طوال أكثر من 300 كيلو متر تفصل القاهرة عن مدينة رفح المصرية، ظللت أفكر في كلمات ودموع الجزائريات اللواتي التقيتهن في السفارة الجزائريةبالقاهرة، قطعت السيارة التي امتطيتها طريقا طويلا، بدأت أشعر به بمجرد عبوري لقناة السويس والسير في صحراء سيناء، وبعد 07 ساعات وصلت أخيرا إلى المدينة التي طالما سجلت أحيائها وشوارعها الكثير من المآسي التي تتناقلها وسائل الإعلام حول الفلسطينيين المحاصرين في سجن غزة، ذهبت لأقتفي أثر فصل من فصول القضية الفلسطينية، لكنه وثيق الصلة بالجزائر، فخلق بدوره قضية جزائرية في عمق الأراضي المحتلة. * معبر رفح... قصة فضيحة * * وحينما وصلت إلى مدينة رفح المصرية، حيث الحدود مع فلسطينالمحتلة، بدأت أنبش عن أصل هذه المدينة وتاريخها، فاكتشفت أن قصة معبر رفح مليئة بالتفاصيل التي تمثل فضيحة ستظل تطارد المسؤولين عنها للأبد، فالقصة تبدأ منذ عام 1967 حين اجتاح الصهاينة قطاع غزة، والذي كان وقتها تحت السيطرة المصرية، ومنذ ذلك الوقت وقطاع غزة واقع تحت الاحتلال، الذي يتحكم في كل القطاع وفي كل منافذه البرية والبحرية والجوية، وحين تم توقيع اتفاقية كامب ديفيد التزمت مصر بنشر قوات قليلة العدد وقليلة التسليح في كل سيناء وينتشر على طول الحدود بين مصر وفلسطينالمحتلة قوات دولية وقوات حدودية مصرية صغيرة جدا، وعلى مدار أربعة عقود مارس الكيان الصهيوني شتى أنواع القسوة والإذلال ضد الفلسطينيين، ومن ضمن هذا الإذلال تحكمه في معبر رفح الحدودي بين مصر وقطاع غزة، ومعبر رفح هو المنفذ الوحيد لسكان غزة للسفر والدخول سواء للحج أو العمرة أو العلاج أو الدراسة أو زيارة الأهل والأقارب خارج فلسطين، ولأن المعبر خاضع للكيان الغاصب فإن رحلة التعذيب والإذلال للداخلين والخارجين تستمر كل فترة، وخصوصا كلما اشتدت وتيرة الانتفاضة والمقاومة في داخل فلسطين، واستمر هذا الوضع حتى عام 2005 ، حين استطاعت المقاومة الفلسطينية تكبيد الكيان الصهيوني خسائر كبيرة أجبرته على الانسحاب من غزة، فأصبح معبر رفح تحت سيادة مصرية فلسطينية، لكن الصهاينة لم يتقبلوا الحرمان من السيطرة الفعلية على معبر رفح، فتم الاتفاق بين كل من تل أبيب ومصر والقيادة الفلسطينية على أن يكون المعبر تحت سيطرة مراقبين دوليين من الاتحاد الأوروبي، وأن يزود بكاميرات مراقبة تنقل للكيان كل التفاصيل التي تحدث داخل المعبر، ولتل أبيب الحق في إغلاق المعبر متى تشاء بحجة الأوضاع الأمنية، وتم تعديل اتفاقية كامب ديفيد بين القاهرة وتل أبيب لتسمح الأخيرة لمصر بزيادة عدد قواتها على الحدود مع غزة لمنع أي مساعدة أو تهريب للسلاح، وبدل أن تكون السيادة على المعبر فلسطينية مصرية، أصبحت السيادة صهيونية أولا ثم أوروبية ثانيا ثم سيادة هامشية لمصر وفلسطين. * * * مدينة قسمها الاحتلال لشطرين * * * بمجرد وصولي لمدينة رفح المصرية، أخبرني الأهالي أنها تشبه إلى حد بعيد شطرها الفلسطيني، أي رفح الفلسطينية، نمط المعيشة والبناء والتعامل واللهجة، كل شيء متماثل تماما، فقد كانت رفح بقسميها الفلسطيني والمصري مدينة واحدة، لكن المأساة وقعت عندما احتل الكيان الصهيوني كلا من قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية عام 1967 ، وبالتالي لم يكن يفصل بين رفح المصرية والفلسطينية أي حدود، فتشكلت علاقات اجتماعية كبيرة بين سكان رفح المصرية والفلسطينية، وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 وتنفيذ الشق الخاص برسم الحدود الفلسطينية المصرية تم فصل رفح المصرية عن رفح الفلسطينية، وبالتالي تم تشتيت العائلات وفصلهم عن بعضهم البعض مما أدى إلى خلق كارثة إنسانية وخاصة بعد أن تحكمت إسرائيل بمعبر رفح وأصبحت القوات الصهيونية تمنع مرور الفلسطينيين من خلال هذا المعبر، فجعلت قطاع غزة سجنا محكم الإغلاق. * * 05 أقفال في وجه الفلسطينيين * * * وحسب خريطة المعابر، فإن هناك خمسة معابر تحيط قطاع غزة، لكن جميعها حاليا تقع تحت السيطرة الصهيونية الكاملة، وهذه المعابر التي تحولت إلى أقفال مرتبة من الشمال إلى الجنوب على النحو التالي: * - معبر بيت حانون، ويقع شمال القطاع، وهو مخصص لعبور العمال والتجار ورجال الأعمال والشخصيات المهمة. * - معبر ناحال عوز، وهو معبر مهجور ومغلق، وتم تحويله لموقع عسكري، حيث كان مخصصا في السابق لدخول العمال والبضائع. * - معبر المنطار، وهو معبر تجاري يقع إلى الشرق من مدينة غزة على خط التماس الفاصل بين قطاع غزة والكيان الصهيوني، وهو مخصص للحركة التجارية من وإلى القطاع وكذلك لتصدير الخضروات إلى الضفة الغربية. * - معبر صوفيا، ويقع في الجنوب الشرقي من خان يونس، وهو معبر يصل القطاع والكيان، ويستخدم لدخول العمال ومواد البناء إلى قطاع غزة. * - معبر رفح الواصل بين قطاع غزة ومصر، وكان يخضع لإشراف فلسطيني صهيوني مشترك في السنوات الأخيرة. * * * تجار الجشع ومحترفو الابتزاز * * * كان النهار قد أوشك على الزوال، وأمام إغلاق محكم لمعبر رفح، حيث انعدمت الحركة على الطرق المؤدية إليه، عدت لقلب المدينة، لأبحث عن مكان أتناول فيه الإفطار، كانت المحلات التجارية والمطاعم قد شرعت أبوابها، وكان هناك كم كبير من الصائمين يتوجهون إلى تلك المطاعم والمحلات مما يدل على أن كثير من الناس ليسوا سكانا أصليين للمدينة، التي غالبا ما تشهد مواسم تجارية ساخنة، كلما فتح المعبر أبوابه، وحسب لوائح الأسعار يتضح أن ثمة جشع كبير يخيم على النظام التجاري في المدينة، فتكاد الأسعار تفوق نظيرتها في المدن السياحية الكبرى مثل شرم الشيخ والغردقة، والتجار في هذه المدينة يعرفون كيف يستثمرون في ضيق ومعاناة الآخرين، ويكفي القول أن عشرات الملايين من الدولارات حققها تجار رفح في الشتاء الماضي في ظرف ثلاثة أيام فقط، حينما فتح المعبر عن الفلسطينيين المحاصرين لشهور، ليجدوا كل شيء يباع بأضعاف ثمنه عشرات المرات، أما عن العملة المتداولة هنا فلا وطن لها، فهي بالدولار والأورو والجنيه والشيكل، المهم أنه لا شيء هنا مجانا، ولا وجود لكلمة »باطل«، ولعل التركيبة الاجتماعية لسكان مدينة رفح هي التي فرضت هذا النمط الغابي في المعيشة، فالسكان من كل حدب وصوب، منهم الفلسطينيون ومنهم المصريون، وهناك أصحاب الجنسيات الأخرى، ولم يجتمع كل هؤلاء في هذه البقعة الجغرافية الضيقة إلا من أجل التربح والاستفادة بأكبر شكل ممكن من معاناة الفلسطينيين المحاصرين. * * * جزائريات تحت رحمة الصهاينة * * * وبين هذا الصخب السكاني أخذت أبحث عن جزائريين، وللمفارقة لم أتعب كثيرا في البحث، ووجدت ضالتي سريعا، فبمجرد سؤالي عن جزائري أو جزائرية في المدينة، دلني الكثيرون على تاجر مواد غذائية يمتلك محلا كبيرا في وسط المدينة، انه »عم حمزة« الذي يبلغ من العمر 64 عاما، وصلت إليه فأخبرني أنه فلسطيني الأصل ومتحصل على الجنسية الجزائرية ومتزوج أيضا من جزائرية من تبسة، وكتب له أن يعيش في الجزائر لسنوات في السبعينيات من القرن الماضي، وانتقل إلى غزة ومن ثم إلى رفح المصرية، ليبقى متنقلا بين فلسطين ومصر، في حين انقطعت زوجته عن زيارة أهلها بالجزائر. * عم حمزة أكد لي أن هناك أكثر من 500 عائلة جزائرية مقيمة في القطاع، وأن هناك المئات من الجزائريات اللاتي رحلن إلى غزة مع أزواجهن الفلسطينيين بأرقام وطنية، وأخريات بتصاريح زيارة، بالإضافة إلى فلسطينيين حصلوا على جنسيات جزائرية أثناء إقامتهم في الجزائر، وهناك جزائريات محاصرات في القطاع منذ عشر سنوات غير قادرات على زيارة ذويهن في الجزائر. * * * جزائريون استشهدوا برصاص صهيوني وآخرون قتلوا غدرا * * * وعن الأحوال المعيشية للأسر الجزائرية في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، لم يترك عم حمزة أي شكل من أشكال المعاناة ولا لفظ يعبر عن الفاجعة إلا وذكره، ومن ضمن ما قاله إن هناك شاب جزائري يبلغ من العمر 27 عاما سقط أمام عينيه برصاص قوات الاحتلال الصهيوني، وأن عددا آخر من الشباب الجزائريين سقطوا أثناء انتفاضة الأقصى، وأنه شارك في تشييعهم، ومن الحكايات المأساوية التي يرويها عم حمزة قصة الشاب »منذر كلاب« الذي ولد في ولاية معسكر لأب فلسطيني وأم جزائرية، وهو وحيد والديه، وحينما بلغ من العمر 35 عاما اقتنصته رصاصات الغدر أثناء الفتنة التي اندلعت بين فتح وحماس، وعرج عم حمزة على قصة امرأتين جزائريتين من ولاية وهران ماتتا ودفنتا في غزة، الأولى تدعى »سعاد رباح« والثانية تدعى »عائشة أبو طير«، ويذكر أن الأولى لديها ابن يدرس الطب في الجزائر، وحرمه معبر رفح من حضور جنازة أمه، وتنهد عم حمزة قائلا، هناك الكثير من الحكايات والمآسي التي تحتاج كثيرا من الوقت لسردها. * ويضيف عم حمزة: لكن الجزائرية »كريمة ملزي« هي أشهر الجزائريات في غزة، فهي متزوجة من فلسطيني يدعى »رجاء أبو دقة«، وهي التي فجرت مؤخراً قضية الجزائريات في غزة، عندما وجهت رسالة إلى الرئيس عباس ناشدته فيها التدخل لحل أزمتها بعد انتهاء تاريخ جواز سفرها الجزائري وعدم قدرتها على الحصول على هوية فلسطينية من خلال تصاريح لم الشمل بحكم زواجها من فلسطيني، وعدم مقدرتها على السفر منذ عشرة أعوام لم تر خلالها أهلها، وقامت أيضا بتوجيه رسائل للجمعيات الحقوقية الجزائرية، مرسلة إليهم ملفا كاملا بأسماء النساء والعائلات الجزائرية في قطاع غزة، لكننا حتى اليوم لم نلمس تحركا رسميا جزائريا، رغم أن الأمر يتعلق بشرف وطن وكرامة أمة.