يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة إن المغلوب يحاول دائما أن يقلد الغالب أو بالأحرى يتماهى معه، بحيث يصبح الأخير مثلا يُحتذى بالنسبة للأول. وإذا نظرنا إلى الوضع العربي من المحيط إلى الخليج نرى أن نظرية ابن خلدون ما زالت حية ترُزق. فمن سخرية القدر أن معظم الأنظمة العربية التي تناصب إسرائيل العداء تقتدي بالنظام الإسرائيلي، لا بل تتماهى معه بطريقة لا تخطئها عين. فبدلا من نبذ المثال الصهيوني بوصفه مرفوضا كعدو، نرى، على العكس من ذلك، أن العرب الذين من المفترض أنهم يمقتون إسرائيل ونظامها، يتشبهون أو يحاكون النهج العبراني من ألفه إلى يائه. * من المعروف أن الصهيونية ترفع شعار أن اليهود هم شعب الله المختار، وأنه يحق لهم ما لا يحق لغيرهم من الشعوب. إنها نظرة غارقة في العنصرية. لكن مع ذلك نرى أن معظم الأنظمة العربية يعمل بنظرية "الشعب المختار". هل يستطيع أحد أن ينكر أن هناك شعبا مختارا غير معلن أحيانا، ومعلناً على رؤوس الأشهاد أحيانا كثيرة في العديد من الدول العربية؟ هل البلاد العربية دول لكل مواطنيها؟ يحاجج الكثيرون أن الدولة العبرية دولة عنصرية قلبا وقالبا، وهي دولة اليهود فقط بالرغم من أن هناك أكثر من مليون عربي يحملون جوازات سفر إسرائيلية ولديهم الحق في أن يكونوا مواطنين من الدرجة الأولى، لكنهم ليسوا كذلك بسبب تشبث النظام الإسرائيلي بنظرية "الشعب المختار" العنصرية. * * كيف يختلف الوضع في العديد من الدول العربية عما هو في إسرائيل؟ ألم تصبح الدولة العربية التقليدية لبعض بعض مواطنيها فقط؟ ألا يعيش السواد الأعظم ممن يُسمون مواطنين عربا نظريا، كما لو كانوا من الدرجة العاشرة، إن لم نقل غرباء في أوطانهم؟ ألم يصبح شعار الدولة العربية "خيار وفقوس" تماما كما هو في الدولة العبرية، يهود وأغيار؟ أليس هناك طبقات حاكمة بطريقة أقرب إلى العنصرية فيما يُسمى بوطننا العربي؟ ففي العديد من بلداننا هناك احتكار عنصري للسلطة، ويكاد يكون الحكم محصورا في دوائر محدودة جدا منذ زمن بعيد. ألا تستأثر تلك الدوائر الضيقة جدا بالحكم سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، كما لو كانت مختارة من الله عز وجل، وكأنها تقول لنا: "نحن المختارون". لقد صادرت الجماعات أو الطغم العربية المختارة كل مقدرات الأمة، كما لو كانت تعتبر نفسها وصية عليها بإذن إلهي، ولا نكشف سرا إذا قلنا إن تلك الطبقات تعتبر نفسها ظل الله على الأرض، ولا حق لغيرها مجرد التفكير بالحلول محلها، وكل من يحاول الاقتراب منها مصيره الاختفاء خلف الشمس. * * ألا تضفي بعض الأنظمة العربية على نفسها طابعا مقدسا زورا وبهتانا لإقناع شعوبها بأنها مختارة من الله كي تحكم إلى ما شاء الله؟ فمنها من يدعي أنه من نسل الأنبياء أباً عن جد، ومنها من اخترع مؤسسة دينية كي تمنحه شرعية شبه مقدسة، ومنها من أطلق اسم عائلته على الدولة بحيث أصبح اسمها من اسمه (إسرائيل بالمناسبة هي إحدى الدول القليلة جدا في العالم التي تحمل اسم شخص (النبي إسرائيل)، ومنها من يحكم برداء ديني حتى لو زعم عكس ذلك وارتدى بزة أوروبية أنيقة وربطة عنق حديثة. أما الذين لا يزعمون الانتماء إلى نسل مقدس، فقد أضفوا قداسة من نوع ما من صنع أيديهم على شخوصهم وأنظمة حكمهم؟ ألم يصبح أسهل ألف مرة مثلا أن تسب الذات الإلهية من أن تنبس ببنت شفه ضد هؤلاء الحكام "المختارين"؟ ألم يصل الحد ببعض المطبلين والمزمرين لهذا الحاكم أو ذاك أن يُتبعوا اسمه بعبارة "رضي الله عنه"؟ (استغفر الله العلي القدير) وعندما يقوم البعض باتهام الأنظمة العربية بأنها أصبحت شبه مقدسة يردون عليك في الحال بطرح معاكس: قبل أن تنتقد أنظمتنا انظر إلى الدولة العبرية العنصرية التي تقوم على أساس ديني وترفع شعار "شعب الله المختار" ومن ثَم تدعي أنها دولة ديمقراطية! لا أحد يمكن أن يشكك في هذا الكلام، فالكل يعرف أن إسرائيل كيان عنصري بعيد عن الديمقراطية بعد الأرض عن الشمس، لكن هل يعني هذا أن نتماهى معها ونحاكي نظامها؟ إن لسان حال أنظمتنا العربية يقول: بما أن عدوتنا اليهودية هكذا فلا بأس أن نقلدها! * * ومن المقولات الدارجة الأخرى حول طبيعة الكيان الصهيوني أنه إذا كان هناك جيش لكل دولة في العالم، فإن إسرائيل هي عبارة عن جيش خلقوا له دولة، أي أن الدولة العبرية ليست أكثر من ثكنة عسكرية، إن لم نقل إنها مجتمع عسكري قلبا وقالبا تمت فيه عسكرة معظم نواحي الحياة. فكل سكان هذا الكيان هم عبارة عن جنود احتياط يجب أن يكونوا مستعدين في أي لحظة للالتحاق بساحة المعركة. ولا ننسى أيضا أن أغلبية رؤساء وزراء إسرائيل منذ قيامها هم من العسكريين، إلا ما ندر. وهذا صحيح تماما. لكن هل يختلف الوضع كثيرا في الدول العربية؟ أليس هناك شبه عسكرة للكثير من المجتمعات العربية، حتى وإن لم تكن في حالة حرب؟ ألا تلعب المؤسسة العسكرية دورا قياديا بارزا في العديد من الدول العربية، حتى تلك البعيدة عن ساحة الصراع مع الكيان الصهيوني؟ ألا تتغلغل المؤسسة العسكرية في الكثير من مناحي الحياة العربية؟ كم عدد وزراء الدفاع العرب الذين تغيروا حتى الآن؟ ألا يجثمون عل صدر وزاراتهم حتى آخر رمق؟ ألا يُمسك الجنرالات بتلافيف الحياة السياسية في الكثير من البلدان العربية من خلف الكواليس؟ أليس القطاع العسكري هو الأهم من كل القطاعات العربية الأخرى؟ قد يتفهم المرء ذلك في بلدان المواجهة مع إسرائيل، فهي بأمس الحاجة لجيش قوي للذود عن حياض الوطن ضد العدو، لكنه غير مفهوم أبدا في البلدان العربية البعيدة عن خط المواجهة مثل دول المغرب العربي واليمن وغيرها. ألا يعتمد العديد من الأنظمة العربية على الجيش لحماية نفسها وضبط المجتمعات التي يحكمونها؟ لكن ما أن تسأل مثل هذا السؤال حتى يقولوا لك: انظر إلى الكيان الإسرائيلي، أليس كيانا عسكريا بامتياز؟ فبما أن إسرائيل مجتمع مُعسكر، فلا ضير أن نكون نحن كذلك أيضا عملاً بنظرية التماهي مع الغالب. * * ومن المعروف عن اليهود أيضا أنهم يلاحقون كل من يعاديهم حتى أقاصي الدنيا ويسخّرون كل طاقاتهم للجم خصومهم بشتى الوسائل. ألا يمتلكون مراكز خطيرة كمركز "ويزنتال" مهمته تحري ما يُسمى بأعداء السامية في مختلف أصقاع العالم؟ انظر ماذا فعلوا بالمفكر الفرنسي الشهير روجيه غارودي لمجرد أنه شكك في عدد اليهود الذين ماتوا في المحرقة النازية! لقد لاحقوه قضائيا في فرنسا وشوهوا سمعته وشرشحوه وحاولوا إخماد صوته. كما فعلوا الشيء نفسه مع غيره من المؤرخين الذين طالبوا بإعادة النظر في تاريخ الحرب العالمية الثانية. وهل ننسى الضجة الكبرى التي أثارها الصهاينة ضد مسلسل (فارس بلا جواد) لمجرد أنه تطرق إلى بروتوكولات حكماء صهيون؟ فكل من ينتقد إسرائيل يصبح في نظرهم معاديا للسامية. إنها تهمة جاهزة دائما وأبدا، وتذكرنا بآلتهم الجاهزة التي تستخدمها الأنظمة العربية ضد معارضيها وخصومها، فكل من يحاول الوقوف في وجهها فهو خائن، فإذا كانت الصهيونية تستخدم تهمة معاداة السامية فإن الأنظمة العربية تقذف كل من يعارضها فورا بالخيانة. إنه نفس الأسلوب تقريبا، حتى وإن اختلف المحتوى. فالمكارثية الصهيونية تجد صدى لها في المكارثية السياسية العربية التي تسخر كل أجهزتها ووسائلها لملاحقة المغضوب عليها أينما كانوا، ولا تتوانى في التضييق عليهم وأحيانا تصفيتهم تماما، كما تفعل الأجهزة الصهيونية، فكما أن الصهاينة لا يتحملون كلمة واحدة ضدهم، فإن العديد من الحكومات العربية ليست مستعدة لتقبل مجرد نقد بسيط من مواطن يائس. الاثنان في غاية الحساسية تجاه أي نقد. وإذا اتهمت الأنظمة العربية بأنها غير ديمقراطية ولا تقبل بالرأي الآخر تقول لك فورا انظر إلى الصهاينة، فهم يلاحقون منتقديهم في كل أنحاء المعمورة، إنهم يخمدون أي صوت يرتفع ضدهم فلا تعيرونا إذن بأننا غير ديمقراطيين، اليهود ليسوا أحسن منا. أليست هذه عقلية التماهي مع الغالب بأبشع صورها؟ * * من الذي خلق ما يُسمى باللوبيات أو جماعات الضغط في العالم؟ أليسوا الصهاينة؟ فقد أصبح لديهم لوبي ضاغط ومؤثر في معظم بلدان العالم تقريبا، وخاصة في أمريكا وأوروبا. ومهمة هذا اللوبي طبعا الاستئثار بكل شيء لصالح إسرائيل مهما تعارض حتى مع مصالح الدول المضيفة، فما بالك بالدول الأخرى؟ إنها أسوء أنواع الشللية الماسونية الخطيرة في التاريخ. هل يختلف الوضع لدينا في العالم العربي؟ بالطبع لا. فقد راحت بعض الجماعات العربية تحاكي اللوبيات الصهيونية تماما. فكما أن للصهاينة جماعات اقتصادية وإعلامية مؤثرة جدا في العديد من أنحاء العالم، فإنه أصبح هناك جماعات تحتكر الحياة الاقتصادية من ألفها إلى يائها في العديد من البلدان العربية عملا بنظرية جماعات الضغط الصهيونية. ويطلق البعض على تلك الجماعات العربية "لوبي البزنس" الذي يتغلغل كالسرطان في ثنايا الحياة العربية السياسية منها والاجتماعية والثقافية. فهو مرتبط إلى حد كبير بدوائر صنع القرار، ويساهم بقوة في وضع السياسات الداخلية والخارجية لصالحه أولا قبل صالح الأوطان والشعوب، تماما كما يحدث في أمريكا، حيث تتقدم مصلحة الصهاينة على مصلحة الشعب الأمريكي. فلا تغرنك الشعارات الديمقراطية التي يتشدقون بها في بلاد العم سام! فهي للاستهلاك المحلي والخارجي أولا وأخيرا. فمصلحة أصحاب النفوذ وجماعات الضغط أهم من مصلحة كل الشعب الأمريكي دون استثناء. وهكذا الأمر بالنسبة للجماعات الاقتصادية والتجارية العربية التي راحت تتحكم بمفاصل الحياة العربية ضاربة عرض الحائط بمصالح الأوطان والشعوب على حد سواء. فلا داعي للكشف عمن يُمسك بزمام المسائل التجارية والاقتصادية الحساسة في بلداننا العربية. فهم أشهر من نار على علم حتى لو اختبأ بعضهم وراء الكواليس، وظلوا بعيدا عن الأنظار عملا بنصيحة اللوردات الإنجليز الذين تبدو منازلهم عادية جدا من الخارج، لكنها عبارة عن جنات عدن من الداخل. والهدف طبعا إبعاد أعين الحساد والثوريين عن تلك المنازل. * * ألا يمكن أن نسمي هذه المحاكاة الرهيبة للعدو تماهيا تاما بعد كل ذلك؟ ألم يصب ابن خلدون كبد الحقيقة عندما تحدث عن ثقافة تقمص المغلوب لطبائع الغالب؟ أم أن الأمر أصبح بالنسبة لنا نحن العرب أخطر من مجرد التماهي والتقليد للمنتصر؟ هل أخطأ أحدهم عندما قال إنه أصبح لدينا الآن عدوان خطيران، الأول خارجي معروف للجميع، وأخر داخلي يقلد الخارجي في كل شيء تقريبا؟