الشافع هو الذي يمشي مع صاحب الحاجة ليقضي له حاجته عند من يملكون زمامها من حكام ومسؤولين ومدراء وغير ذلك، والشافع حين يمضي في تنفيس الكربات وتيسير الصعوبات لذوي الحاجات قد يُوفق لذلك وقد لا يُوفق، فما عليه إلا أن يسعى ويتوكل على الله تعالى، وعلى الشافع أيضا أن يُحسن نيته ويبتغي بذلك الأجرَ والثواب من رب الأرباب، وليتأسَّ بمَن مَدَحهم الله سبحانه وتعالى بقوله: (إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) [الإنسان: 9]، فالأعمال بالنيات؛ وبقدر صِدْق المرء وإخلاصه واتِّباعه للسنة، وبقدْرِ نصبه وعنائه في أي أمر من الأمور الحسنة؛ يكون أجره وثوابه، فكذلك الأمر للشافع.وهذه نماذج للشفاعات الحسنة عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بريرة وزوجها، حيث أنهما كان رقيقين مملوكين فأعتق سيدهما بريرة وظل زوجها عبدا، ومن حكم الشرع في مثل هذا أن تطلق الزوجة الحرة من زوجها العبد، وإن أرادت أن تبقى معه فلها ذلك، فأما بريرة فقد رأت أن تُطلق من زوجها الذي بقي في الرقّ، فاشتد ذلك على زوجها حتى ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو له بريرة، فرَقَ النبي صلى الله عليه وسلم لحاله، فطلب من بريرة أن تراجع زوجها وقال: (لو راجعتِه؟) قالت: يا رسول الله؛ تأمرني؟ يعني إذا كان أمرا شرعيا وحكما إلهيا أراجعه، أو هو ليس بأمر شرعي حتى أختار لنفسي، فقال: (إنما أشفع). قالت: لا حاجة لي فيه.وشفاعته صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله ليوضع عنه من الدَّيْن، فقد خَرَّج البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أصيب عبد الله، وترك عيالاً ودَيْناً، فطلبت إلى أصحاب الدين أن يضعوا بعضاً من دينه فأبوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستشفعت به عليهم، فأبوا، فقال: صَنِّف تمرَك كلَّ شيء منه على حدته، عذق ابن زيد على حدة، واللينَ على حدة، والعجوة على حدة، ثم أحضرهم حتى آتيك. ففعلت، ثم جاء صلى الله عليه وسلم فقعد عليه، وكَالَ لكل رجل حتى استوفى، وبقي التمر كما هو كأنه لم يُمَس.وهذا الحر بن قيس يشفع لعمه عُيينة بن حصن في الدخول على عمر رضي الله عنه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدِم عُيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله عنه، وكان القُراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي؛ لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، فاستأذن فأذِن له عمر، فلما دخل قال: هيه؛ يا ابن الخطاب؛ فوالله ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضِب عمر رضي الله عنه حتى هَمَّ أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين؛ إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها، وكان وقّافاً عند كتاب الله.وذُكر أن الحسن بن سهل جاءه رجل يستشفعه في حاجة، فقضاها، فأقبل الرجل يشكره، فقال له الحسن: علامَ تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة؟، وفي لفظ: ونحن نرى كتبَ الشفاعات زكاة مروءتنا؟ ثم أنشأ يقول:فُرِضت عليَّ زكاةُ ما ملكت يدي * * وزكاةُ جاهي أن أُعِين وأشفعَافإذا ملكتَ فجُد، وإن لم تستطع * * فاجهد بوسعك كلِّه أن تنفعَاوليس أحد من الخلق أدى زكاة جاهه في الدنيا وسيؤديها في الآخرة مثل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك: مدحُه لحلف الفضول، وتقريره للأعمال الجليلة التي كان يقوم بها أعمامه وغيرهم، وقوله: (لو دُعيتُ إليه في الإسلام لأجبت). وما مدحته به خديجة رضي الله عنها عندما جاءها خائفاً بعد نزول جبريل عليه في غار حراء، وقال لها: (لقد خشيت على نفسي)، فقالت لتوِّها: أبشِر؛ كلاَّ والله لا يخزيك الله أبداً. ثم عللت ذلك قائلة: إنك لتصِل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمِل الكَلَّ، وتُكْسِبُ المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وفي رواية: الخير.فيا أصحاب الجاه؛ أبشِروا أن جعلكم الله واسطة بينه وبين خلقه، فأحسنوا هذه الوساطة، يا أصحاب الجاه؛ افتحوا قلوبكم، ووسعوا صدوركم لأصحاب الحاجات، قبل أن تفتحوا بيوتكم، ومكاتبكم، وجوالاتكم. يا أصحاب الجاه؛ احذروا الضيق والضجر بطالبي الشفاعات، يا أصحاب الجاه؛ لا تغبنوا أنفسكم؛ فهذه النعمة - نعمة الجاه - مغبون فيها كثير من الناس، كغيرها من نعم الله الكثيرة والآلاء العديدة.يا أصحاب الجاه وأهل المروءات؛ لا تحقروا معروفكم، لعل الله يقضي بكلمة تقولونها، أو رسالة تكتبونها، أو محادثة تفتحونها، أو بخطوة تمشونها حاجات كثيرة، ويحل عقداً، ويرد مظلمة، ويصلح أسرة، ويؤلف بين متخاصمين، ويضع عن المدينين.يا أصحاب الجاه؛ تأسّوا برسولكم صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الكرام، والسلف العظام؛ فقد كانوا يفرحون ويُسَرون بمجيء ذوي الحاجات إليهم، ويسعون في قضائها بنفْس أبيَّة، وأخلاق رضيَّة. واعلموا يا أصحاب المروءات أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأن ما عند الله خير وأبقى.يا أصحاب الجاه؛ كرروا الشفاعات، وألِحّوا في قضاء الحاجات، ولا تيأسوا إن رُدّت شفاعاتكم، فأنتم مأجورون في كل الأحوال إذا صلحت نياتكم وابتغيتم بهذا وجه الله، قُبِلت شفاعاتكم أم رُدّت.اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اللهم يسرنا لليسرى، وانفعنا بالذكرى.