نقلت وسائل إعلام عدة بداية هذا الأسبوع موقف بنك الجزائر من موضوع ضبط سياسة صرف الدينار الجزائري وذلك على خلفية التقرير الخاص الذي أصدرته السلطة النقدية الأولى في البلاد نهاية الأسبوع الماضي في هذا الشأن. ويشير التقرير بكل وضوح الى استمرار العمل بالآلية المتبعة حاليا في تحديد سعر العملة الوطنية، وبالتالي الحفاظ على القيمة الحالية للدينار الجزائري. * وكانت مؤسسة صندوق النقد الدولي دعت السلطات النقدية في الجزائر - في وقت سابق - الى مراجعة سعر صرف الدينار الجزائري بناء على المعطيات الحالية للاقتصاد الوطني، دعوة ليست بالجديدة إذ سبق أن دعونا الى ذلك في مقالات ومناسبات إعلامية سابقة. فماذا يعني أن تختلف مؤسستان نقديتان كبيرتان هما بنك الجزائرفي آلية تحديد سعر صرف الدينار؟ وماذا عساه يجني الاقتصاد الوطني من السعر الأدنى للعملة المحلية؟ التعويم الموجه للدينار توصف الآلية التي يطبقها بنك الجزائر في تحديد سعر الدينار بالتعويم الموجه، وتستند الى إبداعات روبنسون في نظرية المرونات التي ظهرت قبيل الحرب العالمية الثانية ثم اعتمدتها مؤسسة صندوق النقد الدولي بعد الحرب في معالجة اختلالات الدفع الخارجي للدول التي تمر بمصاعب في ميزان المدفوعات لديها. وجوهر هذه النظرية قائم على حجم التجارة الخارجية للدولة أي الصادرات والواردات في تحويل الإنفاق على السلع والخدمات بين السوق الداخلية والسوق الخارجية. وهكذا توصي هذه النظرية بخفض سعر العملة الوطنية لتقليص الواردات لصالح السلع المحلية ومن ثمة تشجيع الصادرات، كما توصي بتعويم العملة بناء على معطيات التجارة الخارجية فقط. وقد بدأ تطبيق هذه النظرية ببلادنا بتوصية من صندوق النقد الدولي العام 1994 فيما يعرف ببرنامج التثبيت الهيكلي وتم حينها خفض قيمة الدينار بأكثر من 40٪ واستمرت التخفيضات في اطار برنامج التعديل الهيكلي 1995-1998، وانتقل سعر صرف العملة الوطنية من 36 دينارا للدولار في 1994 الى 64 دينارا للدولار حاليا. والسؤال الذي ظل مطروحا هو الى أي حد كانت سياسة التعويم الموجه للدينار فعالة في دعم الاقتصاد الوطني من وجهة نظر التجارة الخارجية؟ وهل لازالت هذه السياسة ناجعة في الظروف الجديدة التي يمر بها الاقتصاد الوطني؟ مسار التجارة الخارجية ظلت واردات الجزائر مرتفعة من أغلب السلع الأساسية التي يجدها المواطن بالسوق بغض النظر عن قيمة العملة بسبب الطبيعة التنافسية للاقتصاد الوطني الذي يفتقد الى التنوع في مجال خلق الثروة. وفيما يخص الصادرات لا شيء منها يتأثر بسعر صرف الدينار لأنها تخص مادة غير تنافسية هي المحروقات التي تخضع لحصص الأوبك وسوقها تتصف بالمركزية من جهة وللعقود طويلة الأجل فيما يتعلق بالغاز من جهة ثانية. وبرؤية مبسطة للأمور وعند السعر المتدني لصرف العملة الوطنية تنتقل الكلفة الى الأسعار عند الاستيراد وتضطر الحكومة الى تحمل جزء من هذه التكاليف عن طريق دعم الأسعار ولكن الجزء الأكبر يتحمله المستهلك دون أن يدري أن جزءا مهما من غلاء المعيشة يعود الى تدني قيمة الدينار. وعلى ضفة الصادرات لا شيء تحقق لصالح المصدرين على سلم التنافسية بسبب ضعف بنية الصادرات خارج المحروقات ونسبتها التي لا تتعدى 2٪ من صادرات البلاد، ومن غير المفهوم اقتصاديا الاستمرار في السعر المتدني للعملة دون الانتباه الى أن ذلك لا يخدم تنافسية الاقتصاد التي من أجلها صيغت نظرية المرونات وآلية التعويم. قرارات الاستثمار يفهم من وثيقة بنك الجزائر حول آفاق سعر صرف الدينار أن السلطات النقدية في البلاد تستهدف من خلال سياسة التعويم الموجه الحالية دعم قرارات الاستثمار لدى المواطنين والأجانب الذين يعنيهم موضوع استقرار العملة مباشرة، وهو ما لم يتحقق طيلة فترة تطبيق سعر الصرف الموجه حتى أصبح معامل الارتباط بين سعر العملة الوطنية وحجم الاستثمارات الخارجية قريبا من الصفر، كما أن سعر الصرف المتدني يزيد من كلفة الاستثمار الوطني الذي يعتمد في مواده الأولية ونصف المصنعة على السوق الخارجية ولا سيما قطاعات التركيب، البناء، الصيدلة والفلاحة. كلفة تزيد في الأسعار وتقلل من التنافسية في إطار اقتصاد مفتوح وتطرد المتعامل الخاص من الاستثمار الى التجارة مستفيدا في ذلك من المزايا التنافسية للمنتوج الأجنبي. وبرؤية شاملة الى الاقتصاد الوطني، نستطيع أن نلمس الدور الذي ما تزال تتمتع به برامج الدولة في تحريك الاستثمار من خلال التدفقات النقدية وليس سعر الصرف وهي ظاهرة لا تخص الجزائر وحدها بل جميع دول منطقة النفط، حيث تتحدد قرارات الاستثمار بحجم الريع وأداء أسواق المال بعيدا عن التوقعات. وفي هذه الحالة تكون آلية السعر المتدني للعملة المحلية غير ناجعة والأفضل منها ضبط سعر الصرف على خلفية الاحتياطي من الذهب والعملة الصعبة وباستهداف تقليص الأسعار عند الاستيراد وخاصة أسعار المادة الأولية والمواد نصف المصنعة بالنسبة للمستثمرين الخواص وأسعار السلع الأساسية بالنسبة للمستهلكين. لقد كشفت آخر أرقام مالية الجزائر عن احتياطي للصرف لمس حاجز 155 مليار دولار وعن مديونية خارجية لا تتعدى 600 مليون دولار، كما كشفت تقارير دولية عن مخزون البلاد من الذهب يجعلها في الرتبة 3 عربيا، ويكشف أداء الاقتصاد عن استقرار في ميزان المدفوعات وفائض في الميزان التجاري على نحو غير مسبوق في تاريخ البلاد، وهي معطيات لا تمت لظروف 1994- تاريخ بداية التخفيض في سعر صرف الدينار- بصلة. وفي مفارقة واضحة تصر السلطات النقدية على اعتبار السعر المتدني للدينار هو السعر الحقيقي لأنه يلتقي مع مؤشر التنافسية للمدى البعيد ويتشكل ضمن سلة التجارة الخارجية للبلاد، تجارة تتطلب في بنيتها الحالية ضبطا سريعا للعملة الوطنية وإلا فقدنا مرة أخرى فرصا في الاقتصاد الوطني صنعتها معطيات جديدة قد لا تتكرر مستقبلا.