من أحسن القصص وأكثرها تأثيرا في النفس، وإثارة للإعجاب تلك القصة الرائعة، التي يمكن أن نُعنون لها بالعنوان أعلاه. وملخص هذه القصة هو أن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرج في نزهة مع صَحْبٍ له، فلما حضر وقت الغداء تفيّأوا ظلال أشجار، وأخرجوا ما كان معهم من طعام، وبينما هم يتناولون طعامهم مرّ بهم شاب مع قطيع من أغنهام، فسلّم عليهم، فقال له إبن عمر: شارِكْنا في هذا الطعام الطيب. فشكره ذلك الشاب، واعتذر عن عدم تلبية دعوة إبن عمر لأنه صائم. تعجب ابن عمر من صيام ذلك الشاب في يوم كانت حرارته تشوي الوجوه، فسأل الشاب: أتصوم في هذا اليوم القائظ، الذي لا يستطيع الإنسان أن يصبر فيه على الماء؟ فأجابه ذلك الشاب المؤمن: إنني أغتنم هذه الأيام القلائل، التي كتبها الله عز وجل لي في هذه الدنيا، لأعمل فيها ما يقيني شر ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيبا، ويَفِرُّ فيه المرء من والده وما ولد، ومن صاحبته، وأخيه... ازداد إعجاب إبن عمر بهذا الشاب الذي آثر الآجلة وَوَذَرَ العاجلة، وتغلّب على ما تهواه النفس وتتمناه، وأراد أن يبلو صدق صيامه، ودرجة فقهه، ومستوى تقواه وورَعه، فقال هل: إني أريد أن أشتري شاة من هذا القطيع، وأمنحك جزءاً منها تُفطر عليه... فكان جواب الشاب بأن الغنم ليست ملكا له، ولكنها لشخص استرعاه إياها، واستأمنه عليها، وقد أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحفظ الأمانة وأدائها إلى أهلها... فقال إبن عمر، إن هذه الغنم معرّضة لأن يصيبها سوء؛ كأن يسطو عليها لصوص، أو يأكل بعضها ذئب. اكفهرّ وجه ذلك الشاب، وجحظت عيناه وهو يسمع كلاما مناقضا لما جاء به الإسلام، ولهول ما سمع أطلق صيحة تردد صداها، ودلت على أن هذا الشاب ممن نشأ في طاعة الله، وأن إيمانه ليس قولا لا دليل عليه؛ كانت صيحة ذلك الشاب هي: فأين الله؟ ثم أدار ظهره لإبن عمر وصحبه، وذهب إلى شأنه... ما إن عاد إبن عمر إلى المدينة حتى سأل عن صاحب الغنم، وسيّد ذلك الراعي، فاستدعاه إليه، وقصّ عليه القصة، وعرض عليه مبلغا كبيرا من المال ليبيعه الراعي وما استرعاه، وذلك ما تمّ، ثم أعتق ابن عمر ذلك الراعي، ووهبه ذلك القطيع من الغنم... فكان ذلك تصديقا لقوله تعالى: »ومن يتّق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب«. وقوله سبحانه: »ومن يتّق الله يكفّر عنه سيئاته ويُعظم له أجرا«... إن أمانة هذا الراعي »الفقير« »الجاهل« سببها هو هذه التربية الإسلامية التي تربّى عليها أفراد المجتمع الإسلامي، فعَصمَتهم من أن يجيبوا داعي الشيطان، ووقَتْهُم من اتباع الشهوات، وحصّنتهم من خيانة الأمانات. وعلينا أن نقارن بين هذا الراعي »الفقير - الجاهل«، الذي لم يستجب لما عُرض عليه، وبين كثير من كبار المسؤولين الذين لا يتورّعون رغم ما يتقاضونه من مرتبات عالية عن مد أيديهم إلى المال العام، ويتورّطون في صفقات مشبوهة، ويرتشون، ثم لا يستحون فيطلون علينا في لباس النُّسَّاك، الوعّاظ، الدّالين على الخير، فيأمروننا بالمعروف ولا يفعلونه، وينهوننا عن المنكر ويقترفونه. إنّ كبار اللصوص وخَوَنَة الأمانات في العالم اليوم ليسوا أميين، وليسوا فقراء؛ بل هم يحملون أعلى الشهادات، ويتقاضون أعلى المرتبات، ولكن نفوسهم سافلة، وضمائرهم خربة، وهِمَمَهم حقيرة، وما أصدق قول المربي الكبير الإمام محمد البشير الإبراهيمي الذي يقول: »إن التربية الإسلامية قليلة التكاليف مضمونة النتائج«.