معمله المجاور للورشة، قبل أن ينهار البناء القديم الذي كان يضم الورشة الحرفية، اعتبر أن نسب الصناعة التقليدية القسنطينية والڤندورة تحديدا إلى الأندلس أو تركيا محض ادعاء وتزوير للتاريخ، لأن حسبه، أول من أدخل الطرز التقليدي إلى اسبانيا كان زرياب الذي أخذ معه أيضا العود وطباخ ومزين وهكذا عرف الإسبان الكثير من التقاليد العربية وأخذوا عنها ومنها السترة التي يلبسها مصارعو الثيران في حلبات المصارعة، حيث يعود طرزها إلى تاريخ إعجاب الإسبان بتراث زرياب. يبدو الحاج عزي غير راض عن التدهور الذي تعرفه صناعة الڤندورة القسنطينية اليوم، فالشباب الذين تنقل إليهم الصناعة اليوم يواجهون تحدي الحفاظ على أصالة ما توقعه أناملهم ولكن يبدو هذا خيارا صعبا في ظل انتشار التقليد وارتفاع أسعار المادة الأولية، فالقطيفة الحرة اليوم صارت عملة نادرة وسعر المتر الواحد قد يتجاوز20 ألف دينار وقطيفة جنوة التي كانت تصنع من خيوط الحرير صارت اليوم تصنع من لستا والجلد الأصلي عوض اليوم ب" الصالبا" والكارطون وخيوط الذهب والفضة عوضت بألوان لا علاقة بالمعادن الثمينة . ويعتبر الحاج عزي أن هذه التغيرات التي تهدد اليوم أصالة الصناعة التقليدية تعود إلى ارتفاع أسعار وندرة المادة الأولية والاستعجال في الربح السريع، والقدرة الشرائية للناس اليوم تدفع الكثيرين إلى اختيار الأقل سعرا، لكن الحاج عزي الخبير في هذا النوع من التفاصيل، يؤكد أن الڤندورة الحرة لا يمكن لسعرها أن يكون أقل من 8 ملايين.
رغم تقدمه في السن ورغم العراقيل التي تهدد تراجع الصناعة التقليدية، يبدو الحاج عزي مصرا على الحفاظ والتمسك بتراثه والسير به على نفس النهج والإتقان الذي ورثه عن أبيه وجده، ويسعى اليوم لنقله لأحفاده بنفس الإصرار والعزيمة، فأعراس قسنطينة يستحيل أن تمر بدون بذخ خيوط الذهب وأناقة القطيفة.