يُشكِّل رحيل محمود درويش في مثل هذا الزمن الموبوء بكراهية الشعر والشعراء وبتمجيد الراقصين والراقصات، انكسارا إنسانيا لن يُشفى منه الوطنيون أبدا. * ولوعة تضاف إلى أخواتها من حُزمة الخيبات التي تورطنا فيها بإرادة البعض وتغافل البعض الآخر، كما أن الإحساس برحيله يتّسع ويتعاظم عند أولئك الذين فقدوا الحق في الكلام، حيث كانوا يرون فيه دوما محاميا ناجحا وشاعرا نبيلا وصاحب (جدارية) لا تزول! * قبل سنوات قليلة كان للكلمة وقعها وصداها، حُرمتها وجلالها، أما اليوم وبعد ما دخلنا لعبة الكلمات التضليلية أصبحنا ضحايا لتواطئها وغدرها، فكم من كلمة كاذبة رفعت صاحبها للسلطة، وكم من كلمة صادقة رمت بقائلها خلف القضبان، ودرويش الذي كان يعشق عمره خوفا من دموع والدته إذا مات، كان من الصنف الثاني الذي لا يموت! * لا تعتذر عما فعلت) هو عنوان ديوان شعري لمحمود درويش، لا بل انه ليس مجرّد ديوان شعري، بل هو شاهد على مأساة المراهقة السياسية المتأخرة التي أصابت كبار المناضلين في الوطن المفقود، وهو دليل اتهام وإدانة ضدّ سارقي الوطن باسم النضال أو باسم المقاومة في فلسطين، فكلاهما متشابهان! * درويش الذي أخفقت كلماته أن تُوحّد الفلسطينيين حيّا رغم أن آخر قصائده كشفت أن كلّ ما يحدث من فتنة هو (سيناريو جاهز)، نراه اليوم شاهدا على هذه الفتنة وشهيدا لها، وكم نحلم أن يوحّد جثمانه الإخوة بعد ما فرقتهم السياسة ولطختهم المصالح، لكن هيهات، فزمن الشعر الذي يُوحّد انتهى، و(سقط القناع) فعلا عن جميع أولئك الذين كانت كلمات درويش تؤذيهم حتى وان كانوا يعبرون فوقها بلا اهتمام! * انه لمن الصعب تماما العثور على كلمات لتأبين سيّد الكلمات محمود درويش، ولكن يبدو الأمر مُوجعا عندما نعلم أن الراحل عنّا اليوم هو من قال لنا بالأمس (حاصر حصارك لا مفر، اضرب عدوك لا مفر)، رحل ومن حوصر فقط هي غزة، ومن ضَرب وضُرب هم الفلسطينيون وحدهم... محمود درويش نم مرتاحا، وبقلب مفتوح، فقد أنقذت شرفك يوم استقلت عن السياسة منفِّذا واخترت أن تكون منقذا، ونقّيا، شاهدا وشهيدا.. نم مرتاحا فأنت الآن.. حرّ و حرّ وحرّ!