بعد الرسائل المفتوحة الموجهة إلى الوالي والوزير، والصرخة الموجهة إلى رئيس الجمهورية، عرفت الجزائر قفزة نوعية في طريقة تقديم المطالب، حيث دخلت مرحلة الرسائل الموجهة إلى أهل النفوذ الحقيقيين وأصحاب القرار الذين لا ترد دعواهم. * * وقد اختارت مجموعة من النساء من مدينة غليزان أن توجهن نداء إلى القرضاوي ليساعدهن على تجنب عقبة قانونية. وقالت تلك النساء إنها تطلب تدخل القرضاوي لدى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة حتى تتراجع الإدارة ولا تفرض عليهن نزع الخمار عند التقاط الصورة التي يفرضها القانون لاستخراج بطاقة التعريف وجواز السفر. وتعتبر تلك النساء أن هذا الإجراء القانوني مخالف لاعتقاداتهن، وطالبن بإلغائه، اللهم إلا إذا تكرّم الشيخ وأصدر فتوى تبيح لهن إزالة الخمار من أجل الصورة... فالقرضاوي معروف أنه يوزع الفتاوى مثلما يوزع السيد جمال ولد عباس الوعود... * لماذا اختارت تلك المجموعة من النساء أن تسأل القرضاوي؟ لأنه داعية معروف، ولأنه يحظى باحترام وصداقة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وتعتقد تلك المواطنات أن الجاه والتقرب من السلطة بواسطة شخصيات معروفة أفضل من التمسك بالقانون وأفضل من النضال لمطالبة صانعي القانون أن يعيدوا النظر في نصوصهم. * ولا مجال للحديث هنا عن طبيعة المطلب، ولا مجال للجدال حول المبررات التي تتبعه، ولا مجال للكلام عن المبررات التي فرضت هذا الإجراء... إن مثل هذه الملفات لا تفتح بابا للنقاش... بل أنها متعبة. لكن ما يثير الانتباه هي تلك النزعة التي انتشرت في المجتمع الجزائري، والتي تدفع الناس إلى البحث عن حلول في غير محلها. فعائلة المريض مثلا لا تطلب من الطبيب أن يجتهد ليشفي ابنها، بل نجد أنها تتجه لذوي المال ليتبرعوا من أجل دفع تكلفة العملية الجراحية... ولا يطلب المواطن من الحزب أو النائب في البرلمان تغيير قانون يعتبره مجحفا، لكنه يتوسط بشيخ الزاوية أو أحد أعيان القرية للحصول على مطلبه بصفة مخالفة للقانون... * لكن الإنصاف يفرض ألا نلوم المواطن، أو لا نلومه لوحده، لأن تصرفه يتطابق مع تصرف السلطة التي شجعت هذه الطريقة الملتوية في تسيير قضايا البلاد. وقد عملت السلطة جادة لتمنع ظهور أي تنظيم عصري، سواء حزبٍ أو نقابة أو جمعية مستقلة يمكن أن يتكفل بانشغالات المواطنين. وإلى جانب عدائها للمنظمات العصرية، فإن السلطة اجتهدت في نفس الوقت لتشجيع وسطاء وتنظيمات تعمل خارج المؤسسات الرسمية، من أعيان وأعضاء الزوايا ونشطاء دون حزب ولا تنظيم معروف. * ولما وقعت أزمة في منطقة القبائل مثلا، لم تكتف السلطة برفضها محاورة الأحزاب والتنظيمات التي كان لها حد أدنى من النفوذ من أجل احتواء الأزمة، بل ذهبت إلى اختلاق تنظيم جديد وغريب أعطى نفسه تسمية »العروش«، وجعلت منه الممثل الشرعي والوحيد للمنطقة قبل أن تدفنه دون جنازة. وفي غرداية، رفضت السلطة أن تتعامل مع التنظيمات التي تنتمي إلى مؤسسات الجمهورية، وراحت تحاور كلّ من أعطى نفسه صفة الوسيط... * هذه النزعة إلى التخلي عن المؤسسات الرسمية وعن المتعاملين الذين ينشطون في شفافية تامة، واللجوء إلى »أعيان« لهم عين على أموال الناس، هذه النزعة دفعت بطبيعة الحال الكثير من المتطفلين إلى فرض وجودهم كوسطاء يكلفون أنفسهم بمهام لا دخل لهم فيها. ولعل هذا ما دفع مثلا رئيس إحدى منظمات أرباب العمل إلى طلب الحكومة أن تناقش قانون المالية مع أرباب العمل... * لكن هل نلوم هذا الرجل الذي يريد مناقشة قانون المالية في مكان النواب الذين من المفروض أنهم يمثلون الشعب، هل نلومه ونحن نعرف أن السلطة لا تعترف بوجود الشعب، ولا تعترف بممثليه، ولا تسمح لهم أن يناقشوا قانون المالية؟ هل نلومه لما تتحول السلطة نفسها إلى مهرج إشهاري لصالح الزاوية القرضاوية على حساب المؤسسات الرسمية؟ * * النداءات المبحوحة * مازال المتدخلون في الشأن الاقتصادي الوطني يحذرون منذ فترة من انعكاسات الأزمة الاقتصادية على الوضع في الجزائر وأن إحلال الواردات بالشكل الناجع لن يكون خارج حفز القطاع الوطني المنتج، ومازلنا منذ فترة ندعو إلى تخفيض حصة الواردات من التجارة الخارجية للدولة ليس كاختيار اقتصادي فحسب، بل وكأداة فنية لوقف نزيف العملة الصعبة وأكثر من ذلك اقترحنا سقفا للواردات لا يزيد عن 27 مليار دولار في المدى القصير. وبعضنا ظل يركز على أخلقة النشاط الاقتصادي وإدراج المنظومة الاقتصادية الوطنية ضمن القيم الاجتماعية وفسح المجال أمام أدوات التمويل الإسلامي عالي النجاعة، واستغلال البحبوحة المالية الحالية في دعم المؤسسة بصورة مباشرة في القطاعات التي نملك فيها مزايا نسبية وهي عديدة، وظلت النداءات متكررة من أجل تطهير القطاع التجاري من أشباه المتعاملين الاقتصاديين، وتطهير الإدارة من المتسببين في هدر المال العام ولكنها نداءات غالبا ما تصطدم بغياب معايير المساءلة لتظل نداءات مبحوحة إلى أجل. * صحيح أن السلطات العمومية بذلت مساعٍ معتبرة في هذا الاتجاه، سواء ضمن المخطط التوجيهي لدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، أو المخطط المدير للنهوض بقطاع السياحة أو ضمن المراسيم التنفيذية لحماية الأراضي الفلاحية واستغلال العقار الموجه للاستثمار أو ضمن الصناديق المختلفة لتنمية الهضاب والجنوب أو ضمن برنامج دعم النمو. ولكن لا أحد يستطيع أن يغمض عينيه عن التجاوزات التي طالت القطاعات المختلفة والاختلال في متابعة تنفيذ البرامج واستغلال المال العام في تشكيل البرجوازية الجديدة بالشكل الذي أفقد الخطاب الرسمي مصداقيته وأفرغ بعض تلك البرامج من بعض نجاعتها.