تصوير: بشير زمري ...في أقل من ساعة، حولت السيول عدة مناطق بولاية غرداية الى أحياء خالية من الحياة في أول كارثة من هذا النوع منذ قرون حيث سبق أن عاشت المنطقة فيضان وادي ميزاب عام 1991 الذي خلف خسائر محدودة لعدم وجود أحياء سكنية على حوافه أو قربه، وهو ما أدى أيضا الى نجاة العائلات المجاورة عند وقوع "المساح" عام 1991 وهو نوع من الإعصار ضرب المنطقة دون خسائر مادية أو بشرية. * تضامن يولد من رحم المأساة والكارثة تمسح النعرات والخلافات * منكوبون يتحدثون: كل شيء وقع في لحظات وكانت "القيامة" * * في المناطق المنكوبة، وقفنا على سكنات منهارة، تحولت أقبيتها الى قبور أطفال وشيوخ وأخرى غمرتها المياه فحجزت سكانها فوق الأسطح ليومين كاملين، وانهارت أجزاء كبيرة من الطرقات لتكشف عيوب انجازها وتعزل غرداية عن الشمال، وكان من بين الضحايا الماشية وأيضا الحيوانات النادرة الموجودة في حديقة التسلية ...في الأحياء المنكوبة التي قمنا بزيارتها، رأيت أعوان الحماية المدنية يمتطون زوارق لإنقاذ "المحتجزين" في السطوح ويستخدمون "طناجر" لتفريغ المياه التي غمرت السكنات، ورافقنا رجال الدرك وهم يستخرجون جثث ضحايا من الأقبية ولا أزال أذكر جثة الصغير يحيى الذي توفي غرقا في قبو وكذلك رجال الشرطة وهم يسعون لتطويق الاحتجاجات، لكن ما استوقفنا هو ذلك التضامن الذي ولد من رحم المأساة بين أبناء المنطقة الذين تجاوزوا حساسياتهم وخلافاتهم وتسابقوا لإسعاف بعضهم والمجازفة أحيانا بأرواحهم ..كان ذلك وجها آخر للمأساة ...لكنه كان جميلا... * وجدنا صعوبة في معاينة الوضع عند تنقلنا الى ولاية غرداية برا مساء عيد الفطر ووصلنا المنطقة بصعوبة في حدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل وذلك بسبب الظلام الشديد وأيضا لصعوبة السير على أرض تحولت الى كتلة من الأوحال مع سقوط عديد من الأعمدة الكهربائية ذات الضغط العالي. * تنقلنا الى حي حاج مسعود حيث تقع المحطة البرية للمسافرين التي غمرتها السيول بعد أن زحفت إليها مياه الوادي المجاور، كانت هناك جذوع أشجار تم اقتلاعها بسبب قوة المياه ومواشي ملقاة هنا وهناك وهياكل سيارات تم جرها على بعد عدة أمتار، عند وصولنا في هذه الساعة المتأخرة، لم يكن هناك إلا رجال الشرطة الذين كانوا يتداولون صور حافلة تابعة لشرطة بريان جرفتها السيول ونجا الأعوان لحسن الحظ إضافة إلى عمال مؤسسة اتصالات الجزائر، كل شيء يؤكد أن إعصارا عصف بالمكان الذي كان يخيم عليه سكون رهيب يتخلله صوت مياه الوادي، الوضع لا يختلف كثيرا عن المشهد الذي عشناه قبل سنوات بحي باب الواد بالعاصمة. في الجهة المقابلة للوادي انهارت كل المساكن الواقعة على حوافه وكانت هناك فقط بقايا الجدران والأثاث وكان الوادي يجر سيارة رونو4 وعدة سيارات أخرى كانت متوقفة أمام المنازل. * على بعد أمتار، كان يجلس عدد من الأشخاص، بعضهم يضع أغطية وعلمنا لاحقا عند الاقتراب منهم أنهم أصحاب المحلات التجارية المقابلة للمحطة منها مطاعم ومقاه وقاعة انترنيت وصالون حلاقة، واكتفى أحدهم بالقول "في لحظات، فقدنا مصادر أرزاقنا". * لا شيء في المدينة كان يشير الى وجود عيد أو مناسبة، وعلق زميلي المصور الذي رافقني "الحالة ميتة"، وكانت الحركة شبه منعدمة وبدأت تدريجيا بعد رفع آذان الفجر حيث قررنا التنقل عبر الأحياء المنكوبة، بشارع الشهداء حيث غمرت المياه المنازل ومقرات أمن ولاية غرداية والمديرية الولائية للحماية المدنية وتشكلت في المداخل "مسابح" تصل الى حد الخصر، التقينا بحي بوهراوة السفلي بعائلات منكوبة كانت تتحصن بأسطح منازلها التي تضم 3 طوابق، دخلنا هذه المساكن وسط حذر من انهيارها خاصة وأن منسوب المياه تجاوز 8 أمتار، وكانت تغطي الأبواب والنوافذ وغمرت الأقبية، أحد السكان تعلق بحبل الى الأعلى وظل لساعات يصارع السقوط قبل إنقاذه من طرف جيرانه في ظل عجز أفراد الحماية المدنية عن التدخل بعد أن حاصرت المياه المداخل، ولحسن الحظ لم تخلف الكارثة هنا خسائر بشرية لكن السكان كانوا يلحون على ضرورة تفريغ المياه التي أدت الى إتلاف أثاثهم وممتلكاتهم في صبيحة كانوا فيها نياما وفروا بملابس النوم. * وأجمع من تحدثنا إليهم هنا في هذا الحي، أنهم كانوا نياما صبيحة العيد في حدود الساعة الخامسة عندما تسربت مياه الأمطار التي تساقطت بغزارة شديدة في الليل الى منازلهم "كان أمرا عاديا في البداية كأنه فيضان عادي قبل أن تفاجئنا السيول لدرجة عجزنا عن مواجهتها وركضنا الى أعلى السطح بينما اختار آخرون الفرار سباحة ..."، كانت المياه مرفوقة بصوت قوي واقتلعت الأشجار والأعمدة الكهربائية وانقطع بعدها التيار الكهربائي بصفة تدريجية وكنا نرى شرارات كهربائية قبل أن تغرق المنطقة كلية في الظلام الدامس وكنا نسمع أحيانا نداءات استغاثة وعندما طلع النهار وقفنا على المأساة الرهيبة". * وبحي 5 جويلية، وقفنا على نفس الخسائر، وأخبرنا أرباب العائلات الذين كانوا يحرسون منازلهم أنهم تمكنوا من إنقاذ نسائهم وأطفالهم بالقفز من أسطح المنازل الى الأحياء التي كانت بمنأى عن الخطر ..وسجلنا بهذا الحي انهيار سور كان يشكل حزاما للوادي، كانت قطع إسمنتية من الحجم الكبير متناثرة في كل مكان وصخور أيضا، وتضررت جميع المحلات الواقعة على ضفاف الوادي الذي جرف البنايات والطرقات والأسوار ولم يجد السكان طريقة لمواجهة "غضبه" إلا تفريغ كميات كبيرة من الرمال ووضع أكياس كسدود لمنع زحف السيول واستقرت الأحوال الجوية بعد هذه العاصفة ليستيقظ السكان على منازلهم وقد جرفتها المياه خاصة المصنوعة من الطوب وأقبية غمرتها الأوحال. * وقال السكان من كبار الحي "الحمد لله أنه لم يأت "المساح" (أشبة بالإعصار) الذي عشناه عام 1951 وإلا لكان قضى علينا جميعا" مشيرين الى ان البنايات على ضفاف الوادي أدت الى حصيلة بشرية ثقيلة. * تنقلنا إلى حي "الغابة" في حدود الساعة العاشرة من صباح الخميس رفقة أفراد الفرقة الإقليمية للدرك بغرداية وعناصر الحماية المدنية منهم غطاسون وآخرون كانوا قد قدموا من ثكنة الحميز بالعاصمة، وجدنا صعوبة في الولوج الى هذا الحي بسبب ضيق أزقته وتراكم الأوحال الى نصف الساق إضافة الى تعثرنا بسبب سقوط جذوع الأشجار وتساقط الأسلاك الكهربائية التي كانت تلامس رؤوسنا وأعترف أني شعرت ببعض التوتر وأنا أسير على أكوام من الأوحال عندما أفكر أن أشخاصا قد يكونون جثثا في الأسفل، وفي تلك الأثناء، اقترب شباب من الحي ليبلغوا أفراد الدرك وأعوان الحماية المدنية أنهم بصدد البحث عن صبية في الثانية من عمرها فقدت أثناء الفيضان، وأخبرنا شاب أن عديدا من المتطوعين قاموا باستخدام جذوع الأشجار وربطها بالحبال لنقل الأطفال والشيوخ والنساء وأعدوا أيضا ألواحا كقوارب للسباحة "كأننا في رسوم متحركة"، يقولها لكن دون مزاح، ويضيف أنه أثناء عمليات الإنقاذ "تم إطلاق رصاصة "بارود" لإعلام المواطنين بفيضان الواد مجددا ليفر الجميع لكن الأمر كان إشاعة فقط لتتأجل عملية البحث عن الصغيرة سكوتي الى غاية الآن وتم تجنيد كلب بوليسي مختص في البحث البشري لكن دون جدوى ... * * "الشروق" تحضر عملية انتشال جثة يحيى من "الغابة" * * وتكون الساعة قد تجاوزت الساعة الحادية عشر عندما وصلنا الى "البدايع" ويقصد بها السكنات التي يلجأ إليها أصحابها في "موسم الاصطياف"، حيث تم تشييدها بطريقة تجعلها "باردة" لكن يلاحظ محدثونا انه بسبب أزمة السكن في السنوات الأخيرة، أصبح السكان يقيمون في هذه المنازل بصفة دائمة وتحولت الأقبية التي كانت تستخدم لتخزين المؤونة لفصل الصيف كسكنات وهو ما ينطبق على حالة الصغير عداود يحيى البالغ من العمر 5 سنوات الذي تم انتشال جثته من "القبو" بعد أكثر من ساعتين من تفريغه من المياه والأوحال باستخدام مضخة كهربائية، وسارع أهله الى لفه بقماش أبيض بعيدا عن الفضوليين تحت صيحات جماعية "الله أكبر" تقشعر لها الأبدان ...يحيى حسب رواية عمه ل"الشروق"، كان نائما مع والدته ووالده وإخوته في السكن الواقع في القبو، وعندما اكتشف العم تسرب كميات كبيرة من الأمطار الى البيت مرفوقا بالأحوال سارع الى إنقاذ أفراد العائلة، "ولم يسمح الوقت بإنقاذ يحيى بعد أن غمرت المياه المكان"، وكان يجب أن يتدخل أهالي الحي لتنظيف المسكن من الأوحال والمياه، وكان أفراد الحماية المدنية قد استخدموا في وقت سابق وسائل تقليدية باستخدام قدر مربوط بحبل لاستخراج المياه من القبو وقاموا بالغطس في الماء البارد عاريي الصدر وعلمنا لاحقا بوصول تعزيزات أمنية وتجهيزات متطورة منها قوارب ومضخات لتسهيل عمليات الإغاثة والإنقاذ. * قضينا يومين كاملين ونحن نتجول بين الأحياء المنكوبة بغرداية، تقاسمنا مخاوفهم وحالة الفزع التي أثارتها إشاعات تفيد بفيضان واد ميزاب مجددا، أغلبهم غادروا مساكنهم باتجاه رأس الجبل وتقاسمنا معهم أيضا "الجوع" بسبب ندرة مادة الخبز بسبب انقطاع التيار الكهربائي، لقد قمنا بعملية "تمشيط" للمنطقة بحثا عن مقهى لتناول فنجان قهوة أو شاي ومحل لبيع الخبز دون جدوى، واستغل بعض التجار الانتهازيين المأساة لرفع الأسعار في ظل تأخر المساعدات التي كانت تصل تدريجيا مما أثار غضب المنكوبين الذين خرجوا للشارع بحي سيدي عباز، وبلهروة، وتجمعوا أيضا بمقر الولاية مطالبين بالاستعجال بالتكفل بهم مؤكدين أنهم يتناولون ماء وسكرا فقط، وكانوا يحتفظون بملابسهم المبللة ودون أحذية أو نعال ... السيول مرت على غرداية، فكانت الكارثة.